الحرب الأهلية في العراق بدت وشيكة الليلة الماضية بشكل صدم المراقبين في العالم، وجعل العرب قلقين على هذا البلد العريق، ولكن فجأة هدأت الأمور قليلاً بعد دعوة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر أنصاره للانسحاب من المنطقة الخضراء، وبدا الرجل داعية سلام وحقن دماء، ولكن لم تكن هذه المرة الأولى التي يحدث فيها هذا، فـ"تقلبات الصدر" السياسية ظاهرة متكررة في العراق منذ الغزو الأمريكي عام 2003.
ففي تطور مفاجئ؛ قدّم الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، اعتذاره للشعب العراقي على العنف في البلاد، ودعا أنصاره للانسحاب التام خلال 60 دقيقة، وقال إن ما يحدث ليس ثورة لأنها ليست سلمية.
وبينما فهم إعلان مقتدى الصدر الإثنين 30 أغسطس/آب، اعتزاله العمل السياسي، وإغلاقه مؤسسات تياره كأنه إشارة ضمنية لأنصاره بحملة ضد النظام، وهذا ما حدث بالفعل، عاد الصدر للظهور رافعاً راية السلام بعد الفوضى التي شهدتها المنطقة الخضراء أمس باقتحام مقرات الحكم، حيث قال في مؤتمر صحفي عقده بعد العنف الذي أدى إلى مقتل أكثر من 30 شخصاً: إن "البلاد رهينة للفساد والعنف، والدم العراقي حرام".
مباشرة بعد تصريحات الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، انسحب أنصاره، وأعلنت قيادة العمليات المشتركة في العراق رفع حظر التجول في البلاد، وفق ما ذكرته خلية الإعلام الأمني، فيما رفعت السلطات حظر التجوال.
الصدر من عنوان الثورة والفوضى إلى رمز الحكمة
وهكذا تحول الصدر من عنوان للفوضى بالنسبة للحكومة ومعارضيه، وزعيم الثورة بالنسبة لأنصاره وبعض الساخطين على الوضع في العراق، إلى رمز للحكمة والقائد الذي حقن الدماء، وتوالت الإشادات بموقفه منها إشادة من الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط.
ولكن لم تكن هذه أولى تقلبات الصدر، ولن تكون آخرها في الأغلب، فتاريخ الصدر وتياره يتسم بالتقلب الشديد، والقدرة على الإفلات من الأزمات، وبينما تبدو كل أزمة أنها قاضية عليه، فإنه يخرج منها بعد حين أقوى وأكثر تأثيراً.
في هذا التقرير نرصد مسيرة التيار الصدري، وما يصفه بعض المراقبين بـ"تقلبات الصدر السياسية"، وكيف حافظ على قوته رغم هذه التقلبات.
جذور الخلافات بين التيار الصدري وبين القوى الشيعية الأخرى
كانت الأزمة الحالية قد بدأت عندما اقتحم أنصار التيار الصدري الذي فاز بأكبر كتلة في البرلمان العراقي الشهر الماضي، مقر البرلمان، وأعلنوا الاعتصام فيه، بعد محاولة رئيس الوزراء العراقي السابق نوري مالكي استغلال استقالة النواب الصدريين من البرلمان، لترشيح السياسي الموالي له محمد سوداني لرئاسة الحكومة، ضارباً بعرض الحائط نتائج الانتخابات التي أسفرت عن فوز التيار الصدري بأكبر كتلة وتمكنه مع حلفائه السنة والأكراد من جمع الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة، ولكن الإطار التنسيقي الجامع للقوى الشيعية الموالية لإيران الذي يقوده المالكي منع توفير الأغلبية اللازمة لاجتماع البرلمان لاختيار رئيس الجمهورية (أغلبية الثلثين)، وهي الخطوة اللازمة لتشكيل الحكومة.
وفي ذلك الوقت، اعتبر مقتدى الصدر اقتحام أنصاره للبرلمان فرصة للديمقراطية العراقية، ثم توالت الأحداث حينما اقتحم الصدريون مقر الحكومة والقصر الجمهوري، وقفزوا في حمام السباحة الخاص بالقصر الجمهوري في مشهد ذكر العالم باقتحام المحتجين في سريلانكا للقصر الرئاسي بعد إفلاس البلاد، ثم وصلت الأزمة لذروتها التي هددت بحرب أهلية أمس، عندما وقعت اشتباكات بين أنصار الصدر وقوات الأمن في المنطقة الخضراء ومناطق أخرى، وكان يتوقع أن تستعر الأوضاع في ظل امتلاك التيار الصدري لملايين الأتباع وعشرات الآف من المسلحين في مواجهة قوات الأمن والجيش، إضافة للحشد الشعبي وغيره من الميليشيات الموالية لإيران التي لديها عشرات الآلاف من المسلحين أيضاً.
ولن تكون هذه أول مواجهة يخوضها الصدريون ضد قوى شيعية أخرى، بدرجة أو أخرى، فدوماً كانت هناك حالة من الخصومة والمنافسة بين التيار الصدري وبين القوى الشيعية السياسية والدينية الأخرى.
الصدر الأب يركز على توثيق علاقته بالقبائل العربية وفقراء الشيعة
تقليدياً كان نسبة كبيرة من مراجع الشيعة والقيادات الشيعية الدينية بالعراق ذات أصول عجمية (إيرانية أو باكستانية أو أفغانية) لأن النجف هي مقر الحوزة الدينية لكافة شيعة العالم، ولأن الشيعة غير العرب أكثر انخراطاً في الدراسات الدينية من الشيعة العرب.
واحتفظت هذه القيادات الشيعية المسيَّسة وغير المسيسية بعلاقة قوية مع الأسر العراقية الشيعية التجارية، وكثير منها من أصول أعجمية.
ولكن مؤسس التيار الصدري محمد محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر، كان مختلفاً نسبياً فهو عالم دين مرموق من أصول عربية وجاء بمنهج جديد تقارب فيه، وهو المرجع الذي ينتمي لأسرة ميسورة، مع القبائل العربية ذات الأصول البدوية، والتي كان المذهب لا يلعب دوراً كبيراً في حياتها، كما تقارب مع الفقراء الشيعة، خلق هذا تنافساً بين الصدر الأب وبين المراجع الشيعية الأخرى، وكذلك القيادات العراقية الشيعة التي كانت منفية في إيران مثل محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية.
يعتقد أن صدام حسين شعر بالقلق الشديد من منهج الصدر الأب هذا، الذي جذب فئات كان ينظر لها النظام على أنها تمثل معاقل لنفوذه في أوساط الشيعة، وأن هذا السبب كان وراء اغتيال صدام المحتمل للصدر عام 1999 مع كل أولاده باستثناء مقتدى، وجاءت عملية الاغتيال في فترة كان العراق فيها محاصراً بعد هزيمته في حرب تحرير الكويت عام 1991.
بينما يزعم البعض أن إيران وبعض القوى الشيعية الموالية لها هي وراء اغتيال الصدر، رغم نفي الصدريين ذلك.
وضاعف اغتيال الصدر الأب من شعبية الرجل، وأكسبه قدسية لدى أتباعه، استفاد منها نجله مقتدى الصدر، خاصة عندما احتل الأمريكيون العراق وأسقطوا نظام صدام.
2003: مقتدى يعارض الاحتلال الأمريكي بينما تحالفت معه القوى الشيعية الأخرى
بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ظهرت الخلافات بين الصدر والقوى السياسية الشيعية الأخرى الموالية لإيران، التي جاء قادتها على ظهور الدبابات الأمريكية، حيث كان هناك تلميحات باتهام الصدريين باغتيال المرجع الشيعي عبد المجيد الخوئي، مثلما يظهر في مذكرات الحاكم الممثل الاحتلال الأمريكي للعراق بول بريمر.
عارض الصدر الاحتلال الأمريكي والعملية السياسية التي أطلقها، عكس المواقف المتماهية مع الاحتلال من قبل معظم القوى الشيعية الرئيسية، بمن فيهم المرجع الشيعي الأكبر في العراق آية على السيستاني (أصوله إيرانية وتدخله في السياسة غير فج).
كما رفع الصدريون شعار عراقية الحوزة، في تلميح لرفضهم لسيطرة إيران أو ذوي الأصول الإيرانية على الحوزة العراقية.
وفي النجف العاصمة الدينية للشيعة تشكلت نواة ميليشيات الصدر، عام 2003 عندما دعا مقتدى أتباع والده إلى تشكيل "جيش المهدي" لمقاومة الاحتلال الأمريكي.
وتراوحت تحركات الصدريين بين الاحتجاجات الشعبية والعمليات المسلحة.
2006- 2008: تحدى الحكومة التي يقودها المالكي
شهد العراق مقاومة للاحتلال من قبل المجموعات السنية، وكذلك التيار الصدري إضافة للحرب الأهلية، وبدا الأمريكيون يشعرون أنهم في ورطة كبيرة، ولم يحصلوا على المغانم الكبيرة من احتلال العراق التي كانوا يأملونها، واتجهوا لوضع دستور للعراق وإجراء انتخابات فازت بها الكتلة الشيعية الموالية لإيران والتي تنسق مع الأمريكيين في الوقت ذاته إضافة للكتل الكردية، وهكذا تشكلت حكومات عراقية يقودها في الغالب حزب الدعوة الإسلامي الشيعي ويلعب فيها الأكراد دوراً كبيراً مع تهميش السنة والصدريين، واستمرار الوجود الأمريكي العسكري في البلاد.
وفي نظر الصدريين وكثير من السنة، كان هذا استمراراً للاحتلال بشكل أو بآخر.
وبين عامَي 2006 و2008 تحدى الصدر بقواته علانية الحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي حينها، في محاولة للسيطرة على عدة مناطق عراقية؛ مما أدى إلى مواجهات عسكرية مع الحكومة وقواتها، من ضمنها صولة الفرسان وهي سلسلة معارك طويلة ضد القوات الحكومية، ورغم أنها انتهت بهزيمة جزئية للصدر، ولكن لم تكن على الإطلاق نهاية تياره أو حتى تراجعه.
2006: التيار الصدري يتورط بمذابح ضد السنة بعدما كان حليفهم في 2003
تقلبات الصدر لا تقتصر على علاقته بالقوى الشيعية الأخرى، ولكن أيضاً بالطائفة السنية والمقاومة ضد الاحتلال التي انبثقت بالأساس من أوساطهم.
بعد الغزو الأمريكي للعراق، وقبل الحرب الأهلية بين السنَّة والشيعة، ظهر نوع من التضامن المتبادل بين المقاومة التي نظمها الصدريون ضد الاحتلال والمقاومة السنيَّة خاصة في مدينة الفلوجة "60 كم شمال غرب بغداد"، معقلها الأهم، حيث تبادل الطرفان الخبرات والسلاح والغذاء.
"فخلال معركة النجف، قدمت الفلوجة دعماً للصدريين؛ حيث كانت تصل الأسلحة والصواريخ تحت غطاء المواد الغذائية والخضراوات، بالإضافة إلى وصول مقاتلين سُنة يملكون الخبرة في استخدام الصواريخ وإعادة تصنيع بعضها"، حسبما قال علي ناصر من سكان النجف وقاتل في جيش المهدي لموقع "ألترا عراق"، مشيراً إلى أن "مقتدى الصدر رد الجميل وأرسل عدداً من المقاتلين في معركة الفلوجة التي خاضتها المدينة ضد الاحتلال الأمريكي".
ولكن الأمور سوف تتغير؛ بعد أن حدثت بعض الاعتداءات من بعض المجموعات المتطرفة من المقاومة السنية على مناطق أو شخصيات شيعية لأنهم رأوا أن القوى السياسية الشيعية تتعاون مع الاحتلال الأمريكي (وهذا حدث بالفعل باستثناء الصدر).
ووصلت الأمور إلى ذروتها بعد تفجير أحد أهم المراقد المقدسة لدى الشيعة في العراق، وهو مرقد الإمامين العسكريين بسامراء عام 2006، وتبعته سلسلة اعتداءات على نحو 30 مسجداً سنياً، الأمر الذي أشعل فتيل الحرب الطائفية في العراق؛ ما تسبب في مقتل الآلاف من الطرفين.
2007: أعلن تجميد جيش المهدي بعد تورطه بالقتل الطائفي ثم أعاد تشكيله
ولعب جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر دوراً خطيراً في عمليات الإبادة والقتل الجماعي والاختطاف والتهجير، ضد أفراد من الطائفة السنيَّة، وأصبح يُعرف باسم "فرق الموت".
ولكن بعد وصول العنف إلى مستوى صادم، تبرأ مقتدى الصدر من العناصر المتورطة في عمليات قتل وتهجير العراقيين، وأعلن في أغسطس/آب 2007 تجميد جيش المهدي لمدة ستة أشهر لإعادة تنظيمه، ثم أمر من جديد بعد انتهاء المدة بالتجميد لمدة ستة أشهر أخرى، قبل أن ينشط من جديد عام 2008.
وفي 2009 أعلن الصدر عن تجميد الميليشيا بشكل كامل، وطرد المتورطين في عمليات "تطهير طائفي" أو القتل على الهوية قبل انخراطه في العملية السياسية بشكل رسمي.
2014: الصدر يعيد تأسيس ميليشياته لمحاربة داعش
في يونيو/حزيران 2014 أعلن الصدر ولادة "سرايا السلام"، ومجدداً بهدف معلن هو حماية المراقد المقدسة، إلا أن الميليشيات شاركت في المعارك التي دارت في العراق ضد تنظيم داعش، وتعمل ضمن قوات الحشد الشعبي التي تعتبر شكلياً جزءاً من قوات الحكومة.
2018: التيار الصدري يتحالف مع الشيوعيين
في انتخابات 2018، قاد التيار الصدري تحالف "سائرون" الذي شمل التحالف مع الشيوعيين في واحدة من أغرب مفارقات السياسة العراقية؛ حيث يتحالف تيار ديني طائفي شديد التقليدية مع تيار موغل في العلمانية ويتبنى أيديولوجية مرتبطة بالإلحاد، ولكن يمكن القول إن القاعدة الاجتماعية للتيارين متقاربة، فالحزب الشيوعي كان يتركز في ذروة قوته في أوساط المثقفين المنبثقين من الطبقات الشيعية الفقيرة، وهي الطبقات الفقيرة التي تمثل نفس أوساط التيار الصدري.
وحصدت قائمة "سائرون" أكبر عدد من المقاعد، ولكن لم تفز بالأغلبية.
2019: يتعهد بالدفاع عن المحتجين ويطالب باستقالة الحكومة ثم يتراجع
ﻓﻲ ﺃﻛﺘﻮﺑﺮ/ﺗﺸﺮﻳﻦ ﺍﻷﻭﻝ 2019، ﺧﺮﺟﺖ ﻣﻈﺎﻫﺮﺍﺕ ﺣﺎﺷﺪﺓ ﻓﻲ ﺑﻐﺪﺍﺩ ﻭﺟﻨﻮﺏ ﺍﻟﻌﺮﺍﻕ ﻓﻲ ﺍﺣﺘﺠﺎﺝ ﻟﻠﻤﻮﺍﻁﻨﻴﻦ ﻋﻠﻰ ﺍﺳﺘﺸﺮﺍء ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ، ﻭﺍﻟﺒﻄﺎﻟﺔ ﻭﺳﻮء ﺍﻟﺨﺪﻣﺎﺕ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ. ﻭﺃﺻﺒﺤﺖ هذه الاﻧﺘﻔﺎﺿﺔ، ﺍﻟﺘﻲ ﺷﻜﻞ ﺍﻟﺸﺒﺎﺏ ﺍﻟﻘﻮﺓ ﺍﻟﺪﺍﻓﻌﺔ ﻟﻬﺎ، ﺃﻛﺒﺮ ﺣﺮﻛﺔ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺃﻁﻮﻟﻬﺎ ﺃﻣﺪﺍً ﻣﻨﺬ ﻋﺎﻡ 2003، ولكن ﻗﺎﻣﺖ ﻗﻮﺍﺕ ﺍﻷﻣﻦ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﻨﻈﻴﻤﺎﺕ ﺷﺒﻪ ﺍﻟﻤﺴﻠﺤﺔ ﺑﻘﻤﻊ ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﺿﺔ ﺍﻟﺴﻠﻤﻴﺔ ﺑﻘﺴﻮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺎﺕ، ﻣﺎ ﺃﻭﺩﻯ ﺑﺤﻴﺎﺓ ﻧﺤﻮ 600 ﻣﺘﻈﺎﻫﺮ ﻭﺇﺻﺎﺑﺔ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ 20 ألفاً ﻓﻲ ﺍﻷﺷﻬﺮ ﺍﻟﺴﺘﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ من الاحتجاجات.
كان أغلب المحتجين من الشباب الشيعي من الجنوب وبغداد، ورغم ذلك ﺩﻋﺎ ﺍﻟﻤﺤﺘﺠﻮﻥ ﺇﻟﻰ ﻧﻮﻉ ﺟﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻬﻮﻳﺔ ﺍﻟﻮﻁﻨﻴﺔ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮﻥ ﺍﻻﻧﺘﻤﺎء ﺇﻟﻴﻪ ﺩﻭﻥ ﺗﻤﻴﻴﺰ ﻁﺎﺋﻔﻲ ﻭﻳﻜﻮﻥ ﻣﺘﺤﺮﺭﺍً ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻔﻮﺫ ﺍﻷﺟﻨﺒﻲ. ﻭﺃﺻﺒﺢ ﺍﻟﻮﺳﻢ "ﻧﺮﻳﺪ ﻭﻁﻨﺎً"، ﺍﻟﺬﻱ ﻋﺒﺮ ﻋﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺸﺎﻋﺮ، ﻁﺎﻏﻴﺎً. وعبر ﺷﻌﺎﺭ "ﺇﻳﺮﺍﻥ ﺑﺮﺍ، ﺑﺮﺍ"، عن الغضب من التدخل الإيراني الفظ ﻓﻲ توجيه ﺍﻷﺣﺰﺍﺏ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﺍﻟﻌﺮﺍﻗﻴﺔ ﻭﺃﺟﻨﺤﺘﻬﺎ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ، كما عبروا عن رفضهم للتدخل الأمريكي أيضاً برفع شعار "ﻻ ﻏﺮﺑﻴﺔ ﻭﻻ ﺷﺮﻗﻴﺔ، ﺛﻮﺭﺓ ﻋﺮﺍﻗﻴﺔ".
في بداية احتجاجات 2019، أعلن الصدر أن ميليشياته ستدافع عن المحتجين ضد القمع الأمني أو قمع الميليشيات الموالية لإيران، وأسس قوة حماية خاصة بساحات التظاهرات، عُرفت بـ"أصحاب القبعات الزرق".
ودعا الصدر في أكتوبر/تشرين الأول 2019 إلى استقالة حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في ذلك الوقت، لكنه تراجع في الشهر التالي بعد سلسلة من اللقاءات التي رعاها قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني مع قادة دينيين وسياسيين عراقيين ونتج عنها اتفاق على بقاء الحكومة الحالية.
ﻓﻲ 28 ﻧﻮﻓﻤﺒﺮ/ﺗﺸﺮﻳﻦ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ 2019، ﺍﺳﺘﻘﺎﻝ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻤﻬﺪﻱ ﻣﺪﻓﻮﻋﺎً ﺑﺨﻄﺒﺔ ﺟﻤﻌﺔ ﻟﻠﺴﻴﺴﺘﺎﻧﻲ.
آنذاك اتهم مراقبون الصدر بأنه يسعى للسيطرة على الحراك الشعبي لإظهار نفسه قائداً شعبياً، في حين يقوم بالتنسيق مع إيران ضد الحراك الشعبي الذي يسعى إلى إنهاء نفوذ طهران وسيطرتها على القرار السياسي في بغداد، ولكن بالنسبة للمتظاهرين فإنهم كانوا يحتاجون لحماية التيار الصدري المسلح من هجمات الحشد الشعبي الموالي لإيران، ولكن هذا الاعتماد بدوره أضعف الحراك
2020: سحب أنصاره بعد مقتل سليماني وترك المحتجين فريسة للحشد
ﻭﻛﺎﻧﺖ اللحظة المحورية التي أضعفت الاحتجاجات، وعادت فيها تقلبات الصدر للظهور، عندما ﺍﻏﺘﺎﻟﺖ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ بأمر من الرئيس السابق دونالد ترامب، ﻗﺎﺳﻢ ﺳﻠﻴﻤﺎﻧﻲ قائد فيلق القدس الإيراني، ﻭﺃﺑﻮ ﻣﻬﺪﻱ ﺍﻟﻤﻬﻨﺪﺱ قائد الحشد الشعبي، ﺑﻀﺮﺑﺔ ﺟﻮﻳﺔ ﺑﺎﻟﻄﺎﺋﺮﺍﺕ ﺍﻟﻤﺴﻴﺮﺓ ﻓﻲ ﻣﻄﺎﺭ ﺑﻐﺪﺍﺩ ﻓﻲ 3 ﻳﻨﺎﻳﺮ/ﻛﺎﻧﻮﻥ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ 2020.
فقد غير ﺍﻟﺼﺪﺭ موقفه من ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ ﺍﻻﺣﺘﺠﺎﺟﻴﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺭﻓﻀﺖ ﺃﺟﺰﺍء ﻛﺒﻴﺮﺓ ﻣن هذه الحركة ﺩﻋﻮﺗﻪ ﻟﺘﻮﺟﻴﻪ ﻏﻀﺒﻬﻢ ﺇﻟﻰ ﻭﺟﻮﺩ ﺍﻟﻘﻮﺍﺕ ﺍﻷﻣﺮيكية ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺮﺍﻕ بعد هذا الهجوم.
ثم بدأ الصدر يعلن انسحابه من التظاهرات وأنه لن يحميها، ثم هاجم مسلحون مجهولون ساحات الاحتجاج وحرقوا الخيام وأطلقوا النار على المتظاهرين العزل، وحتى إن لم يكن الهجوم على المتظاهرين من قبل أنصار التيار الصدري بشكل مباشر، إلا أنه على ما يبدو فإن قوات الأمن أخذت الضوء الأخضر لاستهداف المتظاهرين ورفع وتيرة العنف ضدهم، الأمر الذي وصفته وكالة فرانس برس بـ"حملات التطهير" في الساحات، ثم ﺟﺎءﺕ ﺟﺎﺋﺤﺔ ﻛﻮﻓﻴﺪ19- لتضعف الاحتجاجات وتقضي عليها تقريباً.
2021: الصدر يتحالف مع السنة والأكراد ضد أتباع إيران ويفوز بالأغلبية
كانت نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية المبكرة، التي أجريت في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2021، بمثابة صدمة لإيران وحلفائها في العراق، وجاء إجراء هذه الانتخابات بفضل الاحتجاجات.
حيث فاز تحالف سائرون، بقيادة الصدر، بحوالي 73 مقعداً، وجاء في المركز الثاني تحالف التقدم السني بقيادة رئيس البرلمان المنحل، محمد الحلبوسي، بحوالي 33 مقعداً، من أصل 329 مقعداً برلمانياً، وأعلن الصدر عن إبرام تحالف مع الحلبوسي وبعض الكتل الكردية، وهو تحالف أصبح يمتلك الأغلبية البسيطة (النصف+ واحد)، مما يمكنه من تشكيل حكومة أغلبية دون مشاركة حلفاء إيران، الأمر الذي أغضب تحالف الفتح وغيره من التحالفات الشيعية الموالية لإيران، والتي اعترضت على النتيجة في البداية، ثم أصرت على تشكيل حكومة وحدة وطنية تمثل كل القوى الفائزة، بينما يريد الصدر تشكيل حكومة وحدة وطنية من الأغلبية فقط.
حقيقة علاقة الصدر مع طهران
علاقة الصدر مع إيران مركبة وغامضة، فالصدر دوماً ينتقد حلفاء إيران، ولكن نادراً ما ينتقد إيران نفسها، بل الأقرب أنه ينتقد سيطرتها على العراق، ويبدو نقده موجهاً أكثر لمن سمح من العراقيين لإيران بهذه السيطرة، ولكن في المقابل، فالصدر كان لديه في كثير من الأوقات علاقة جيدة مع الإيرانيين.
خلال فترة الاحتلال الأمريكيين، كان الإيرانيون على ما يبدو سعداء بمحاربة الصدر للأمريكيين؛ لأن ذلك قد يدفعهم للانسحاب وتسليم السلطة لحلفائهم العراقيين الأقرب مثل المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية برئاسة عبد العزيز الحكيم أو أحمد الجلبي (صديق الأمريكيين وأحد المحرضين لهم على غزو العراق ثم تبين أنه تابع تماماً لإيران).
وفي تلك الفترة كان الصدر كثيراً ما يلوذ بإيران عندما تسوء الأحوال في العراق، وتحدث مواجهات بينه وبين الأمريكيين وأتباعهم.
في احتجاجات 2019، بدا مؤيداً للمحتجين الذين كانوا يعارضون بشكل أساسي نفوذ إيران وفساد حلفائها، ولكن سرعان ما أدى اغتيال سليماني إلى تخلي الصدر عن الاحتجاجات، الأمر الذي أدى إلى انتهائها ضمن عوامل أخرى.
وفي الأزمة الأخيرة تكرر الأمر، فبعد أن بدا نفوذ إيران في خطر عبر انهيار الحكم الحالي الموالي لها، سارع الصدر لدعوة أنصاره للانسحاب بشكل أنقذ العراق بالفعل، ولكنه أيضاً أنقذ النفوذ الإيراني في البلاد أيضاً.
وبصفة عامة يظهر التيار الصدري قدرة لافتة على النجاة من الأزمات عبر التهدئة أو الهدنات، أو تغيير بعض المواقف مع المحافظة على وجوده في الشارع.
والأغرب أن تقلبات الصدر لا تؤثر في شعبيته بين أنصاره.
يهاجم الفساد، ولكن شارك في معظم الحكومات
يقدم الصدر خطاباً ناقداً للفساد والطائفية والمحسوبية والفوضى والمحاصصة، ولكن دعواته لمحاربة الفساد والمفسدين تحمل مفارقة أنه شارك في تشكيل معظم الحكومات العراقية منذ عام 2006، في بلد يحتل المرتبة 12 في لائحة الدول الأكثر فساداً في العالم.
ومع أنه يمكن ادعاء أن التيار الصدري أقل فساداً من معظم التيارات العراقية الأخرى، خاصة في ظل طابعه الشعبي، ولكن أيضاً هذا الطابع الشعبي أو بالأحرى الشعبوي يمثل عبئاً على العراق، فبقدر تبنيه مواقف نسبياً قومية ووطنية في مسألة التدخل الخارجي والتطبيع والعلاقة مع العالم العربي، بقدر ما أن الشعبوية تعزز كثيراً من سلبيات النظام الحالي، مثل الضغط لتوسيع الدعم والتوسع في توظيف الشباب في الحكومة دون الحاجة إليهم، وإضعاف حكم القانون وكثير من المشكلات التي قد تزداد تداعياتها، خاصة إذا تراجعت أسعار النفط.
رغم تقلبات الصدر المتوالية لماذا تزداد شعبيته بالعراق، وأحياناً العالم العربي؟
الطابع الشعبي أو الشعبوية التي يتسم بها التيار الصدري نابعة من نشأته وتركيبته، فالصدريون مثل نسبة كبيرة من الشيعة يرتبطون برجال الدين، الذين يحتلون في الوجدان الشيعي مكانة أكبر كثيراً مما هي لدى السنة، فهم في نظر كثير من الشيعة ورثة آل البيت، وفكرة التقليد رغم أنها دينية بالأساس ولكن ترسخ فكرة طاعة رجل الدين، في كل الأمور.
وتزداد مكانة رجل الدين الشيعي عندما يتحول لرمز نضالي أو شهيد في استرجاع واضح للإرث الشيعي الذي يعلي بشكل كبير من مكانة رجال الدين أو آل البيت الشهداء.
وفي حالة التيار الصدري، فرغم أن مقتدى ليس رجل دين راسخاً في العلم بالمعيار الشيعي، ولكنه ورث هالة والده الدينية، التي ازدادت باغتياله، وأضيف لها حركية التيار الصدري الاستثنائية التي جعلته أكثر التيارات الشيعية تغلغلاً في الأوساط الشعبية الشيعية وتقديمه الدعم والخدمات للفقراء، بشكل لم يستطع منافسه الأبرز سابقاً المجلس الإسلامي الأعلى (الذي كان يسمى المجلس الأعلى للثورة الإسلامية) وبقية التيارات الشيعية، مجاراته فيه، خاصة أن أغلب أتباع الصدر من فقراء الشيعة؛ مما يجعلهم مرتبطين بهالته الدينية وخطابه الاجتماعي الذي يخاطب مشكلاتهم.
ومع الشعارات التي أغلبها حماسي وملائم للمشكلات الاقتصادية والمشاعر القومية للعراقيين الشيعة، وحتى قطاع كبير من العراقيين السنة بل مجمل العرب، مثل الاستقلال ومحاربة الاحتلال ونفوذ إيران ومعارضة الفساد والتطبيع مع إسرائيل، وحتى انتقاد بشار الأسد، فإن أنصار هذا التيار يواصلون السير خلف قائده مهما كانت تقلباته غريبة، خاصة أن كثيراً من المواقف المتقلبة تكون ملتبسة وحمالة أوجه ويسهل التبرؤ منها مثل إعلانه الاعتزال قبل اقتحام أنصاره لمقري الرئاسة والحكومة الذي يجعله يستطيع القول إنه ليس مسؤولاً عما حدث.
ومما يزيد من تأثير التيار الصدري أن البدائل أمام شيعة العراق (وحتى مجمل العراقيين) إما ضعيفة وغير منظمة مثل المجموعات الشبابية وبقايا الحزب الشيوعي أو أنصاف الليبراليين المرتبطين بالغرب، أو القوى الشيعية الموالية لإيران والتي تجمع بين الفجاجة في تبعيتها لطهران بشكل يستفز الشعور القومي للشيعة العراقيين والفساد وسوء الإدارة بشكل يجعل الحياة لا تطاق في بلد يضم واحداً من أكبر احتياطات العالم في النفط ونهرين لا مثيل لهما في العالم العربي سوى في مصر وبقايا نخبة متعلمة كادت تصنع للعراق يوماً قنبلة ذرية.