"تنظيم ديني سري عمره ألف عام نشأ على أرض عربية بهدف القضاء على الإسلام"، جاء قرار البابا فرنسيس بحل قيادة ما يعرف باسم "دولة فرسان مالطا"، ليلقي الضوء على هذا التنظيم الذي لديه صفة دولة مع تاريخ طويل ودامٍ ومكانة غربية في القانون الدولي، حتى إن البعض يزعم أنهم يديرون العالم.
وفرسان مالطا كيان مختلف عن دولة مالطا، رغم تشابه الاسم (وهناك بالفعل ارتباط تاريخي بينهما)، وهي دولة بلا أرض اشتهرت بمذابحها ضد المسلمين خلال الحروب الصليبية، وتاريخها السري، وقيادتها الغامضة شبه المستقلة.
وجاء قرار البابا فرانسيس بابا الفاتيكان، الذي صدر السبت الماضي عبر مرسوم يتضمن حل قيادة فرسان مالطا ووضع دستور جديد لهذا التنظيم الذي يشبه الدولة، وذلك بعد خمس سنوات من الجدل الحاد في كثير من الأحيان داخل التنظيم، خاصة بين بعض كبار أعضاء الحرس القديم به والفاتيكان حول الدستور الجديد الذي يخشى البعض أن يضعف سيادة فرسان مالطا، حسبما ورد في تقرير لوكالة Reuters.
والمجموعة، اسمها الرسمي "نظام السيادة العسكري لفرسان مستشفى القديس يوحنا الأورشليمي في رودس ومالطة"، حسبما ورد في تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، ولقد تأسست في القدس منذ ما يقرب من 1000 عام لتقديم المساعدة الطبية للحجاج في الأرض المقدسة، ثم تحولت إلى مجموعة قتالية اشتهرت بعنفها قبل أن تعود للعمل الخيري مجدداً، حسب المصادر الغربية.
ولدى فرسان مالطا علاقات مع العديد من الدول كدولة وهي عضو مراقب في الأمم المتحدة، رغم أنها ليست لها أرض، ولديها ميزانية بملايين الدولارات، و13 ألفاً و500 عضو، و95 ألف متطوع و52 ألف موظف طبي يديرون مخيمات للاجئين، ومراكز العلاج من تعاطي المخدرات، وبرامج وعيادات الإغاثة في حالات الكوارث في جميع أنحاء العالم.
ومع أنها تركز الآن على الأعمال التطوعية الخيرية، فإن كثيرين يرون أنها تمثل حكومة خفية تحكم العالم، فيما ربطت تقارير غربية أكثر مصداقية بينها وبين شركات تجنيد المرتزقة الأمريكية، وخاصة شركة "بلاك ووتر"، التي اتُّهمت بارتكاب فظائع خلال فترة الاحتلال الأمريكي للعراق.
صحفي مخضرم يقول إن قادة بالجيش الأمريكي أعضاء بالتنظيم ويعتبرون أنفسهم صليبيين
في عام 2011، قال الصحفي المخضرم سيمور هيرش، الذي يعد واحداً من أشهر صحفيي التحقيقات الأمريكيين، إن قيادة العمليات الخاصة المشتركة للجيش الأمريكي (JSOC) قد اخترقها متعصبون مسيحيون يعتبرون أنفسهم صليبيين في العصر الحديث ويهدفون إلى "تحويل المساجد إلى كاتدرائيات"، حسب تعبيره.
وزعم أن رئيس قيادة العمليات الخاصة المشتركة السابق الجنرال ستانلي ماكريستال -القائد الأمريكي لاحقًا في أفغانستان- وخليفته، نائب الأدميرال ويليام ماكرافين، بالإضافة إلى العديد من كبار القادة الآخرين في قيادة الجيش الأمريكي، "جميعهم أعضاء، أو على الأقل من أنصار فرسان مالطا"، حسبما نقلت عنه مجلة Foreign Policy الأمريكية.
وعندما اتصلت Foreign Policy بالجنرال الأمريكي ستانلي ماكريستال، قال إنه ليس عضواً بفرسان مالطا.
وبصرف النظر عن صحة هذا الكلام من عدمه، فإن تاريخ فرسان مالطا ووضعهم الشاذ في السياسة الدولية أثار نصيباً من نظريات المؤامرة على مر السنين.
وهناك بالفعل تصرفات مريبة مثبتة مرتبطة بفرسان مالطا، ففي عام 1988، اعترف القائم بالأعمال في سفارة أمريكا في كوبا بأنه عميل مزدوج، يقدم تقارير إلى كل من وكالة المخابرات المركزية والمخابرات الكوبية.
حقيقة علاقة فرسان مالطا بشركات المرتزقة والاستخبارات الأمريكية
وعلقت المجلة الأمريكية قائلة: "لا توجد أدلة كثيرة تشير إلى أن فرسان مالطا هم العصابة السرية للأصوليين المعادين للمسلمين- حسب وصف هيرش".
ولكن بسبب إجراءات هذا التنظيم السرية ووضعه السياسي الغريب وارتباطه بالحروب الصليبية، كان النظام هدفاً شائعاً لمنظري المؤامرة. من بين الأعضاء المزعومين مديرو وكالة المخابرات المركزية السابقون ويليام كيسي وجون ماكون، ورئيس شركة كرايسلر لي إياكوكا، وبات بوكانان، السياسي المهم في الحزب الجمهوري، على الرغم من أن أياً منهم لم يعترف بالعضوية.
وبالتأكيد ارتبط اسم فرسان مالطا بشركات تجنيد المرتزقة الأمريكية، خاصة شركة بلاك ووتر، رغم الاختلاف حول دقة هذه المزاعم.
ووصف تقرير لموقع "aftermathnews" الأمريكي فرسان مالطا بأنهم مليشيا البابا، ويقسمون على الطاعة التامة بقسم الدم الذي يؤخذ على محمل الجد ويؤدي إلى الموت، وذلك نقلاً عن موسوعة الماسونية وعلومها".
وتزعم بعض هذه التقارير بأنه مثل شركة بلاك ووتر، فإن منظمة فرسان مالطا "لا يمكن المساس بها" لأنها تقع في قلب الطبقة الأرستقراطية الغربية النخبوية.
وربطت نظريات مختلفة الفرسان بجرائم من بينها اغتيال كينيدي وانتشار فيروس الإيدز عبر عياداتها في إفريقيا.
وبعد غزو العراق، وخاصة بعد كشف الصحفي سيمور هيرش لجرائم شركة "بلاك ووتر"، نشرت تقارير صحفية في دول عربية وغربية تقول إن فرسان كانوا يؤثرون بشكل مباشر على سياسة الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، مستذكرين دورهم في الحروب الصليبية؛ مما دفع التنظيم لإصدار بيان ينفي أي دور عسكري له.
ووفقاً لكتاب "بلاك ووتر" للصحفي الأمريكي جيريمي سكاهيل، فلقد تباهى جوزيف شميتز، المدير التنفيذي السابق في الاستخبارات المركزية الأمريكية والذي شغل أيضاً منصب المفتش العام لوزارة الدفاع الأمريكية، بعضوية الفرسان في سيرته الذاتية الرسمية.
ويقال إن مقاول الدفاع الأمريكي المعروف إريك برنس (رئيس شركة مرتزقة)، اعتنق معتقدات تفوق المسيحية، واستخدم أعضاء شركته في العراق رموزاً وشارات تستند إلى أبناء هذه الجماعة في العصور الوسطى، وفرسان الهيكل (جماعة مشابهة يفترض أنها اختفت). ومع ذلك تقول مجلة Foreign Policy، إنه لا يوجد دليل يشير إلى أن فرسان مالطا كان لهم أي تأثير مباشر على شركة بلاك ووتر.
كيف نشأ تنظيم فرسان مالطا؟ البداية بموافقة المسلمين
منظمة فرسان مالطا العسكرية المستقلة (SMOM)، هو نظام ديني كاثوليكي ذو طبيعة عسكرية مقره في روما، وعلى الرغم من أنه لا يمتلك أي أرض، إلا أنه غالباً ما يُعتبر كياناً ذا سيادة بموجب القانون الدولي، لأن لديه علاقات دبلوماسية مع العديد من البلدان.
ويقود فرسان مالطا أمير منتخب وسيد كبير، وشعارها هو (الدفاع عن الإيمان ومساعدة الفقراء)، ويتركز دورها المعاصر إلى حد كبير على تقديم المساعدة الإنسانية والمساعدة في العلاقات الإنسانية الدولية.
ويعود تاريخ ولادة فرسان مالطا إلى ما يعرف بفرسان الإسبتارية أو فرسان القديس يوحنا الذين نشأوا في عام 1048 أي قبل بداية الحروب الصليبية بنصف قرن، عندما حصل تجار من جمهورية أمالفي البحرية القديمة (مدينة تقع في إيطاليا حالياً) من الخليفة الفاطمي على الإذن ببناء كنيسة ودير ومستشفى في القدس لرعاية الحجاج من أي عقيدة أو عرق ديني.
عندما بدأت الحملات الصليبية وأسس الصليبيون مملكة القدس في فلسطين بعد احتلالهم المدينة وارتكابهم مذبحة بشعة في المسجد الأقصى، تحولت المنظمة من كيان يراعي الحجاج إلى تنظيم قتالي، وكلفت من قبل بابا روما بوظيفة عسكرية إضافية تتمثل في الدفاع عن المحتلين الصليبيين.
في عام 1113 ميلادية، وافق البابا باشال الثاني على تأسيس المستشفى ووضعه تحت رعاية الكرسي الرسولي، ومنحه الحق في انتخاب رؤسائها بحرية دون تدخل من السلطات العلمانية أو الدينية الأخرى.
وقيل: إن الفضل في بقاء مدينة القدس في يد الصليبيين لنحو 80 عاماً، يعود بالأساس إليهم "فرسان الهوسبتاليين"، وغيرهم من التنظيمات الدينية الكاثوليكية مثل تنظيم "فرسان المعبد".
عندما استعاد المسلمون القدس وبعد تحرير الشام من الصليبيين عام 1291، ذهب فرسان القديس يوحنا كما كانوا يعرفون إلى المنفى في قبرص؛ حيث استمروا في مهاجمة سفن المسلمين ثم استقروا في جزيرة رودس (الآن تابعة لليونان)، حيث حكموها، حتى سقطت في أيدي العثمانيين خلال الفترة بين 1522-1523، فانتقلوا بعد ذلك إلى جزيرة مالطا في غرب البحر المتوسط ومنها أخذوا اسمهم الحالي، حيث حكموا حتى هزيمتهم أمام نابليون بونابرت عام 1798، حسب موسوعة Britannica.
في 8 سبتمبر/ أيلول من كل عام، تحتفل جزيرة مالطا بذكرى رد الحصار العثماني عنها، على يد "فرسان القديس يوحنا" قبل نحو 400 سنة، يمثل ذلك التاريخ ذروة عصر القوة للجماعة التي نعرفها اليوم بـ"فرسان مالطا".
المنظمة تصبح أمريكية العضوية
في عام 1834، انتقلوا إلى مقرهم الحالي في روما، حيث لا يزال التنظيم قائماً حتى يومنا هذا.
ويقول تقرير Foreign Policy إنه على الرغم من اسمها، لم يكن للفرسان أي وظيفة عسكرية منذ مغادرة مالطا. وبدلاً من ذلك، عادت المجموعة إلى جذورها الخيرية من خلال رعاية البعثات الطبية في أكثر من 120 دولة.
لا تزال عضوية المجموعة عن طريق الدعوة فقط، في السنوات الأخيرة، أصبحت المنظمة أمريكية بشكل متزايد في العضوية. ويُنتخب قائد التنظيم، الذي يُشار إليه باسم الأمير والسيد الأكبر، مدى الحياة في سرية سرية ويجب أن يوافق عليه البابا.
إنها تصدر جوازات سفر وتسك عملاتها الخاصة
وعلى الرغم من عدم وجود أرض ثابتة باستثناء مبنى المقر الرئيسي في روما وقلعة في مالطا، تعتبر مجموعة فرسان مالطا كياناً ذا سيادة بموجب القانون الدولي، وتتمتع بوضع مراقب في الأمم المتحدة، والتي تصنفها على أنها كيان غير حكومي مثل الصليب الأحمر؛ مما يسمح لها بالعمل كطرف محايد في جهود الإغاثة في مناطق الحرب.
حتى إنها تطبع طوابع البريد الخاصة بها وعملاتها، وتصدر جوازات سفر خاصة، ويتمتع مقرها الرئيسي في روما بحدود إقليمية، وقد وصفتها وكالة الأنباء الإيطالية "ANSA" بأنها "أصغر دولة ذات سيادة في العالم".
ولدى فرسان مالطا علاقات دبلوماسية مع 110 دولة، ولا يوجد لها علاقات رسمية مع الولايات المتحدة، على الرغم من أن لديها مكاتب في نيويورك لوفد الأمم المتحدة، وواشنطن، لتمثيلها في بنك التنمية للبلدان الأمريكية.
لماذا قرر البابا حل قيادتها؟
لم يشر تقرير وكالة Reuters حول قرار البابا حل قيادة فرسان مالطا، إلى تاريخها الدموي مع المسلمين أو الشكوك حول علاقتها بالمخابرات وشركات المرتزقة الأمريكية.
ووصف التقرير المنظمة بأنها كانت نشطة للغاية في مساعدة اللاجئين وضحايا الحرب الأوكرانيين.
ولكن تقرير الوكالة عزا القرار إلى أسباب تتعلق بالطابع الأوروبي العنصري للدستور السابق ولجعل فرسان مالطا أكثر ديمقراطية؛ حيث كان الإصلاحيون في فرسان مالطا قد دعوا، بدعم من الفاتيكان، إلى حكومة أكثر شفافية لجلب دماء جديدة والسماح للنظام بالاستجابة بشكل أفضل للنمو الهائل الذي شهده في السنوات الأخيرة.
فبموجب هذا الدستور، كان يُطلب من كبار الفرسان أن يكونوا من سلالة نبيلة، وهو أمر قال الإصلاحيون إنه استثنى جميع الكاثوليك من أنحاء العالم من الخدمة في المناصب العليا وحعلها قاصرة على الأوروبيين (لأنه تندر العائلات الأرستقراطية المسيحية خارج أوروبا).
ويلغي الدستور الجديد قاعدة النبلاء هذه بالإضافة إلى تقليد انتخاب الأساتذة الكبار مدى الحياة.
وقال توماسي: "ستكون فرسان مالطا أكثر ديمقراطية، حيث أصبحت مسألة النبلاء الآن ثانوية".
وسيتم انتخاب القيادة في المستقبل لمدة 10 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط، وسيتعين عليهم التنحي في سن 85.
وقال الكاردينال سيلفانو توماسي، المندوب الخاص للبابا في تنظيم فرسان مالطا، للصحفيين إن الدستور الجديد للنظام لن يضعف سيادة فرسان مالطا الدولية.
لكن الكاردينال جيانفرانكو غيرلاندا، عضو مجموعة العمل التي أعدت الدستور الجديد الذي وافق عليه البابا يوم السبت، قال إن التنظيم الديني يجب أن يظل تحت رعاية الفاتيكان.
وهناك جوانب أخرى لقرار البابا تغيير دستور فرسان مالطا، فمنذ تأسيسها، واعتراف بابا الفاتيكان بها، اتسمت منظمة "فرسان مالطا" بهوية هجينة، فهي جماعة دينية وعلمانية في وقت واحد. فضمن آلاف الأعضاء والمتطوعين، هناك عدد قليل من رجال الدين الذين يتبنون نذور الرهبانية، أي أنهم يتعهدون بالطاعة، والعفة، والفقر.
وبموجب قرار الفاتيكان الجديد، منحت الغلبة للجناح الديني في الجماعة، على الجناح العلماني، بحسب موقع "كروكس"، مع ربط قادتها الدينيين مباشرة بالبابا.