بصورة متسارعة ومفزعة خرجت الأمور في العراق عن السيطرة، بعد إعلان مقتدى الصدر اعتزال العمل السياسي، وسالت الدماء في المنطقة الخضراء، فهل يقع العراق في فخ الحرب الأهلية؟
فمنذ الانتخابات البرلمانية المبكرة، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وحتى قبل يومين فقط، بدا أن طرفي الأزمة السياسية في العراق يسعيان إلى تجنب تحولها إلى حرب أهلية، لكن الأمور خرجت عن السيطرة، بعد فشل إيران في التقريب بين مقتدى الصدر والإطار التنسيقي بزعامة نوري المالكي.
والإطار التنسيقي هو المصطلح الذي يشير إلى الأحزاب الشيعية المدعومة من إيران، والتي خسرت أغلبيتها البرلمانية لصالح كتلة "سائرون"، التابعة للتيار الصدري، بزعامة مقتدى الصدر، وهو أيضاً تيار شيعي.
أراد مقتدى الصدر تشكيل "حكومة أغلبية وطنية لا شرقية ولا غربية"، أي لا تخضع لنفوذ إيران ولا لنفوذ الولايات المتحدة، لكنه فشل في الحصول على الأغلبية الكافية، فأوعز إلى نواب البرلمان من كتلته لتقديم استقالتهم، ما فتح الباب أمام الإطار التنسيقي لاختيار رئيس الحكومة، لكن الصدر اعترض وأوعز إلى أنصاره باقتحام البرلمان.
وسالت الدماء في العراق!
لكن الإثنين، 29 أغسطس/آب، تحولت الأزمة السياسية إلى حرب شوارع ضارية مع اندلاع اشتباكات في العاصمة بغداد، أودت بحياة نحو 20 شخصاً، بعد أن دفع قرار مقتدى الصدر الانسحاب من الحياة السياسية أنصاره إلى اقتحام المجمع الحكومي الضخم في بغداد، لتتحول الأوضاع إلى اشتباكات دامية مع أنصار "الإطار التنسيقي".
ومع حلول الليل، دوت أصوات نيران المدافع الرشاشة والانفجارات في المنطقة الخضراء، التي تضم مقار حكومية وسفارات أجنبية، في أسوأ قتال تشهده العاصمة العراقية منذ سنوات.
جاء ذلك عقب أعمال عنف على مدار اليوم، اندلعت بعد إعلان الصدر انسحابه من جميع الأنشطة السياسية، وهو قرار قال إنه جاء رداً على تقاعس زعماء وأحزاب شيعية أخرى عن إصلاح نظام حكم يصفه بالفاسد والمهترئ. وأعلن الصدر لاحقاً الإضراب عن الطعام؛ احتجاجاً على استخدام السلاح من قبل جميع الأطراف، بحسب رويترز.
المواجهة بين الصدر وخصومه، المدعومين في الغالب من إيران، دفع العراق إلى جولة أخرى من العنف في الوقت الذي يكافح فيه للتعافي من حرب وعقوبات وحرب أهلية وفساد مستشر على مدى عقود.
وقال مسؤولون أمنيون إن بعض الاشتباكات كانت بين مقاتلي سرايا السلام التابعة للصدر وأفراد من قوات الأمن العراقية المكلفة بحماية المنطقة الخضراء، لكن من المحتمل أيضاً أن تكون الجماعات المسلحة المتحالفة مع إيران متورطة فيها.
كان الصدر أعلن في بيان عبر تويتر "إنني الآن أعلن الاعتزال النهائي، وغلق كافة المؤسسات"، منتقداً زعماء الشيعة السياسيين الآخرين لعدم استجابتهم لدعواته للإصلاح.
وهاجم الموالون للصدر، الذين يحتلون مبنى البرلمان منذ أسابيع، مقر الحكومة في المنطقة الخضراء الآمنة ببغداد، كان في السابق قصراً لصدام حسين، حيث قفز بعضهم في حوض سباحة ولوحوا بالأعلام.
ثم اندلعت اشتباكات بين شبان موالين للصدر وأنصار الجماعات المسلحة المتحالفة مع إيران، إذ رشقوا بعضهم بعضاً بالحجارة قرب المنطقة الخضراء، قبل الاشتباكات المسلحة ليلاً. وقالت الشرطة وعاملون في القطاع الطبي إن ما لا يقل عن 17 شخصاً قتلوا وأصيب العشرات.
ومن جانبه، أعلن الجيش العراقي حظر تجول مفتوحاً في جميع أنحاء البلاد، وحث المتظاهرين على مغادرة المنطقة الخضراء.
شبح الحرب الأهلية يطل برأسه
التطورات الدامية ألقت بظلالها على العراقيين، الذين بات كثير منهم يخشى من أن تؤدي تحركات كل معسكر شيعي إلى اندلاع حرب أهلية جديدة. وقال كاظم هيثم، أحد أنصار الصدر لرويترز: "جاء الموالون (لإيران) وأحرقوا خيام الصدريين وهاجموا المتظاهرين".
بينما أنحت الجماعات الموالية لإيران باللوم على الصدريين في الاشتباكات ونفت إطلاق النار على أحد. وقال عضو في فصيل مسلح، طلب عدم الكشف عن هويته: "هذا غير صحيح، لو كان لدى أفرادنا سلاح فلماذا يحتاجون لرمي الحجارة؟".
وسبق أن انسحب الصدر من السياسة والحكومة وحل الفصائل الموالية له، لكنه يحتفظ بنفوذ واسع داخل مؤسسات الدولة، وما زال لديه فصيل مسلح يقدّر عدد أعضائه بعدة آلاف.
وغالباً ما كان يعود الصدر إلى نشاطه السياسي بعد إعلانات مماثلة، رغم أن الأزمة السياسية الحالية في العراق يبدو أنها عصية على الحل، مقارنة بفترات الشلل السابقة. وأدى المأزق الحالي بين الصدر ومنافسيه الشيعة إلى بقاء العراق من دون حكومة لأطول فترة في تاريخه.
ويزيد من خطورة الموقف أن أياً من الجانبين لا يبدو مستعداً للتراجع قيد أنملة في المواجهة المستمرة منذ 10 أشهر، والتي بدأت عندما خرج الصدر منتصراً في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول، وسعى بعدها لتشكيل حكومة وفقاً لشروطه، بيد أن خصومه عرقلوا مساعيه.
الانتخابات، التي أجريت الأحد، 10 أكتوبر/تشرين الأول، نتج عنها فوز كتلة "سائرون"، التابعة للتيار الصدري، بالصدارة بـ73 مقعداً في البرلمان البالغ إجمالي مقاعده 329، وتلتها كتلة "تقدم" برئاسة محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان المنتهية ولايته بـ38 مقعداً.
وفي المركز الثالث جاءت كتلة "دولة القانون" برئاسة نوري المالكي، رئيس الوزراء الأسبق بـ37 مقعداً، ثم الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود برزاني، وحصد 32 مقعداً.
وفاز تحالف "الفتح والبناء"، برئاسة القيادي في "الحشد الشعبي" هادي العامري بـ17 مقعداً فقط، بينما سجل تحالف "قوى الدولة الوطنية" برئاسة عمار الحكيم رئيس تيار "الحكمة"، المتحالف مع تحالف "النصر" برئاسة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي (2014-2018)، "التراجع الأكبر" بين القوائم والتحالفات الشيعية، بحصولهما على 4 مقاعد فقط. بينما حصدت أحزاب ناشئة وشخصيات مستقلة نحو 40 مقعداً.
وانضوت كتل "دولة القانون" برئاسة المالكي مع تحالف "الفتح والبناء" و"قوى الدولة الوطنية" وأحزاب شيعية أخرى، تحت لواء "الإطار التنسيقي"، الذي عرقل جميع محاولات الصدر لتشكيل الحكومة.
حمزة حداد، الباحث الضيف في المجلس الأوروبي للعلاقات الدولية (ECFR)، قال إن إعلان الصدر اعتزاله العمل السياسي "ليس واضحاً تماماً"، مضيفاً لوكالة فرانس برس: "بناء على مواقفه السابقة، يمكننا أن نتوقع منه التراجع (لكن) وهذا أكثر ما يخيف، قد يدعو هذا للاعتقاد بأنه يعطي أتباعه الضوء الأخضر لفعل ما يشاؤون، بقوله إنه لم يعد مسؤولاً عن أفعالهم".
من جانبه، قال الخبير الأمني والاستراتيجي، فاضل أبو رغيف، لوكالة فرانس برس، رداً على سؤال عن هدف التيار الصدري، إن "الهدف هو إرغام الزعامات السياسية التي تمسك سلطة البرلمان والحكومة على حل البرلمان، وإجراء انتخابات مبكرة".
ورأى أبو رغيف أن "العراق ذاهب إلى مزيد من الانسداد والاحتقان". مع ذلك، استبعد الخبير وقوع نزاع مسلح، قائلاً: "لا أعتقد أن الأمور تصل إلى حد الاقتتال وسفك الدماء" بين الأحزاب الشيعية، بحسب تحليل لموقع دويتش فيله الألماني.
ماذا يريد مقتدى الصدر فعلاً؟
لا شك أن إجابة هذا السؤال تحديداً أصبحت الشغل الشاغل للكثيرين، سواء من هم قلقون فعلاً على حاضر بلاد الرافدين، الذي لا يدعو للتفاؤل، أو بالنسبة للإدارة الأمريكية الحالية برئاسة جو بايدن، والتي لا تبدو مهتمة بما يحدث للعراق إلا من خلال مصالحها، أي من خلال صراع واشنطن وطهران بشكل أساسي.
مقتدى الصدر أصبح الرقم الأصعب على الساحة السياسية في العراق، ونظراً لتاريخه المتقلب ومواقفه المتأرجحة، من الصعب الحكم على ما قد يقدم عليه الآن. فاعتزال الصدر العمل السياسي ليس المرة الأولى، حيث فعلها من قبل، لكنه تراجع. ويفسر البعض إعلانه الآن اعتزال العمل السياسي على أنه إشارة خضراء لأنصاره، كي يفعلوا أي شيء لعرقلة مسعى خصومه تشكيل حكومة والمضي قدماً، وهو ما يعطيه في الوقت نفسه ذريعة للتنصل من المسؤولية حال خرجت الأمور عن السيطرة أكثر، ووصلت إلى حرب أهلية فعلاً.
وهذا الرأي هو ما يعتقده الأمريكيون في واشنطن، وعبّر عنه مقال رأي في موقع The National Interest الأمريكي، خلاصته أن مقتدى الصدر يريد أن يفرض بالقوة ما عجز عن فرضه بالتفاوض مع منافسيه المدعومين من إيران.
لكن بغض النظر عن مدى دقة هذا الرأي بشأن الصدر من عدمه، أصبح واضحاً لجميع الأطراف الآن أن هامش المناورات والمفاوضات من أجل الفوز بأكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية، مناصب حكومية أو غيرها، قد انتهى، ووصلت الأمور بالفعل إلى حافة الهاوية، فإما أخذ خطوة للوراء والعودة إلى طريق العقل وإما انهار كل شيء وخسر الجميع، لأن الحرب الأهلية عبارة عن وحش يأكل الأخضر واليابس.
وربما يكون هذا ما يدور في رأس مقتدى الصدر بالفعل، فالرجل يريد إجراء انتخابات برلمانية جديدة، بينما يرفض خصومه بزعامة الرئيس نوري المالكي هذا المخرج من الأزمة، لكن بعد أن وصلت الأمور إلى حافة الهاوية وأصبح شبح الحرب الأهلية حاضراً بقوة، ربما يكون الاحتكام مرة أخرى إلى صناديق الانتخابات هو الحل الوحيد المتاح، فهل هذا ما يريده الصدر فعلاً؟ وإذا كانت الإجابة نعم، هل يوافق الطرف الآخر؟ حقيقة الأمر هي أنه لا أحد يمكنه تقديم إجابات قاطعة على أي من تلك الأسئلة أو التنبؤ بما قد تسير إليه الأمور.
لكن الشيء الوحيد المؤكد هو أن العراقيين هم من يدفعون الثمن من أرزاقهم وأرواحهم ذاتها، إذ قال الجيش العراقي، الثلاثاء 30 أغسطس/آب، إن مسلحين أطلقوا عدة صواريخ على المنطقة الخضراء، بينما استمرت الاشتباكات المتفرقة لليوم الثاني.
وخلت الشوارع إلى حد كبير من المارّة، بينما جاب الشوارع مسلحون على متن شاحنات، وهم يحملون أسلحة آلية ويلوحون بقاذفات قنابل. وخلال الليل استمر إطلاق النار والصواريخ في أنحاء العاصمة العراقية.
كما دفعت سلسلة من الهجمات الصاروخية على حقل للغاز في شمال العراق المتعاقدين الأمريكيين، الذين يعملون في مشروع توسعة الحقل إلى حزم حقائبهم والرحيل، مما وجه ضربة لآمال المنطقة الكردية في زيادة إيراداتها، وتقديم بديل صغير للغاز الروسي.
كان مشروع توسعة حقل خور مور قد تم تعليقه في نهاية يونيو/حزيران، بعد ثلاث هجمات صاروخية. والمشروع تديره شركة بيرل بتروليوم، التي تمتلك شركة دانة غاز أبوظبي، ووحدة نفط الهلال التابعة لها الأغلبية فيها. وقالت مصادر في الصناعة، ومن الحكومة الكردية لرويترز، إن عمالاً من شركة إكستران في تكساس عادوا الشهر الماضي لاستئناف العمل، لكن صاروخين آخرين أصابا الموقع، في 25 يوليو/تموز؛ ما أجبر الشركة على المغادرة مرة أخرى دون تحديد موعد للعودة.
خور مور هو واحد من أكبر حقول الغاز في العراق، وتهدف الخطة الرامية لتوسعته إلى مضاعفة الإنتاج في منطقة في أمسّ الحاجة إلى مزيد من الغاز لتوليد الكهرباء، ووضع حد للانقطاع شبه اليومي للتيار الكهربائي.