بعد عقد كامل من العلاقات الدبلوماسية والتجارية العميقة بين الصين وأوروبا، تسير الأمور الآن في مسار أقرب لما يحدث بين بكين وواشنطن، والأسباب متعددة من حرب أوكرانيا إلى تايوان، فهل اقترب الطلاق بينهما؟
كانت القارة الأوروبية، خلال حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، قد أبدت استقلالية واضحة فيما يتعلق بالعلاقات مع الصين تحديداً، ولم تهرول إلى معاداة بكين استجابة لسياسات إدارة ترامب. لكن منذ بدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا، يبدو أن الأمور بين بكين والقارة العجوز لم تعد تسير على ما يرام، ثم جاءت زيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان ورد فعل بكين لتزيد الطين بلة.
تصف موسكو الهجوم على جارتها بأنه "عملية عسكرية خاصة" تهدف إلى منع عسكرة كييف أو انضمامها إلى حلف الناتو بالأساس، بينما يرى الغرب أن ما أقدم عليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس إلا "غزواً" لم يكن له ما يبرره. وتتبنى الصين وجهة النظر الروسية بشأن حرب أوكرانيا.
القصة ليست فقط حرب أوكرانيا وموقف الصين منها
مجلة Foreign Policy الأمريكية نشرت تحليلاً عنوانه "انتكاسة تصيب علاقات بكين الدبلوماسية بأوروبا في أعقاب الحرب الروسية على أوكرانيا"، ألقى الضوء على التدهور الذي تشهده علاقات التنين بالقارة العجوز، وبخاصة دول شرق ووسط أوروبا، من حيث الأسباب والنتائج.
إذ انسحبت كل من إستونيا ولاتفيا من "منتدى التعاون الصيني مع دول وسط أوروبا وشرقها"، وهو منتدى للتعاون الدبلوماسي والتجاري كان يُعرف سابقاً باسم "منتدى 17+1″، أما الآن فقد تقلص إلى 14 دولة ومعها بكين.
وقد جاء ذلك الانسحاب بعد مغادرة ليتوانيا للمنتدى العام الماضي، لتخرج بذلك دول البلطيق الثلاث من المجموعة. ولا يقتصر الأمر على تلك الدول، فدولٌ أخرى قد تحذو حذوها، مثل سلوفاكيا، التي أصبحت من أشد منتقدي الصين في السنوات الماضية.
ويبرز الانسحاب مدى وطأة التداعيات التي أصابت الدبلوماسية الصينية بتأثير الحرب الروسية في أوكرانيا، فبعد أن تجاهلت بكين الدعوات الغربية لإدانة الهجوم الروسي، ومالت إلى إلقاء اللوم على الناتو وتبنت وجهة نظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لم تعد الأمور كما كانت في علاقتها بأوروبا الشرقية، لا سيما أن هذه الدول لها تاريخ طويل من المعاناة تحت وطأة النوازع التوسعية الروسية وهي الآن في مرمى التهديد من وسائل الإعلام الحكومية في روسيا، بحسب تحليل المجلة الأمريكية.
ولا عجب أن يكون أكبر مؤيد للصين الآن في أوروبا هو حليف بوتين البارز في القارة، رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان.
وتكتسب هذه القضايا أهمية خاصة في دول البلطيق، فهي دول ضمَّها الاتحاد السوفييتي بالقوة عام 1940؛ ومن ثم فهي أقرب إلى أن ترى تشابهاً وقضية مشتركة تجمعها بتايوان في علاقتها مع الصين، من جهة كونها دولة ديمقراطية تتعرض للتهديد من جارتها التي تكبرها قوة ومساحة.
لكن الاختلاف الجوهري في هذه النقطة هو أن تايوان ليست دولة مستقلة بالمعنى المتعارف عليه، إذ لا تعترف بها أغلب دول العالم، ومنها أمريكا والدول الأوروبية. فالصين وتايوان كانتا قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولةً ذات سيادة وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين تصرُّ على أنه ستتم استعادة الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر. ولا يعترف بتايوان سوى عدد قليل من الدول؛ إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً عن ذلك. وفي هذا السياق، تنظر الصين إلى النظام الديمقراطي ذاتي الحكم في تايوان على أنه محافظة صينية منفصلة، ولم تستبعد استخدام القوة لتحقيق الوحدة.
تايوان.. قضية الصين مع دول البلطيق
خلال نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، سمحت دولة البلطيق الصغيرة ليتوانيا لتايوان بفتح تمثيل دبلوماسي في العاصمة فيلنيوس، وهو ما أثار غضب الصين التي تتصدى لأي استخدام رسمي لاسم تايوان خوفاً من أن يسهم ذلك في إضفاء شرعية دولية على الجزيرة التي تعتبرها بكين جزءاً من أراضيها.
ومن ثم بدأت الصين في تضييق الخناق على ليتوانيا، وهو ما أدى إلى زيادة الأحاسيس المعادية لبكين، وانتهى الأمر إلى قرار من الصين بقطع العلاقات التجارية مع فيلنيوس، بل وسعيها إلى إجبار الدول الأخرى على فعل الشيء نفسه.
كانت مجموعة "17+1" قد بدأت بمنتدى تعاون يضم 16 دولة إلى جانب بكين في عام 2012، ثم انضمت اليونان إليهم في عام 2019. وكان الخبراء الصينيون يرون أن هذا المنتدى ركن أساسي في علاقة الصين بأوروبا، أما الأوروبيون المرتابون في الصين فكانوا يرونه أداة قد تستخدمها بكين لتقويض الإجماع في القارة العجوز، بحسب تحليل المجلة الأمريكية.
قدمت الصين تعهدات ضخمة للاستثمار وإنشاء البنية التحتية ضمن سرديتها الكبرى عن "مبادرة الحزام والطريق"، التي أفرط الناس في الحديث عنها في كل من بكين إلى واشنطن نفسها، ووصفت بأنها تُحفة في الاستراتيجية الدبلوماسية والاقتصادية. لكن المشروع أخفق في أن يصبح "خطة مارشال" عالمية، بعد وعود نكثَ بها واستنكار لفخ الديون الذي اتُّهمت الصين بأنها توقع فيه البلدان النامية.
مع ذلك، فإن الانتكاسة التي أصابت منتدى "17+1" لا تقتصر على ما ألمَّ به من عمليات انسحاب، فحتى قبل انسحاب ليتوانيا، كانت الآلية نفسها قد تعطلت. والأمثلة على ذلك عديدة: مشروع خط السكك الحديدية البارز بين بلغراد وصربيا وبودابست والمجر تجاوز الجدول الزمني المحدَّد له وفاقت تكاليفه الميزانية المخصصة، وأشارت تقديرات وسائل إعلام مجرية مستقلة إلى أن خط السكك الحديدية قد يحتاج إلى ما يزيد على 130 عاماً ليبدأ في حصد الأرباح.
أما محطات الطاقة المقرر إنشاؤها، فلم يكد يبدأ البناء فيها بعد من الأساس. وبحلول عام 2019، كان عدة زعماء بالمنتدى قد بدأوا يحذفون فعاليات التجمع الصيني الأوروبي من جدول أعمالهم.
هل تنضم ألمانيا إلى المعادين للصين؟
لم تكن دول وسط أوروبا وشرقها هي الوحيدة التي انقلبت على الصين، فقد تضررت صورتها الآن في جميع أنحاء القارة. وانهار اتفاق تجاري ضخم بين الصين والاتحاد الأوروبي في مارس/آذار 2021، بعد أن فرضت بكين عقوبات على نواب في البرلمان الأوروبي رداً على عقوبات سابقة أعلنها الاتحاد الأوروبي ضد مسؤولين صينيين بشأن انتهاك حقوق الإنسان في إقليم شينجيانغ، حيث أقلية الإيغور المسلمة التي تتهم بكين بقمعها.
وحتى في ألمانيا التي تُوصف بأنها آخر الحلفاء الكبار للصين في القارة، والتي حرص قادتها على إعطاء الأولوية للمصالح التجارية، فإن الرأي العام هناك تجاه الصين بدأ يتغير. وفي غضون ذلك، أخذت شركات أوروبية في الصين تمعن التفكير في مغادرة البلاد.
علاوة على ذلك، فإن إحجام الرئيس الصيني، شي جين بينغ، عن السفر إلى خارج البلاد منذ بداية جائحة كورونا تسبَّب في مشكلة مستمرة للمناقشات الدبلوماسية رفيعة المستوى. ولم يغادر شي الصين منذ يناير/كانون الثاني 2020، ويصعب معرفة ما إذا كان ذلك نابعاً من مخاوف بشأن فيروس كورونا، أم لخشيةٍ من فقدان السيطرة على البلاد في غيابه.
وقد انتشرت تقارير متضاربة في الآونة الأخيرة بشأن رحلاته القادمة إلى خارج البلاد. وتقول مصادر سعودية إن الرئيس الصيني سيزور البلاد قريباً، وذكرت مصادر صينية أنه يعتزم زيارة جنوب شرق آسيا في نوفمبر/تشرين الثاني، وربما الاجتماع بالرئيس الأمريكي جو بايدن.
تبدو زيارة الرئيس الصيني إلى جنوب شرق آسيا أقرب إلى الوقوع، لأسباب عدة، على رأسها أنها ستأتي في الغالب عقب المؤتمر الوطني المهم للحزب الشيوعي الصيني في نوفمبر/تشرين الثاني.
فالرئيس الصيني وإن بدا أنه تمكن من ترسيخ هيمنته داخل الحزب، إلا أن خطته لتوسيع التحالف في الشرق الأوسط في وقت ما زالت الأمور فيه غير مستقرة من الناحية السياسية تبدو خطة بها قدر معتبر من المجازفة، علاوة على أن الخطاب العدواني الذي تنتهجه الدبلوماسية الصينية بلا هوادة ربما يجعل الانتكاسة الطارئة على العلاقات الأوروبية الصينية واقعاً مستداماً لدى دول العالم المتقدم في نظرتها للصين.
الخلاصة هنا هي أن موقف الصين الداعم لروسيا في حرب أوكرانيا ربما يكون القشة التي قصمت ظهر البعير في علاقة بكين، التي كانت قوية للغاية، مع دول شرق ووسط أوروبا، وبخاصة دول البلطيق.