التعاون العلمي الدولي يسرع وتيرة الكشف عن الأوبئة واكتشاف اللقاحات وعلاجات الأمراض الفتاكة، إضافة إلى اكتشاف أسرار الكون، لكن أي حرب باردة جديدة تصيب البحث العلمي في مقتل، وجائحة كورونا الحالية خير دليل.
كان وباء كورونا قد ظهر مطلع عام 2020 في مدينة ووهان الصينية، وتم اكتشاف لقاحات متعددة، منها ما هو أمريكي أو بريطاني أو صيني أو روسي، منذ أواخر العام نفسه، إلا أن عدوى الفيروس لا تزال موجودة، وتمثل خطراً صحياً داهماً، حيث لم يتم الإعلان بعد عن انتهاء الجائحة رغم تراجعها بشكل لافت.
ورغم مرور ما يقرب من 3 سنوات على ظهور الفيروس، الذي أصيب به ما يقرب من 602 مليون شخص حول العالم، فقد منهم أكثر من 6 ملايين و474 شخصاً حياتهم، إلا أن معلومات أساسية بشأنه مثل منشأه وطبيعته، لا تزال غير متوفرة حتى الآن، والسبب الرئيسي هو غياب التعاون الدولي، في ظل حرب باردة جديدة بين الغرب من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، تسببت في تقليص دور المنظمات الدولية وأصابتها بحالة تشبه الشلل.
حرب أوكرانيا والتقدم العلمي
ومع اندلاع الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو"، ارتفعت وتيرة الاستقطاب بين الغرب وروسيا والصين، وتحول التنافس إلى صراع، ويعاني العالم أجمع من تداعيات ذلك الصراع الآن.
ارتفعت أسعار الغذاء بصورة تهدد مئات الملايين بالجوع، وتباطأ الاقتصاد العالمي بفعل التضخم، وارتفعت الأسعار واختنقت سلاسل التوريد، بفعل الجائحة أولاً، وفاقمتها الحرب الباردة كذلك، ولا توجد مؤشرات فعلية على حالة العداء المتنامية والخطرة، أنها في طريقها إلى الانحسار قريباً.
وتناول مقال نشرته صحيفة The New York Times الأمريكية، كتبه مايكل ريوردن، اختصاصي الفيزياء والكاتب المهتم بموضوعات عن العلوم والتكنولوجيا والسياسات العامة، تناول تداعيات الصراع الدولي على مجال البحث العلمي وتطبيقاته التي تحتاج للتعاون بسبب ضخامة الاستثمارات المادية والبشرية.
تكمن إحدى العواقب المؤسفة للهجوم الروسي ضد أوكرانيا في الأضرار الجانبية التي أصابت التعاون العلمي الدولي، فبعد أن شهد العقدان الماضيان ما يمكن وصفه بأنه ذروة هذا التعاون، يبدو الآن أن هذا التعاون سيتوقف مؤقتاً، على أقل تقدير، إن لم ينته تماماً.
في السنوات التالية للحرب الباردة التي انتهت عام 1991، لجأ العلماء الروس بوتيرة متزايدة إلى أوروبا والولايات المتحدة كي يبقوا منخرطين في البحوث الرائدة. ومن خلال جهود الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، وخليفته بيل كلينتون، صارت "المحطة الفضائية الحرية" الأمريكية تعرف بمحطة الفضاء الدولية، التي تضم إسهامات رئيسية من كندا واليابان والدول الأوروبية وأيضاً روسيا، بوصفها شركاء لها.
كيف استفاد البحث العلمي من انتهاء الحرب الباردة؟
بين عامي 1993 و1996، وقعت الوكالة الروسية المسؤولة عن الطاقة الذرية على اتفاقيات مع المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية، المعروفة باسم CERN، وأسهمت بالمال والمعدات والقدرات العقلية في مشروع مصادم الهدرونات الكبير. أدى ذلك المشروع إلى الاكتشاف "بوزون هيغز" في عام 2012، وهو عبارة عن جسيم دون ذري ثقيل يُكسب الكتلة إلى الجسيمات الأولية الأخرى. وقد أشارت التنبؤات قبل نصف قرن إلى وجوده.
خلال تسعينيات القرن الماضي، انضمت جامعة لومونوسوف موسكو الحكومية إلى كيان ليغو للتعاون العلمي، الذي أعلن في عام 2016 وجود أدلة بارزة على اندماج الثقوب السوداء الهائلة. أكد الاكتشاف على التنبؤ المذكور في نظرية النسبية العامة للعالم ألبرت إينشتاين، التي تقول إن الأحداث الكارثية مثل اندماج ثقبين أسودين- وفي هذه الحالة يبعدان حوالي 1.3 مليار سنة ضوئية عن كوكبنا- تخلق تموجات في الزمكان تُعرف باسم "الأمواج الثقالية".
لكن روسيا قررت مؤخراً إنهاء مشاركتها في المحطة الدولية بعد عام 2025، وقالت المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية إنها لن تسمح للمعاهد الروسية بالمشاركة في تجارب المصادم بعد انتهاء عقودها مع روسيا ذلك العام. الأكثر من هذا أن وكالة الفضاء الأوروبية استبعدت روسيا من مشروع المركبة الفضائية إكسو مارس، برغم التأخيرات التي ستستمر لسنوات، والتي يُرجح أنها ستنتج عن ذلك.
وفي هذا السياق كانت روسيا قد أجرت، أواخر العام الماضي، تجربة صاروخية في الفضاء؛ ما أثار غضباً أمريكياً وبدأ الحديث مجدداً عن مخاطر "عسكرة الفضاء"، رغم أن سباق التسلح في الفضاء كان في الأساس فكرة أمريكية منذ رئاسة رونالد ريغان، الذي أطلق برنامج "حرب النجوم"، رغم أن ذلك البرنامج لم يحقق اختراقات تذكر وتخلت عنه واشنطن لاحقاً.
ورغم جهود روسيا في دعم مشروع الليزر بالأشعة السينية الذي يُعرف باسم European XFEL في ألمانيا، والذي مهد الطريق أمام فرص جديدة للبحوث في علوم المواد والبيولوجيا والفيزياء، فإن العلماء والمؤسسات في روسيا لا يستطيعون (على الأقل في الوقت الراهن) أن يؤدوا تجارب جديدة في هذه المنشآت.
لقد تقدم البحث العلمي منذ الحرب الباردة، لدرجة أن المشروعات الدولية الضخمة المُكلفة هي الطريقة الوحيدة للتقدم إلى الأمام في عديد من التخصصات. إذ إن الدول بمفردها لم تعد قادرة على توفير الموارد المالية والفكرية اللازمة لمواصلة هذا التقدم العلمي من جانب واحد. فيمكن للتراجع الحالي عن المشاركة الروسية في هذه المشروعات الكبيرة أن يقلص بهذه الطريقة وبكل سهولة من التقدم العلمي، فضلاً عن إضعاف العلاقات الدولية على نطاق أوسع.
تأسست منظمة CERN في إحدى ضواحي جنيف في بدايات العقد السادس من القرن الماضي، بهدف تعزيز التعاون السلمي بين الدول الأوروبية، التي عاصرت حربين كارثيتين خلال الأربعين عاماً السابقة لتأسيس المنظمة. ارتأى مؤسسو المنظمة أن الفيزياء النووية وفيزياء الطاقة العالية هي المجالات الواعدة التي تدعو إلى التعاون.
وقد نجحت المنظمة في ذلك، مع اكتشاف بوزونات دبليو وزد -التي تُعد مُجتمِعةً مسؤولةً عن إحدى القوى الأربع الأساسية التي تحكم سلوك المادة في الكون- رسخت منظمة CERN نفسها بوصفها المختبر الأول في العالم في تخصص فيزياء الطاقة العالية. وبالنسبة لكثير من القادة الأوروبيين، صارت أسمى تعريف للوحدة القارية، وسبباً كافياً للموافقة على مشروع مصادم الهدرونات الكبير في تسعينيات القرن الماضي، الذي يُكلف مليارات الدولارات.
اكتشاف الفضاء والطاقة المتجددة ومجالات أخرى
بعد حل الاتحاد السوفييتي في عام 1991، انهارت تمويلات العديد من معاهده المتخصصة في البحوث العلمية. صارت منظمة CERN الوجهة الرئيسية، حيث يستطيع المتخصصون الروس في مجال فيزياء الطاقة العالية مواصلة بحوثهم المتطورة. وبدأت منظمة CERN في البحث عن تمويلات إضافية من أجل مشروع مصادم الهدرونات الكبير من خارج الدول الأوروبية.
انضم الفيزيائيون من المعهد المشترك للبحوث النووية الروسي إلى تجربة لولب مركب للميون العملاقة في هذا المشروع، وأسهموا في تصميمها وقدموا إسهامات متطورة. ويمكن أن يُعزى الفضل إليهم في إسهامهم في اكتشاف بوزون هيغز، الذي ربما يعد ذروة الإنجاز العلمي الدولي.
صارت روسيا طرفاً مهماً في "مختبر عالمي" متماسك عن طريق الإنترنت والشبكة العنكبوتية العالمية، الذي يضم الآن كندا والصين والهند واليابان والولايات المتحدة وكثيراً من الدول غير الأوروبية.
كان جزء من المنطق وراء تأسيس منظمة CERN يرمي إلى تعزيز التفاهم الدولي بين الباحثين، الذين يعملون من أجل الوصول إلى الأهداف العلمية المشتركة. وقد أثبتت أنها مكان رائع متعدد اللغات، صحيحٌ أن اللغتين الإنجليزية والفرنسية تهيمنان على المحادثات في المختبرات والمكاتب والكافيتريا، لكن الاختلافات الوطنية يبدو أنها تختفي وسط هذا التبادل التقني القوي والطعام الجيد.
لكن هذه الصداقات العلمية بدأت تنحل عقدتها عندما شن أحد الأطراف المشاركة هجوماً وحشياً ضد طرف آخر. خلال الشهر الأول للهجوم الروسي ضد أوكرانيا، وقع آلاف العلماء الروس على عريضة تعارض الهجوم وتحملوا مخاطر كبيرة على أرزاقهم ومسيرتهم المهنية. وعلى النقيض من ذلك، سارت المعاهد العلمية الروسية على خطى الكرملين، فهي تعتمد على الدعم المستمر منه.
قد يستمر التعاون على أساس العلاقات بين الأفراد مع بعض العلماء الروس. فهذا التبادل الفكري ذو قيمة بكل تأكيد. ولكن يسهل على المرء تخيل استمرار التراجعات والانسحابات على صعيد المشروعات العلمية الكبيرة الأخرى، إذا لم يكن ذلك يحدث على قدم وساق بالفعل، على حساب العلاقات الدولية في العموم.
يمكن أن يشكل هذا جانباً مؤسفاً من التشعبات المتجددة في النظام العالمي، التي تعد شبيهة للغاية بما حدث خلال الحرب الباردة، بحسب ريوردن، الذي تمنى أن تتمكن الروابط العلمية القوية التي ترسخت خلال العقود الثلاثة الماضية من النجاة، وأن تساعد في إقامة علاقات أوسع مجدداً بين الشرق والغرب.