كاراكاس وليست دمشق.. قصة الجالية السورية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من فنزويلا

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2022/08/21 الساعة 13:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/08/21 الساعة 13:30 بتوقيت غرينتش
الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو (رويترز)

أكثر من 1.6 مليون فنزويلي ينحدرون من أصل عربي، نحو مليون منهم من سوريا، بلغوا أعلى المناصب في الدولة الأمريكية، فما قصة الجالية السورية في فنزويلا؟

وبشكل عام تُعتبر أمريكا اللاتينية موطناً لأكبر الجاليات العربية، ويبلغ تعداد الجالية الفلسطينية نحو 700.000 شخص، يعيش منهم نحو 100.000 في السلفادور تحديداً. ووطئ العراب أرض أمريكا اللاتينية لأول مرة أواخر القرن الـ19، عندما بدأت الإمبراطورية العثمانية تشهد نزوحاً جماعياً ضخماً لسكانها.

ونشر موقع Middle East Eye البريطاني تقريراً عنوانه "كيف أصبحت الجالية السورية جزءاً من النسيج الاجتماعي لفنزويلا؟"، ألقى الضوء على تاريخ السوريين في الدولة الأمريكية الجنوبية، منذ بدايته قبل أكثر من قرن وربع، وحتى اليوم.

النزوح الأول خلال الحكم العثماني

أبدى حبيب سلوم، الكاتب الكندي الجنسية واللبناني المولد، اندهاشه ذات يوم لأنه لاقى "ألذ أكلة كباب تناولها في حياته" في مطعمٍ بمدينة بويرتو لا كروز الساحلية في شمال فنزويلا. وكتب أثناء زيارته التي كانت في عام 2018: "لقد أبدع الطاهي، حلبي الأصل، في إعداد هذه الأكلة".

ليس في هذا الرأي شيء يومئ إلى أن الكاتب الراحل كان قليل المعرفة بأساليب طهي الكباب، أو زهيد التعرض لأكل الكباب الفاخر، وإنما يدل في المقام الأول على انتشار الجالية السورية ونفوذها في فنزويلا.

لطالما كانت تلك الدولة الواقعة في أمريكا اللاتينية موطناً بارزاً للشتات السوري منذ زمن طويل. ولعله من الصعب تحديد الأرقام على وجه الدقة، لكن البيانات التي بين أيدينا تشير إلى أن هناك ما بين 700 ألف إلى مليون فنزويلي ينحدرون من أصل سوري، وأن إجمالي 1.6 مليون فنزويلي يأتون من أصل عربي.

في حديث لموقع Middle East Eye البريطاني، قال حليم نعيم، وهو صحفي فنزويلي من أصل عربي، إن "الجالية السورية في فنزويلا كبيرة ومهمة، وليس المقصود أنها كبيرة من حيث عدد السكان فحسب، بل إن لها أهمية اقتصادية كبيرة في البلاد أيضاً".

كان أول وصول للسوريين بأعداد كبيرة إلى الشواطئ الفنزويلية في أواخر القرن التاسع عشر، فقد اشتدت الحال على الإمبراطورية العثمانية آنذاك، ما دفع كثيرين من سكانها إلى الإبحار بحثاً عن فرص جديدة.

قال نعيم للموقع البريطاني: "اشتد الحال على الناس في سوريا، مثل معظم أنحاء الشرق الأوسط آنذاك. فقد انتشرت المعارك، وساد الانقسام والصراع، ونزلت الحرب بالبلاد، فلم يكن للناس وسع إلا الفرار بطريقة ما من كل ذلك".

تشير البيانات إلى أن ما يقرب من 1.2 مليون شخص غادروا أراضي الإمبراطورية العثمانية بين عامي 1860 و1914، وتكلَّفوا مشاق الرحلة إلى الأمريكتين بحثاً عن معيشة أفضل.

لاجئون سوريون – getty images

يقول جون توفيق كرم، الأستاذ المشارك في دراسات أمريكا اللاتينية بجامعة دي بول بولاية شيكاغو الأمريكية، إن "الوصول إلى أمريكا استحوذ على معظم المهاجرين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لكن وجهة النزوح لم تقتصر على الولايات المتحدة، حتى وإن كان المهاجرون الأوائل إلى فنزويلا قد عزموا كثيراً على الذهاب إلى أمريكا، والتي كان التصور العام والملتبس عن نصف الكرة [الغربي] يشير إليها في المقام الأول".

وكما كان الحال مع جميع مهاجري بلاد الشام الذين هاجروا من بلادهم أثناء الحكم العثماني في ذلك الوقت، فإن أهل فنزويلا كانوا يُعدونهم "أتراكاً" في مستقرهم الجديد.

استقر الحال بموجة المهاجرين السوريين الوافدين في موطنهم الجديد بأمريكا اللاتينية، فقد تمكنوا في البداية من إقامة عدة متاجر في العاصمة كاراكاس، وفي مدينة نويفا إسبارتا، ومدينة زوليا، ومدينة كارابوبو.

الاندماج الاجتماعي والتنقل

في البداية، كان معظم تعامل السوريين بفنزويلا مع التجار البسطاء وصغار الباعة، فقد عملوا باعة جائلين وعمالاً في صناعة الأحذية ونجارين، حتى استطاعوا بعد ذلك أن يشرعوا في إنشاء متاجرهم أو أعمالهم التجارية المستقلة.

مال السوريون في البداية إلى العيش في المناطق الريفية، وتجنبوا المدن الحضرية إيثاراً لحياة الهدوء، وقد مكَّنهم ذلك من تعزيز قوتهم الاقتصادية، وحشد بعض النفوذ لهم بين الناس في المناطق التي استقروا بها.

وقال نعيم للموقع البريطاني: "لقد استقروا في مدن فنزويلية صغيرة؛ لأنهم أحسوا هناك بأنهم في وطنهم. لقد توجهوا إلى المناطق الريفية واستقروا في أماكن لم يكن فيها كثير من دروب التجارة والصنائع، وقد مكَّنهم ذلك من موطئ قدم اقتصادي. ثم تحسنت الأمور وأصبحوا مجتمعاً قوياً من الناحية الاقتصادية، وكبيراً من حيث عدد السكان".

كان من السهل على الجالية السورية أن تزدهر في وطنها الجديد بسبب أوجه التشابه بين ثقافات أمريكا اللاتينية وثقافة الشرق الأوسط، فتيسَّر لهم الاندماج في الناس هناك والانتشار بينهم دون عوائق.

قال دييغو غوميز بيكرينغ، الصحفي والدبلوماسي والكاتب، لموقع Middle East Eye: "لقد اندمجوا في الناس بمجرد وصولهم تقريباً، وقد حدث الأمر بطريقة طبيعية. لقد كان اندماج مهاجري بلاد الشام في واقعهم الجديد مدهشاً في سرعته، لكن الأمور جرت بطريقة مرنة وودية لأن الهياكل المجتمعية في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية لم تكن مختلفة عن تلك السائدة في المجتمعات العربية".

عامل مناجم بالقرب من نهر اكابارو جنوب فنزويلا/ رويترز

وكان الود الثقافي تجاه السوريين والعرب عموماً أحد العوامل التي زادت استقرارهم تيسيراً، عن ذلك يقول توفيق كرم: "عندما تقول (عربي) في فنزويلا، فإن هذا يستدعي قدراً من الألفة لدى الناس، أما في الشمال الناطق بالإنجليزية، فإن الأمر خلاف ذلك، ولا يستدعي الألفة لدى عموم الناس، بل يثير لديهم إحساساً بأن هذا الشخص أجنبي عنهم، ومن خارجهم، أي إنه ليس جزءاً من السردية الوطنية عن تصورهم لأنفسهم".

انصب تركيز المهاجرين الأوائل على الاستقرار الاقتصادي، فكان ذلك سبيلاً للأجيال التالية إلى الاهتمام بالتعليم والالتفات إلى تعزيز طموحاتهم الاجتماعية والاقتصادية في وطنهم الجديد.

يقول توفيق كرم: "كان الجيل الأول -في معظمه- ممن لم يتلقوا تعليماً رسمياً، فلم يبخلوا بما حصدوه من مال على تعليم أولادهم وإلحاقهم بالمدارس. وكانت المجالات الرئيسية للدراسة في فنزويلا وغيرها، هي الطب والقانون والهندسة. ولذلك نرى بين الجيل الأول ممن وُلدوا في فنزويلا شخصيات بارزة في مختلف المجالات ارتقت السلم الاجتماعي وتمكنت من النجاح السياسي".

النفوذ السياسي والانقسام

بلغ النفوذ السياسي للجالية السورية في فنزويلا ذروته في مطلع القرن الحادي والعشرين، تحت قيادة الرئيس السابق هوغو تشافيز، الذي توفي عام 2013.

وعن ذلك قال نعيم للموقع البريطاني: "لقد بدأنا نرى فنزويليين من أصول سورية يشاركون في المناصب السياسية للبلاد، وكانت ذروة ذلك أثناء هيمنة أفكار هوغو تشافيز (الأيديولوجية التشافيزية) لأنها تشبه إلى حد بعيد الأفكارَ الأيديولوجية التي كان كثيرون منهم قد عرفوها في وطنهم الأول".

وكان من أبرز هؤلاء: طارق العيسمي، وزير الداخلية السابق ووزير البترول الحالي، وحيمان الترودي، وزير النقل السابق، وثريا الأشقر، الرئيسة السابقة للشرطة الوطنية، وعادل الزباير، وعضو مجلس الأمة السابق. حتى إن الزباير سافر إلى سوريا للانضمام إلى قوات النظام السوري في مواجهة المعارضة السورية، ووجَّهت إليه الولايات المتحدة في عام 2020 تهمة المشاركة في مؤامرات إرهابية تتعلق بتهريب المخدرات، وجرائم تجارة الأسلحة.

أقام تشافيز، أثناء وجوده في السلطة، علاقات وثيقة مع نظيره السوري بشار الأسد، وزار دمشق عدة مرات، واستنكر ما ترتكبه إسرائيل بحق الفلسطينيين، بل أمر بإنشاء خط طيران مباشر من كاراكاس إلى دمشق.

سوريا
انقسام بين الجالية السورية في فنزويلا بشأن نظام بشار الأسد – رويترز

يشرح نعيم قائلاً: "لقد لجأ النظام الفنزويلي في عهد تشافيز إلى خطاب الدفاع عن الأقليات، والتحالف مع العرب، وقد اجتمعوا على معاداة إسرائيل وما يسمونها الأنظمة الإمبريالية. واستحسن كثير من السوريين ذلك بطبيعة الحال، فهم يستمعون إلى الخطاب نفسه منذ صغرهم، ومن ثم بات كثير منهم لا يجد حرجاً في تأييد نظام تشافيز، ليس الجميع، لكن كثيرين منهم كانوا يدعمون تشافيز".

أدى هذا التقارب بين الدولة الفنزويلية والحكومة السورية إلى انقسام بين الجالية السورية في فنزويلا، فقد عارض كثيرون أي علاقات وثيقة مع نظام الأسد في سوريا. ويقول توفيق كرم عن ذلك: "الجالية السورية في فنزويلا منقسمة بشأن هذه القضية، مثلها مثل معظم الشعب [السوري]".

يستدعي ما حدث في الأزمة السورية، وما شهدته من فرار ملايين السوريين من بلادهم، شبهاً كبيراً بما وقع في الأزمة الاقتصادية المدمرة التي شهدتها فنزويلا بسبب سوء الإدارة وانخفاض أسعار النفط والعقوبات الأمريكية، وما أعقبها أيضاً من فرار ستة ملايين فنزويلي من البلاد.

مع ذلك، وعلى الرغم من سوء الأحوال في وطنهم الأصلي والانقسامات التي نشأت في الشتات في فنزويلا، فإن الجالية السورية في فنزويلا نجحت في بناء مجتمعٍ مزدهر كان له دور رئيسي في تطوير فنزويلا الحديثة.

يقول نعيم: "لقد كان لهم تأثير شديد الأهمية، يمكن رؤيته حتى على المستوى الثقافي. وأنا أزعم أنهم، ليس فقط الجالية السورية بل ذوي الأصول العربية عموماً، كان لهم إسهام كبير في تقدم فنزويلا ".

تحميل المزيد