يعتبر الغرب ميخائيل غورباتشوف، آخر زعماء الاتحاد السوفييتي الذي توفي قبل أيام قليلة، بطلاً ساهم في إنهاء الحرب الباردة، وخلص العالم من الرعب النووي، فماذا يعني ذلك بالنسبة لفلاديمير بوتين، رئيس روسيا الحالي، وعدو الغرب اللدود؟
كانت كلمة النهاية في حياة غورباتشوف قد أعلنها مستشفى موسكو المركزي مساء الثلاثاء 30 أغسطس/آب، ليفارق آخر من تولى رئاسة الاتحاد السوفييتي الحياة عن عمر 91 عاماً.
وعلى الرغم من مرور أكثر من 30 عاماً على النهاية الدرامية لحكم غورباتشوف، ظل الغرب يعتبره بطلاً؛ إذ نعته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بالقول إنه فتح الطريق أمام أوروبا حرة.
بينما قال الرئيس الأمريكي جو بايدن إنه كان يؤمن "بالجلاسنوست والبيريسترويكا – الانفتاح وإعادة الهيكلة – ليس باعتبارهما مجرد شعارات، وإنما الطريق إلى الأمام لشعب الاتحاد السوفييتي بعد سنوات كثيرة من العزلة والحرمان". ووصف بايدن غورباتشوف بأنه كان "زعيماً نادراً"، وكان يتحلى بشجاعة كافية للمخاطرة بحياته المهنية من أجل مستقبل مختلف.
وقال رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون إن "التزام غورباتشوف دون كلل بانفتاح المجتمع السوفييتي يظل مثالاً لنا جميعاً".
هل يختلف غورباتشوف عن بوتين؟
كان فريق ميخائيل غورباتشوف الحاكم هو من ابتكر مصطلح "عقيدة سيناترا"، للإشارة إلى دول أوروبا الشرقية بأنها حرة في اختيار طريقها الديمقراطي دون تدخل الكرملين، حتى لو كان ذلك يعني هزيمة الأحزاب الشيوعية الحاكمة. بعبارة أخرى، كان الاتحاد السوفييتي مستعداً لتحرير نفسه من عبء السيطرة الاستعمارية من أجل التركيز على إصلاحاته الداخلية.
وقد قوبل ذلك بشيء من عدم التصديق، الممزوج بالفرح، بين حلفاء الاتحاد السوفيتي السابق. فقد كانت رائحة الثورة تفوح في الهواء، بحسب تقرير لصحيفة The Times البريطانية عنوانه "بوتين لا يختلف كثيراً عن ميخائيل غورباتشوف".
لكن أنصار الدولة الأمنية في موسكو لم يشاركوهم مثل هذا الابتهاج؛ لأنهم علموا أنَّ انتفاضات عام 1989 ستكتب نهاية الاتحاد السوفيتي نفسه، وانهياراً داخلياً كلياً. وكان من بين المُشكّكين ضابط المخابرات السوفييتية فلاديمير بوتين الذي رأى نهاية الاتحاد السوفيتي "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن".
ثم كان هناك توتر مزعج بين غورباتشوف، الذي عاش أيامه ناقداً للحكم الاستبدادي، وبوتين الذي يكافح لإيجاد مهمة لروسيا الكبرى لتحل محل الاتحاد السوفيتي البائد. وقال غورباتشوف عن قاعدة بوتين الصارمة: "لا يريد الناس أن يكونوا كتلة، قطيعاً يقوده الراعي نفسه لعقود".
أما بوتين، فكما يقول مستشاره ألكسندر دوغين، كرّس حكمه لـ"إطاحة النظام العالمي غير العادل" الذي نشأ عندما سمح غورباتشوف بانهيار الاتحاد السوفيتي.
وحقيقة الأمر الآن هي أن كثيراً من المحللين والخبراء، الغربيين أيضاً، يرون أن العالم أصبح يتخبط في مواجهة أزمة تلو الأخرى، بداية من التغير المناخي وديون الدول النامية وجائحة كوفيد-19، بخلاف الحرب الأوكرانية وأزمة تايوان، وكلها مؤشرات على ترنح النظام العالمي، وحتمية إيجاد بديل له قبل فوات الأوان.
إذ عاش العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية في ظل نظامين، الأول هو نظام عالم الحرب الباردة ثنائي القطبية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، والذي لم يكن مهتماً إطلاقاً بكيفية إدارة الدول لشؤونها الداخلية. أما بعد الحرب الباردة فقد سقط النظام ثنائي القطبية، وهيمنت الليبرالية الجديدة ليتشكَّل النظام العالمي الليبرالي الحالي أحادي القطبية، الذي تقوده الولايات المتحدة ويتجاهل السيادة الوطنية والحدود، كلما احتاجت واشنطن إلى فعل ذلك.
ماذا يريد الرئيس الروسي؟
حلّ مبدأ بوتين منذ فترة طويلة محل سياسة عدم التدخل التي انتهجها غورباتشوف تجاه جيران روسيا. ففي الوقت الحاضر، إذا أظهر بلد ما في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي علامات على الدخول في شراكة أمنية أو اقتصادية رسمية مع الغرب، فيمكنه أن يتوقع عملاً عدائياً من موسكو، بدءاً من حملات التضليل والهجمات الإلكترونية، والانتقال إلى الحوادث الحدودية، وتسليح الأقليات الناطقة بالروسية، وضم الأراضي، والغزو، بحسب وجهة النظر الغربية بطبيعة الحال.
ويصور الغرب سياسة حافة الهاوية هذه على أنها عمل شخص عدواني لكسر القواعد، لكن ما ظهر كان متجذراً في قواعد موسكو التقليدية. فقد كانت روسيا قوة متوسعة منذ أيام ديمتري دونسكوي، أمير موسكو الذي قاتل التتار في القرن الرابع عشر.
ووفقاً للمدافعين عن بوتين، فإنَّ على الرئيس الحالي إثبات وجود دولة قوية من خلال تحديد أعدائه وهزيمتهم في الداخل والخارج. والدولة القوية هي وحدها القادرة على تحديث الاقتصاد والمجتمع بنجاح.
ومن هذا المنظور، كان التغيير في روسيا يُفرَض دائماً من أعلى، مع وجود استثناءات قليلة. وعمل كل من غورباتشوف وبوتين ضمن هذا الإطار التاريخي المعروف. من القيصر بطرس الأكبر إلى الإسكندر الثاني وبيتر ستوليبين، جاء إصلاح الحقبة القيصرية من مركز قوي. ويقول منتقدو غورباتشوف، إنَّ تحريره لحرية التعبير (سياسة غلاسنوست أو الشفافية) وقبول النقد العام أضعف قدرته على إصلاح روسيا (سياسة البيريسترويكا أو إعادة الهيكلة).
كانت هذه الحجج، على الرغم من عيوبها، جزءاً من فهم كل من غورباتشوف وبوتين للحكومة. ونتيجة لذلك، بدا أنَّ الاثنين يكرران السياسة ذاتها. على الرغم من الثناء على غورباتشوف في الوقت الحالي، إلا أنه في ظل حكمه قتلت القوات السوفيتية 22 محتجاً في تبليسي في أبريل/نيسان 1989، وقُتِل 150 شخصاً في مذبحة يناير/كانون الثاني الأسود في أذربيجان عام 1990. وفتح الجنود النار على المتظاهرين في ليتوانيا ولاتفيا.
وقال مؤيدوه إنَّ غورباتشوف يحاول صد تحدٍ متشدد، مستشهدين بمحاولة إطاحته في انقلاب في أغسطس/آب 1991. لكن الكثيرين في دول البلطيق تحديداً ما زالوا يحملون مرارة ما حدث حتى يومنا هذا.
ما رأي غورباتشوف في الأزمة الأوكرانية؟
يستعير بوتين من غورباتشوف؛ فالعديد من التعديلات التي أجراها غورباتشوف على السياسة السوفيتية، مثل إقامة علاقة وثيقة مع إسرائيل (فتح غورباتشوف الطريق أمام هجرة اليهود)، وتبني سياسة أكثر انفتاحاً تجاه دول الخليج، وتضميد الصدع مع إيران؛ أرست الأساس لسياسة بوتين المُعلَنة عن الشرق الأوسط القائمة على التحالفات وتجنب العداوات في المنطقة.
والأكثر إثارة للدهشة أنَّ غورباتشوف وبوتين تشاركا الموقف نفسه بشأن ضم شبه جزيرة القرم عام 2014. كان غورباتشوف قد أزاح النخب الأوكرانية من مركز السلطة في الاتحاد السوفيتي، وصحح -من وجهة نظره- نفوذهم المفرط تحت حكم نيكيتا خروشوف وليونيد بريجنيف، رئيسي الاتحاد السوفيتي السابقين. كما حث الولايات المتحدة على استخدام نفوذها في كييف لسحب أوكرانيا من "قوميتها الانتحارية".
لذلك عندما أرسل بوتين "رجاله الخُضر الصغار" لانتزاع القرم، كان غورباتشوف يرى أنها خطوة وقائية. فقد بدا له أنَّ الخطر من أوكرانيا يتمثل في أنَّ الحكومة المتقلبة ستحاول تأليب الغرب على روسيا.
وعارض غورباتشوف العقوبات الغربية التي أعقبت استيلاء بوتين على الأراضي الأوكرانية. بدا كأنه يشير إلى أنَّ الغرب كان يحاول التحريض على حرب باردة جديدة. وأعلن: "أنا متأكد تماماً من أنَّ بوتين يحمي مصالح روسيا أفضل من أي شخص آخر". لكن ضعف هذا اليقين مع مرور الوقت؛ فعندما شن بوتين حربه الكاملة في فبراير/شباط، اكتفت مؤسسة غورباتشوف بالحث على تسوية سلمية سريعة.
وروسيا بالوضع الذي هي عليه اليوم ليست كما كان يأمل غورباتشوف: فقد عارض حبس واضطهاد الزعيم المنشق أليكسي نافالني، ليس فقط لأنه قدّر دور المساءلة العامة، بل لأنه أدرك أيضاً أنَّ إنشاء دولة بوليسية مضيعةٌ للطاقة.
لكن الاختلاف الدائم بين غورباتشوف وبوتين هو قناعة الأول بأنَّ الحفاظ على قيادة قوية لم يكن مثل بناء سلطات الشرطة وتحويل الموارد الشحيحة لإنشاء قوة غزو ضخمة. لقد فهم غورباتشوف بوتين والقطاع الضيق من النخبة الأمنية التي رعته. لكنه أدرك أيضاً أنَّ هوس بوتين بجعل روسيا تشعر بالأمان من أعدائها "الوهميين، بحسب وجهة النظر الغربية" كان يفسد مستقبل روسيا.
الخلاصة هنا هي أن غورباتشوف يرى أن الأزمة الأوكرانية هي بالأساس "استفزاز غربي" هدفه احتواء نمو روسيا واستعادة مكانتها كقوة عظمى، عبر تمدد حلف الناتو حتى باحة موسكو الخلفية، وهو الرأي نفسه الذي بنى عليه بوتين قرار شن الحرب في أوكرانيا، أو كما يصفها بالعملية العسكرية الخاصة، عكس الوصف الغربي بأنها "غزو". وبالتالي فإن احتفاء الغرب بغورباتشوف يبدو نابعاً فقط من أن سياسات الزعيم السوفييتي الراحل أدت إلى تفكك الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، لكن ذلك لا يعني أن ذلك ما أراده الزعيم، الذي لا يختلف عن الزعيم الروسي الحالي كثيراً فيما يتعلق بالأهداف الجيوسياسية لروسيا.