تحمل زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر عدة ملفات ساخنة تشمل العلاقات الثنائية المثقلة بالجراح، وأيضاً القضايا الإقليمية التي تهم البلدين، وعلى رأسها أزمة الطاقة، التي خلَّفتها الحرب الروسية – الأوكرانية.
وزيارة ماكرون للجزائر تعدّ الأولى من نوعها في عهد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، والثانية له منذ تولِّيه الرئاسة في 2017.
وسيزور ماكرون الجزائر العاصمة ومدينة وهران (غرب)، ما بين 25 و27 أغسطس/آب الجاري، أي لثلاثة أيام، بعدما استغرقت زيارته الأولى 12 ساعة فقط في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة (1999-2019)، ما يعكس أن الرهانات المُعلقة على هذه الزيارة أعقد، والملفات التي ستبحث أكثر، لكن رغم ذلك فإن العديد من الملفات لن يحصل فيها ماكرون على ما يريد.
وتأتي هذه الزيارة بعد أربعة أشهر من انتخاب ماكرون لولاية رئاسية ثانية، في حين أن زيارته الأولى كانت بعد شهر واحد فقط من انتخابه رئيساً في مايو/أيار 2017.
وهذه دلالة أخرى على أن زيارة ماكرون الأولى للجزائر كانت تحمل طابع الاستعجال؛ لأن فوزه كان مفاجئاً، وحمل طعماً جزائرياً، بعد تصويت معظم الفرنسيين من أصول جزائرية لصالحه، خاصة بعد مقولته الشهيرة من الجزائر: "الاستعمار جريمة ضد الإنسانية".
فماكرون، كان يريد شكر بوتفليقة لدعمه في الرئاسيات، وأيضاً الاطلاع على حالته الصحية، التي كانت تمثل رهاناً على مستقبل الجزائر وعلاقتها بفرنسا.
بينما تحمل هذه الزيارة رهانات أعمق، فالسلطة الجديدة بالجزائر تسبح بعيداً عن النفوذ الفرنسي، وتوسع شراكاتها مع تركيا والصين وروسيا وإيطاليا، ما يهدد مصالح باريس في أكبر بلد إفريقي، خاصة أن نفوذها في كامل القارة السمراء يتزعزع، وصفتها كدولة عظمى أصبحت محل شك.
لذلك فهذه الزيارة أطول من حيث المدة ـوتأخرت أربعة أشهرـ ولم تأتِ ضمن جولة إفريقية تشمل أكثر من بلد، نظراً لتعقيد الملفات التي ستبحثها، وكثرة الرهانات دبلوماسياً واقتصادياً وتاريخياً وحتى جيوسياسياً.
ـ رأب الصدع من بوابة الذاكرة
لا شكَّ أن تصريحات ماكرون، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، التي نفى فيها وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي (1830-1962)، أحدثت شرخاً عميقاً في العلاقات بين البلدين، رغم أنها جاءت في سياق انتخابي، سعى من خلالها الرئيس الفرنسي لمغازلة اليمين المتطرف.
لكن صدى تلك التصريحات كان مختلفاً في الجزائر، التي استدعت سفيرها لدى باريس، ومنعت الطائرات العسكرية الفرنسية من التحليق فوق أجوائها.
وحتى وإن هدأت العاصفة قليلاً بعد تراجع ماكرون خطوةً إلى الوراء، وتعبيره عن أسفه "لسوء الفهم"، إلا أن سفينة المصالح الجزائرية واصلت الإبحار بعيداً عن الموانئ الفرنسية.
وكانت عودة السفير الجزائري إلى باريس، وإعادة فتح الأجواء الجزائرية أمام الطائرات العسكرية الفرنسية، ودعم الناخبين الفرنسيين من أصل جزائري لماكرون في الدور الثاني للرئاسة، ثم تهنئة الرئيس تبون لماكرون بفوزه بولاية رئاسية ثانية، ودعوته لزيارة الجزائر.. مؤشرات على استعداد الطرفين لبدء صفحة جديدة من العلاقات.
وماكرون، من جانبه، قام بعدة خطوات صغيرة، للاستجابة للمطالب الجزائرية بشأن ملف الذاكرة، على غرار إدانة "جرائم لا مبرر لها بالنسبة إلى الجمهورية" بحق الجزائريين، أثناء إحيائه ذكرى قتل الشرطة الفرنسية لمتظاهرين جزائريين في باريس في 17 أكتوبر 1961.
كما أمر بفتح جزء من الأرشيف الفرنسي المتعلق بالثورة الجزائرية (1954-1962)، والاعتراف بتعذيب وقتل المحامي والزعيم الجزائري علي بومنجل (1957)، وذلك ضمن توصيات تقدم بها المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا، لماكرون، في يناير/كانون الثاني 2022.
ناهيك عن تسليم جزء من جماجم مقاومين جزائريين كانت تحتفظ بها باريس في متحف الإنسان، منذ القرن التاسع عشر، حيث تم دفنها بمراسم رسمية في الجزائر.
ويمثل استقبال تبون لستورا، وهو مؤرخ له مكانته المحترمة في البلدين، إشارةً إلى إمكانية المضي معاً في عمل مشترك لتفكيك ألغام الذاكرة.
وتنتظر الجزائر من زيارة ماكرون أن تتوج باعتراف تاريخي لأول رئيس فرنسي بجرائم الاستعمار الفرنسي بالجزائر، خاصة أنه تحرر من ضغط لوبي اليمين المتطرف بعد فوزه بالرئاسة للمرة الثانية والأخيرة.
ولا تهتم الجزائر كثيراً بتلقي تعويضات من فرنسا عن الفترة الاستعمارية، لكن تُصر على دورها في المساعدة على التخلص من آثار 17 تجربة نووية فرنسية في الصحراء الجزائرية (1960-1966)، والتي ما زالت تهدد حياة الإنسان في المنطقة بسبب انتشار الإشعاعات النووية إلى اليوم.
ـ الرهان على الغاز الجزائري
لا يمكن أن يقبل ماكرون العودة من الجزائر دون ضمان حصة بلاده من الغاز الجزائري، الذي أصبح سلعة استراتيجية تتنافس عليها الدول الأوروبية بشكل محموم، بعد تراجع إمدادات الغاز الروسي، التي تشكل 40 بالمئة من احتياجات أوروبا من الغاز.
فاحتمال قطع روسيا، في الشتاء المقبل، إمدادات الغاز عن فرنسا والتي تصلها عبر أنبوب "نورد ستريم" المار من ألمانيا، يشكل هاجساً للفرنسيين، خاصة أن موسكو توفر17 بالمئة من احتياجاتها الغازية.
ويشكل الغاز الجزائري أحد البدائل لتعويض الغاز الروسي، بالنظر إلى قرب البلدين جغرافياً، إلا أنهما لا يرتبطان بأي أنبوب للغاز، ما يجعل فرنسا تعتمد بشكل أساسي على الغاز المسال الجزائري الأعلى سعراً، والذي يحتاج لبنية تحتية معقدة لتسييله من المنبع، ثم نقله في السفن، قبل إعادته إلى طبيعته الغازية، وهذا يتطلب استثمارات تستغرق وقتاً طويلاً لتنفيذها.
أحد الخيارات الأخرى أمام باريس إعادة إحياء مشروع "ميدكات" لنقل الغاز الجزائري المصدّر إلى إسبانيا نحو ألمانيا مروراً بفرنسا، خاصة أن المستشار الألماني أولاف شولتز دعا مؤخراً لإنشاء أنبوب يربط بين البرتغال وأوروبا الوسطى.
غير أن باريس لا تبدي حماسة لهذا المشروع، الذي قالت وزارة انتقال الطاقة الفرنسية، إنه سيستغرق "سنوات عديدة حتى يتم تشغيله" بين وقت إجراء الدراسات وأعمال التهيئة، ناهيك عن الطعون المحتملة التي قد يقدمها السكان المحليون ضد قرارات اقتطاع الأراضي التي سيمر عبرها الأنبوب، ما سبب خيبة أمل إسبانيا في إمكانية تحولها إلى مركز لإمداد أوروبا بالغاز، بحسب موقع إسبانيا بالعربي.
ويبقى الخيار الأكثر عملية بنسبة لفرنسا لمواجهة انقطاع إمدادات الغاز الروسي في الشتاء المقبل، الاعتماد على البنية التحتية الهامة لإسبانيا التي تملك 6 محطات لمعالجة الغاز (تسييل وإعادة تغويز) بما يسمح لها بنقل الغاز الجزائري عبر إسبانيا.
وهذه الخطة الفرنسية تحتاج إلى حللة الأزمة الجزائرية الإسبانية، بعد تغيير مدريد موقفها من الصحراء الغربية ودعمها للرؤية المغربية في الحكم الذاتي بدل الاستفتاء على تقرير المصير الذي تشرف عليه الأمم المتحدة، ما أغضب الجزائر وتسبب في تقليص إمداداتها لإسبانيا إلى النصف دون الإخلال بالعقود الموقعة بينهما.
ولا يوجد ماكرون في موقع قوة للتوسط بين الجزائر وإسبانيا والمغرب، خاصة أن علاقاته مع تبون ما زالت هشة، وبحاجة إلى إعادة ترميم، ومشروع "ميدكات" لا يحظى باهتمام فرنسا، رغم الحماسة الإسبانية الشديدة بشأنه، ناهيك عن إعادة تشغيل أنبوب المغرب العربي الذي يمر عبر المغرب.
ويبقى الخيار السريع والجاهز نقل الغاز الجزائري عبر أنبوب ميدغاز إلى إسبانيا ومنها يتم نقله عبر أنبوبين صغيرين إلى فرنسا، وهذا ما تم الاتفاق عليه في يوليو/تموز الماضي، بين شركتي سوناطراك الجزائرية وإنجي الفرنسية، دون الإعلان عن الكمية المتفق عليها.
لكن قدرات ميدغاز لا تتجاوز 8 مليارات متر مكعب سنوياً، وحتى بعد توسعته فلن تتجاوز 10.5 مليار متر مكعب، وهي حصة إسبانيا (9 مليارات متر مكعب) والبرتغال (مليار متر مكعب).
ومع تخفيض حصة إسبانيا إلى الحد الأدنى فمن المتوقع أن تستفيد فرنسا من زيادة حصتها من الغاز الجزائري.
ومن المرتقب أن يتحدث ماكرون وتبون حول زيادة الإمدادات الجزائرية من الغاز إلى فرنسا، بالتوازي مع زيادة استثمارات الشركات الفرنسية وعلى رأسها توتال في مشاريع التنقيب وإنتاج المحروقات.
لكن مصادر مطلعة لـ"عربي بوست" قالت إن الجزائر لن تستجيب لطلب ماكرون فيما يتعلق بهذا الأمر.
وبحسب المصادر، فإن الجزائر ترفض إمداد فرنسا بكميات إضافية من الغاز لأسباب سياسية وتقنية واستراتيجية.
ويتعلق السبب التقني بعدم قدرة الجزائر على إنتاج المزيد من الغاز في الوقت الراهن، خاصة أنها وقَّعت مؤخراً صفقة بأربعة مليارات دولار مع إيطاليا لزيادة إمدادتها الغازية.
وتصدر الجزائر نحو أيطاليا هذه السنة مستويات قياسية عبر أنبوب ترانسمد تصل إلى 26 مليار متر مكعب فيما تبلغ سعة الأنبوب الكاملة 32 مليار متر مكعب.
وقال الرئيس المدير العام لشركة سوناطراك توفيق حكار قبل أسابيع، إن الحقول تعمل بكامل طاقتها ولا يمكن تصدير المزيد حالياً.
ودعت الجزائر الشركات الأجنبية لا سيما الأوروبية للاستثمار في الاستكشافات الجديدة إذا كانت تطمح للحصول على الغاز مستقبلاً.
وخصصت الجزائر 40 مليار دولار للاستثمار في قطاع الطاقة خلال العشر سنوات القادمة.
أما السبب السياسي فيرتبط بالأزمة الدبلوماسية مع إسبانيا، إذ ترفض الجزائر أن تستفيد مدريد من أي قطرة غاز إضافية، بل قامت مؤخراً بتقليص إمداداتها وأعلمت حكومة بيدرو سانشيز بضرورة إعادة التفاوض حول الأسعار لمواكبة الأسعار العالمية الحالية.
وفيما يخص السبب الاستراتيجي فله صلة بحليفها الروسي الذي يضغط شمالاً على القارة الأوروبية بملف الغاز.
ولا تريد الجزائر خسارة حليفها الاستراتيجي لا سيما أنها على أعتاب توقيع اتفاقية استراتيجية شاملة معه خلال لقاء تبون وبوتين المرتقب.
وكان وزير خارجية روسيا قد زار الجزائر فجأة مع بداية الحرب الروسية – الأوكرانية وسط ضغوطات على الجزائر لزيادة إمدادات الغاز لأوروبا أملاً في تعويض الإمدادات الروسية التي قد تتوقف في أي لحظة.
الرغبة في عودة الشركات الفرنسية للجزائر
فبعد أن هيمنت شركة توتال على قطاع المحروقات الجزائري لعقود منذ الاستقلال، تراجعت مكانتها في التسعينات لصالح الشركات الأمريكية والبريطانية وعلى رأسها أناداركو و"بي بي"، أما اليوم فإن شركة إيني الإيطالية تحتل الصدارة في الاستثمار في قطاع المحروقات بالجزائر.
وفرنسا لا تريد أن تبقى على هامش الصراع الأوروبي على موارد الطاقة في أكبر بلد منتج ومصدر للغاز في إفريقيا، خاصة أن الاكتشافات الأخيرة للنفط والغاز في الجزائر تعطي صورة واعدة لمستقبل الطاقة في البلاد، والتي خصصت أكثر من 39 مليار دولار لتطوير هذا القطاع مع انتعاش الطلب وارتفاع الأسعار.
وماكرون يريد ضمان حصة شركات بلاده من المشاريع التي ستطلقها الجزائر، مع انتعاشة خزينتها، بالتزامن مع ارتفاع أسعار النفط والغاز إلى مستويات غير مسبوقة منذ 2014.
وزيارة ماكرون إلى وهران، التي تحتضن مشروعاً لتركيب سيارات رينو، وأيضاً أكبر استثمار فرنسي منذ وصوله إلى الرئاسة، والمتمثل في اتفاق لإنشاء أول مجمع بتروكيميائي في الجزائر، باستثمار قدره 1.4 مليار دولار، منها 49 بالمئة مساهمة توتال، و51 بالمئة مساهمة سوناطراك.
ـ إنقاذ النفوذ الفرنسي
وترغب فرنسا في استعادة هيمنتها على سوق السيارات بالجزائر، في ظل منافسة شرسة من العلامات اليابانية والكورية، وتقليص الجزائر من وارداتها.
ناهيك عن سعي باريس لعودة شركاتها للجزائر، خاصة تلك المتعلقة بقطاع الخدمات مثل تسيير شبكة الميترو والمياه وتركيب عربات الميترو، والحصول على صفقات لمشاريع مختلفة جديدة.
بينما تشدد الجزائر على ضرورة أن تتطور الشراكة بين البلدين إلى استثمارات ذات قيمة مضافة، وتتضمن نقل التكنولوجيا، بدل النظر إليها كسوق لمنتجاتها.
ويحاول ماكرون أن يستعيد مكانة بلاده كأول شريك تجاري للجزائر بعد أن سبقته الصين وإيطاليا، كما أن الاستثمارات التركية والقطرية والإماراتية تفوقت على نظيرتها الفرنسية.
ومكانة فرنسا في الجزائر تتداعى بضغط من الحراك الشعبي الذي أطاح بنظام بوتفليقة في 2019، ومع وصول تبون إلى الحكم، اتخذ عدة قرارات في هذا الشأن، على غرار تعليم اللغة الإنجليزية من المرحلة الابتدائية بدل المرحلة الإكمالية (المتوسطة).
ـ البحث عن حليف إقليمي
فشل القوات الفرنسية طيلة 9 سنوات في هزيمة الجماعات المسلحة في الساحل، وطردها من مالي، وانتشار المظاهرات التي تطالبها بالرحيل من النيجر وتشاد وبوركينا فاسو، دفع باريس إلى محاولة تغيير استراتيجيتها في المنطقة.
وتحتاج فرنسا إلى دعم جزائري في تنفيذ استراتيجي بالساحل الإفريقي، وأيضاً في ليبيا، أو على الأقل إبعادها عن التحالف مع روسيا.
فموسكو تبسط نفوذها في عدة دول بالمنطقة آخرها مالي، عبر شركة فاغنر، والتي تتواجد أيضاً في جمهورية إفريقيا الوسطى، وتسعى ليكون لها موطئ قدم في بوركينا فاسو وغينيا، وهي مستعمرات فرنسية سابقة.
والمفارقة أن كلاً من فرنسا وروسيا تدعمان قائد قوات الشرق الليبي خليفة حفتر، بينما تعترف الجزائر بحكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وتعارض تواجد أي قوات أجنبية في ليبيا سواء كانت روسية أو فرنسية على مقربة من حدودها.
وتحاول فرنسا إقناع الجزائر بتضييق الخناق على نظام عاصيمي غويتا، في مالي، الذي دخل في صراع حاد معها بدعم روسي، بينما تنظر الجزائر بعين الريبة إلى دور فرنسي مريب في عرقلة تنفيذ "اتفاق الجزائر" الموقع في 2015، بين المتمردين الطوارق وحكومة باماكو في الأقاليم الشمالية.
ومن الناحية الأمنية، تمثل روسيا الشريك الاستراتيجي الأول للجزائر، التي تستورد منها ثلثي أسلحتها، ما يجعل باريس عاجزة عن مجاراة موسكو في هذا الملف، خاصة أن الأسلحة الروسية رخيصة الثمن مقارنة بنظيرتها الغربية، ولا تتطلب شروطاً صعبة كتلك التي تضعها فرنسا.
لكن باريس لديها ما تحتاجه الجزائر، على غرار دعم موقفها في الاتحاد الأوروبي خاصة بشأن أزمتها مع إسبانيا والمغرب، ومسألة رفع حصتها من التأشيرات، بالنظر إلى تواجد جالية جزائرية كبيرة في فرنسا، تتراوح بين 2 و7 ملايين بحسب تقديرات متباينة، تجعل الحركة بين البلدين كثيفة خاصة بالنسبة للعائلات.
بالمقابل، تسعى فرنسا للاتفاق مع الجزائر بشأن ملف الهجرة غير النظامية، وإقناعها باستقبال مواطنيها الذين صدرت قرارات ترحيل بحقهم، بأكثر مرونة، فيما تطلب الجزائر بأن يكون المهاجرون المرحلون يحملون ما يثبت أنهم جزائريون.
كما يشكل القمح الفرنسي سلاحاً ذا حدين، فالجزائر تسعى لتقليص اعتمادها على القمح الفرنسي والتوجه نحو شراء القمح الروسي، الأقل جودة، لكن الحرب الروسية الأوكرانية رفعت الأسعار، وجفاف الأنهار في عدة بلدان مصدرة للقمح بينها فرنسا، من شأنه الإضرار بمحاصيل القمح، وليس فقط رفع أسعاره، بل قد يصبح سلعة مفقودة في الأسواق الدولية.
فمن مصلحة الجزائر عدم خسارة السوق الفرنسي، بالتوازي مع انفتاحها على القمح الروسي.
وزيارة ماكرون إلى الجزائر من شأنها إعادة رسم معالم الشراكة الاستراتيجية بين البلدين خلال الأعوام القليلة المقبلة، ومفتاح هذه الشراكة سيكون من البوابة التاريخية عبر اعتذار رسمي بجرائم الاستعمار الفرنسي بالجزائر.
ويمثل التعاون الطاقوي، المفتاح الثاني لإقامة شراكة استراتيجية ليس فقط مع فرنسا وإنما مع أوروبا ككل، بما يتضمن توسيع استثمارات توتال في قطاح المحروقات من الاستكشاف والاستخراج إلى النقل نحو وسط أوروبا وبالأخص ألمانيا، وهو هدف سعت له الجزائر منذ عقود لكن أوروبا اختارت روسيا.
والمفتاح الثالث أن تُوسع فرنسا استشماراتها في القطاعات خارج المحروقات، خاصة الصناعية منها وبالأخص تركيب وتصنيع السيارات، وعدم الاقتصار على الجوانب التجارية.
والمفتاح الرابع التعاون الإقليمي في ليبيا والساحل، بما يسمح لضمان استقرار هذه البلدان، ودعم خيار الانتخابات، بالإضافة إلى التنسيق في ملف الصحراء الغربية، ودعم المسار الأممي، وجهود المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا.
وهذه المفاتيح الأربعة، التي بها يمكن لماكرون، فتح الأبواب الموصدة أمام إمكانية إقامة شراكة استراتيجية مع الجزائر.
العودة إلى الفرنسة
كشفت مصادر مطلعة لـ"عربي بوست" أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعتزم فتح ملف تراجع اللغة الفرنسية في الجزائر خلال لقائه بالرئيس عبدالمجيد تبون.
وكان مجلس الوزراء برئاسة تبون أقر تدريس اللغة الإنجليزية في الطور الابتدائي بداية من الموسم الدراسي الجديد لتزاحم بذلك الفرنسية.
ووصف تبون اللغة الفرنسية في آخر حوار تلفزيوني له بمجرد "غنيمة الحرب"، مؤكداً أن اللغة العالمية هي اللغة الإنجليزية.
وتظل فرنسا شديدة الحساسية تجاه ثقافتها وتعتبرها قضية جيوسياسية، حيث ترى في اللغة ضامناً لاستمرار مصالحها في الجزائر، وضمان حضورها الثقافي والفكري في البلاد.
وبالإضافة إلى تمسك باريس بامتيازاتها الاقتصادية في الجزائر، تسعى جاهدة للحفاظ على نفوذها الثقافي؛ لأنه الضامن لصالحها، فطالما هي مهيمنة ثقافياً ولغوياً على أكبر دولة في إفريقيا ستبقى مهيمنة اقتصادياً كذلك.
رد تبون
قالت مواقع مقربة من الرئاسة الجزائرية إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيكون عليه سماع تصريحات وإيجابات نظيره الجزائري عبد المجيد تبون عبر الصوت الذي يصله من الترجمة الفورية من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية على غير العادة.
وحسب المواقع ذاتها، فإن الرئيس الجزائري قرر الحديث باللغة العربية مع ماكرون رغم إتقانه اللغة الفرنسية، وذلك لإيصال رسائل واضحة للطرف الفرنسي مفادها بأن عهد اللغة الفرنسية انتهى.
وتعود الرؤساء في الجزائر على مخاطبة نظرائهم من فرنسا باللغة الفرنسية، بل كان بعضهم يخاطب الشعب الجزائري بلغة موليير على غرار عبد العزيز بوتفليقة الذي أقال رئيس المجلس الأعلى للغة العربية في البلاد بعد أن نصحه بعدم الحديث بالفرنسية إلى الشعب عبر التلفزيون الرسمي.
هل انتهى زمن الفرنكوفونية؟
رغم أن العلاقة بين الجزائر واللغة الفرنسية معقدة، فإنها تظل ثالث دولة ناطقة بالفرنسية بعد فرنسا وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
وتسعى فرنسا منذ سنوات لضم الجزائر إلى منظمة الفرانكوفونية دون جدوى.
وشارك الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة سنة 2008 في قمة الفرانكفونية في بيروت كعضو مراقب.
وفي 2017، نشر مجلس الشيوخ الفرنسي تقريراً تساءل فيه عن أسباب عدم التزام الجزائر بمنظمة البلدان الناطقة بالفرنسية على الرغم من الانتشار الواسع لهذه اللغة.
ولطالما سعت باريس من خلال مؤسساتها في الجزائر إلى تعزيز هيمنتها اللغوية، لا سيما من خلال المركز الثقافي الفرنسي.