تحولت الفيضانات في السودان إلى كارثة شبه موسمية، ازدادت معدلات تكرارها بشكل كبير، الأمر الذي يثير تساؤلات حول أسباب تزايد وتيرة هذه الظاهرة، ولماذا تعد الكارثة أخطر هذا العام من الأعوام السابقة، وأسباب عدم الاستعداد لها رغم أنها تحدث في موعد معروف سلفاً.
وأعلنت السلطات السودانية، الثلاثاء، أن حصيلة من لقوا مصرعهم جراء السيول والفيضانات، منذ يونيو/حزيران الماضي، ارتفعت إلى 89 شخصاً، فيما وصل عدد المصابين إلى 36 آخرين.
وقال المجلس القومي للدفاع المدني، في بيان، إن السيول والفيضانات أسفرت عن "انهيار 19 ألفاً و864 منزلاً كلياً، و30 ألفاً و166 جزئياً، وتضرر 61 من المرافق، و69 من المتاجر والمخازن.
وأعلن مجلس الوزراء السوداني حالة الطوارئ في 6 ولايات بالبلاد، على خلفية السيول والأمطار الغزيرة، هي نهر النيل (شمال) والجزيرة (وسط) والنيل الأبيض وغرب كردفان (جنوب) وجنوب دارفور (غرب) وكسلا (شرق).
وتوقعت الجهات الأممية تفاقم الأزمة، حيث أفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (الأوتشا) أن 460 ألف شخص قد يتأثرون بالفيضانات، وفق خطة الاستجابة لحالات الطوارئ في السودان لعام 2022.
وقال وكيل وزارة الخارجية السودانية السفير دفع الله الحاج علي، الأحد، إنَّ السيول والأمطار تسببت في تدهور الأوضاع الصحية في كثير من المناطق التي تأثرت بها، بحسب وكالة الأنباء السودانية.
وأوضح أن المناطق المتأثرة في حاجة لمساعدات عاجلة لإيواء المتضررين مثل الخيام والأدوية والأمصال.
وأعلن عدد من الدول، في مقدمتها السعودية ومصر وقطر والإمارات والكويت وتركيا عن إرسال مساعدات إغاثية عاجلة للسودان.
وفي سياق متصل، أعلن رئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان فولكر بيرتس، الإثنين، وصول مساعدات إلى 40 ألف شخص من المتضررين بالسيول والفيضانات، مؤكداً أن الكثيرين سيحتاجون إلى المساعدة في الأسابيع المقبلة.
ويستمر موسم الأمطار الخريفية في السودان، من يونيو/حزيران إلى أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، وتهطل عادة أمطار غزيرة في هذه الفترة.
وفي بعض المناطق قطعت السيول الطرق، ما جعل من الصعب على السكان الهروب من الكارثة.
أسباب تزايُد وتيرة الفيضانات في السودان وارتفاع عدد الضحايا
زاد منسوب المياه المتدفقة من إثيوبيا عبر النيل الأزرق -وهو الرافد الرئيسي لنهر النيل في السودان- مع استمرار هطول الأمطار، فامتلأت فروع النيل وروافده، ليخرج وضع المياه عن السيطرة.
وأرجع وزير الري والموارد المائية المكلف، المهندس ضو البيت عبد الرحمن، الفيضانات والسيول بمدينة المناقل إلى فتح قنوات وممرات مائية بالخطأ، ما نجم عنه تدفق المياه من النيل الأزرق وروافده.
ونفى تصفية وزارة الموارد مياه النيل الأزرق في مدينة المناقل كما يتداول البعض، مشيراً إلى أن حجم الأمطار هذا العام مرتفع بنسبة 53 ملم، والسيول أعلى 24 مرة من سيول وفيضانات العام 1985.
وعزا العميد عبد الجليل عبد الرحيم، المتحدث الرسمي باسم الدفاع المدني، العدد الكبير للقتلى نتيجة الأمطار الغزيرة إلى حركة الناس داخل المدن أثناء تدفق السيول والفيضانات، ما أدى إلى غرقهم.
وقال في حديث لموقع الحرة الأمريكي، إن الولايات الأكثر تضرراً في السودان هي نهر النيل والجزيرة وجنوب دارفور وجنوب كردفان وكسلا.
وغمرت مياه السيول معظم أراضي ولاية الجزيرة، لدرجة أن الأهالي كانوا يبحثون عن أرض جافة لدفن الضحايا.
لماذا تتكرر الكارثة كل صيف؟
تكرار كارثة الفيضانات في السودان هذا العام بعد عامين من كارثة مماثلة في 2020، يثير تساؤلات حول أسباب تزايد معدلات تكرار هذه الكارثة، وهل ذلك بسبب إدارة حكومية أم تغيّرات مناخية أم بسبب الأنشطة البشرية، أم أن سد النهضة الإثيوبي قد يكون هو السبب، أم مزيج من كل هذه الأسباب.
ومنذ بداية رصد منسوب المياه عام 1902 اعتاد السودان ما تخلفه الفيضانات من آثار سنوياً في الفترة من مايو/أيار إلى أكتوبر/تشرين الأول. وهي الفترة التي تصحبها غزارة في الأمطار مع ازياد منسوب المياه في الأنهار والأودية.
في عام 2020 كان الفيضان الأكثر تدميراً، الذي تسبب في مقتل 138 شخصاً وغمر 100 ألف منزل. فيما أعلنت السلطات السودانية وقتها مناطق كوارث وأعلنت حالة الطوارئ في البلاد لثلاثة أشهر.
لكن الفيضانات في السودان هذه السنة تعد من أكبر وأشد المرات ضرراً، متجاوزة في دمارها فيضانات عامي 1946 و1988 التي كانت تعتبر الأسوأ. فقد وصل الفيضان مناطق لم تصلها مياه النهر من قبل، وما زالت مناطق أخرى في مجرى النيل مهددة، مع تواصل ارتفاع منسوب المياه، وسط تقارير عن احتمال هطول مزيد من الأمطار.
إذ تشير التنبؤات في المركز العربي الإقليمي للطقس إلى استمرار تشكل السحب الركامية ذات الخصائص المدارية على مناطق مختلفة من السودان، وتحديداً المحافظات الجنوبية خلال الأيام المقبلة، ما قد ينتج عنه أمطار غزيرة للغاية، مصحوبة بعواصف رعدية، ما يعني استمرار فرص حدوث السيول والأمطار والفيضانات.
العسكريون يُرجعون الكارثة لتقصير الحكومات السابقة
وفي تصريحات عن السيول والفيضانات في السودان، اعتبر رئيس المجلس السيادي، الفريق عبد الفتاح البرهان، أنَّ "هنالك تقصيراً من الدولة طيلة السنوات الماضية في كافة المجالات"، لافتاً إلى أن السيول أدت إلى "تضرر كبير في البنية التحتية، خاصة المصارف والجسور".
تجدر الإشارة إلى أن العسكريين بقيادة البرهان يتولون السلطة في البلاد منذ عام 2019، أي منذ ثلاث سنوات، عقب الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، وخلال تلك الفترة تولت الإدارة المدنية حكومة انتقالية بقيادة عبد الله حمدوك، ثم أطاح بها البرهان.
السدود عاجزة عن كبح المياه
ستة سدود على نهر النيل في السودان تقف عاجزة أمام الفيضانات الكاسرة، لأنها خزانات قديمة، وسعاتها لا تكفي لاستيعاب الكمّ الضخم لمياه الأمطار الموسمية، خاصة حين يقترن فيضان النيل الأزرق وفيضان النيل الأبيض، حسبما ورد في تقرير لموقع "مصر 360".
فخزان "سنار" على النيل الأزرق تم بناؤه عام 1925 بسعة تخزين 0.07 مليار متر مكعب. وخزان "جبل أولياء" تم بناؤه عام 1937 على النيل الأبيض بسعة 0.3 مليار متر مكعب. فيما خزان "خشم القربة" على نهر عطبرة سعة تخزينه تصل إلى 0.8 مليار متر مكعب، وقد تم بناؤه عام 1964.
أما سد "الروصيرص" على النيل الأزرق فقد أنشئ عام 1966. وفي عام 2014 تمت تعليته ليصل إلى سعة 0.7 مليار متر مكعب. وسد "مروي" على نهر النيل بُني عام 2009 بسعة 12.45 مليار متر مكعب. وأخيراً "مجمع سدي أعالي عطربة وستيت"، وهو ما زال تحت الإنشاء.
سد النهضة، هل يمثل خطراً على السودان أم سيُسهم في حمايته؟
السؤال الذي أثاره، ليس السودانيون فقط، وإنما أيضاً المصريون وبقية العرب: هل هناك علاقة بين الفيضانات في السودان وسد النهضة الإثيوبي، وهو تكهن تُعلي من شأنه التقارير الإعلامية المصرية خاصة.
ويعدّ نهر النيل أطول أنهار العالم، ويبلغ طوله نحو 6853 كيلومتراً. وتجري مياه النيل الأزرق الرافد الرئيس في تضاريس معقدة داخل إثيوبيا في أعماق سحيقة، مخترقة الهضبة الإثيوبية إلى منطقة بني شنقو ثم إلى الحدود السودانية حيث ينحدر النهر بقوة من الهضبة الإثيوبية المرتفعة لسهول السودان.
وهذا الموسم ارتفع منسوب مياه نهر النيل الأزرق، الذي يلتقي النيل الأبيض في الخرطوم، بشكل، وصفه الخبراء والمسؤولون، بالتاريخي، والذي "لم يشهدوه منذ بدء رصد مستوى المياه في النهر عام 1902".
ولكن نائب رئيس الجهاز الفني لوزارة الريّ والموارد المائية، حسن أبو البشر، أكد أنه "لا يوجد رابط ما بين بناء سد النهضة الإثيوبي والسيول والفيضانات في السودان"، حسبما نقلت عنه صحيفة "السودان اليوم".
بل على العكس يرى خبراء سودانيون أن افتقار السودان لسدود كبيرة يزيد تأثير الفيضانات، ويلمح بعضهم إلى أن سد النهضة إذا عمل بكافة طاقته سوف يقلل خطر الفيضانات على السودان.
ويقول سلمان محمد، الخبير السوداني في قانون وسياسة المياه الدولية، إن سد أسوان في مصر يوضح كيف يمكن تنظيم مياه الفيضانات بشكل فعال على نهر النيل، حسبما ورد في تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "BBC".
وأضاف: "لقد فقدنا أشخاصاً وممتلكات بمليارات الجنيهات، لكن انظر إلى مصر لم يفقدوا شتلة واحدة، لأنهم عادةً ما يحتفظون بمياه الفيضان في السد العالي وليس لدينا مثل هذا، لذا فإن السد الإثيوبي كان من الممكن أن ينقذ كل ذلك".
ويقول الدكتور محمد، وهو زميل في الرابطة الدولية للموارد المائية: "لكن سدود السودان صغيرة جداً"، مشيراً إلى أن "مصر تمكنت من استخدام مياه السيول التي جمعتها لمشاريعها الزراعية في الصحراء".
ولكن حتى لو كان سد النهضة يمكن أن يقلل من تداعيات الفيضانات في السودان، ولكنه أيضاً يمكن أن يسبب العكس، إذا فتحته إثيوبيا في أوقات الفيضان المرتفع بدون مراعاة ظروف السودان قد يعني إضافة مزيد من المياه في الوقت الخطأ، وبالفعل فقد اشتكى السودان مراراً من أن إثيوبيا تحجز المياه خلف السد وتطلقها دون أي تنسيق مع السودان، وهي تصر على أن تفعل ذلك دون حتى إبلاغ الخرطوم.
وسبق أن قال وزير الري والموارد المائية السوداني السابق ياسر عباس، في 23 يونيو/حزيران 2020، إن "الآثار الإيجابية المحتملة لسد النهضة على السودان يمكن أن تتحول إلى مخاطر، دون اتفاق حول الملء والتشغيل".
وتبدو الخرطوم قلقة بشأن تأثير سد النهضة تحديداً على سد الروصيرص السوداني على النيل الأزرق، والذي يبعد فقط 100 كيلومتر عن سد النهضة.
وسبق أن قال خبير السدود الدولي أحمد الشناوي، في مقابلة مع وكالة "سبوتنيك" الروسية، إن المنطقة التي يتم بناء سد النهضة الإثيوبي عليها هي "منطقة فوالق"، مؤكداً أنه "لا يجب أن يتم بناء السدود عليها من الأساس".
وتابع الخبير الدولي المصري : "الأمر لا يتعلق فقط بتصميم السد الأسمنتي وما به من عيون لتمرير المياه، التي يمكن أن تسمح بارتفاع منسوب المياه عن المجاري المخصصة لها، ما يُسبب حالة غمر مفاجئة شديدة الكثافة"، لكن أيضاً لأن "منطقة تخزين المياه الواقعة في قلب التربة القائمة على الفوالق يمكن أن تتسبب في تسريب على جانبي مساحة التخزين".
وأوضح: "في الحالتين، حالة الغمر الشديد والمفاجئ أو حالة التسريب الجانبي الناجم عن ضغط التخزين يمكن أن تحدث انهيار السد بصورة مفاجئة، ما يتسبب في كارثة تتجاوز إثيوبيا إلى السودان بجنوبه وشماله، ثم إلى داخل صعيد مصر"، حسب قوله.
التغيرات المناخية
أصبحت الأمطار الطويلة، التي تبدأ في مايو/أيار وتستمر حتى أكتوبر/تشرين الأول، أكثر كثافة مع حدوث فيضانات مفاجئة في السنوات الأخيرة، وفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
ويعد السودان من أكثر بلدان العالم عرضة لتغير المناخ، والأقل استعداداً للتكيف مع آثاره.
وصنف تقرير صدر عام 2019 السودان على أنه واحد من أكثر 10 دول تأثراً بتغير المناخ، وأحدث البيانات تضع البلاد في المرتبة السادسة، الأكثر عرضة للخطر بناءً على ضعفها وقدرتها على الاستجابة.
ومما يزيد ضعف السودان أمام التغيرات المناخية هو الجفاف وتقلب هطول الأمطار، وكذلك حقيقة أن العديد من سكانه يعتمدون على الزراعة والرعي في معيشتهم.
إضافة إلى أن الصراع المستمر وعدم الاستقرار يجعل الحياة صعبة على المدنيين السودانيين، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى النزوح، ويخلق طلباً أكبر على الموارد المحدودة بالفعل.
توسع الأنشطة البشرية بدون تخطيط
"الفيضانات بصورة عامة غير مضرة، ولكن ما يفاقم من آثارها الكارثية هو التوسع السكني في السهل الفيضي للنهر، ونشاطات الإنسان المختلفة، وضعف التوعية من مخاطر الفيضان، حسبما تقول الدكتورة أمل السيد إدريس، اختصاصية المبيدات والأسمدة الحيوية في معهد بحوث البيئة والموارد الطبيعية والتصحر في المركز القومي للبحوث في الخرطوم لموقع "إندبندنت عربية".
وما يزيد من أضرار الفيضانات في السودان أنه لا يوجد استعداد، خصوصاً مع انخفاض قدرة الأرض (التربة الطينية) على امتصاص المياه، وإنشاء المباني والمنشآت غير المقاومة للمياه، والتي شوهدت خلال السنوات الماضية كيف تنهار بسرعة شديدة مع جريان الفيضان.
وتعتبر أن الزراعة تلعب دوراً كبيراً في الحيلولة دون الفيضان أو تفاقمه، حسب الطريقة المستخدمة في الزراعة ونوعية المحاصيل.
فالزراعة قد تؤدي إلى تفاقم آثار الفيضانات من خلال إزالة الغطاء النباتي من بعض الضفاف، أو زراعة أنواع معينة من الأشجار التي تتسبب جذورها في خلخلة التربة، وبجعلها عرضة لتدفق المياه من خلالها في زمن الفيضان. وكذلك قيام بعض أصحاب البساتين بعمل جسور لحمايتها. وهذا من شأنه أن يقلِّص من السهل الفيضي الذي يُعد متنفساً في زمن الفيضانات.
وقالت إن "تدخل الدولة في إصدار قوانين تمنع التعدي السكني على الأراضي المخصصة للزراعة، وتمنع البناء عليها، لما يصاحبه من تأثيرات سلبية بيئياً وإيكولوجياً، يخفف كثيراً من آثار الفيضان وينقذ المواطنين والنشاط الاقتصادي المتمثل في الزراعة، خصوصاً الزراعة الموسمية للمحاصيل الرئيسية، مثل الذرة التي يعتمد عليها معظم سكان السودان وكذلك الفواكه والخضر المهمة. فانجراف العديد من أشجار الفاكهة في البساتين على النيل سيسبب خسارة كبيرة للصادرات".