يرى كثيرون أن الولايات المتحدة الأمريكية، بأيديولوجيتها الليبرالية ومذهبها الرأسمالي، هي آخر الإمبراطوريات الأيديولوجية الكبرى. وهذه الإمبراطورية تطمع الآن في بلوغ المستحيل؛ احتواء دولتين عظميين في وقت واحد هما روسيا والصين.
ومع ذلك، فإن تلك المحاولة ليست أول محاولة لها، فقد طمعت الولايات المتحدة من قبل في احتواء كل من إيران والعراق على مدى ثلاثة عقود، لكن عاقبة الأمور كانت سيئة في كلتا الحالتين، فهي لم تنجح في احتواء إيران، ولا اقتصرت على تغيير النظام العراقي، بل ضاعت الدولة نفسها.
ومع أن الولايات المتحدة لم تكن يوماً بمثل ما هي عليه الآن من ضعف في الخارج وانقسام في الداخل، فإن طموحاتها -التي عجز كل شيء عن ردعها حتى الآن- لم تكن يوماً بمثل هذه الضخامة، فهي تطمع في احتواء بكين وموسكو في آن واحد.
هذا ما يقوله ماركو كارنيلوس، الدبلوماسي الإيطالي السابق، الذي خدم في فريق السياسة الخارجية لثلاثة رؤساء وزراء إيطاليين، وكان مبعوث بلاده السابق للسلام في الشرق الأوسط.
حرب باردة ثانية سينتج عنها نظام عالمي جديد
يسلط الدبلوماسي الإيطالي كارنيلوس في مقال نشره موقع Middle East Eye البريطاني، الضوء على ملامح الحرب الباردة الجديدة الآخذة في التشكل بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جهة، والقوى الأوراسية بزعامة الصين من جهة أخرى، ويجادل عن توقعه بأن هذا النزاع سينشأ عنه نظام عالمي جديد، ويعرض للفرص التي قد تتبلور عن هذا الانقسام لدول الحياد، خاصة قوى إقليم الشرق الأوسط، والسياسة الواقعية التي قد تكون سبيلها لاغتنام هذه الفرص.
بحسب كارنيلوس فإن الحرب في أوكرانيا والتوترات المتزايدة بشأن تايوان تمثل الأركان الأساسية للطموحات الأمريكية المتجددة، ولذلك تداعيات جسيمة، مثل: أزمات الطاقة ونقص الغذاء العالمية الناجمة عن العقوبات المفروضة على روسيا، واضطراب سلاسل التوريد، والتوترات التجارية، واحتدام السباق التكنولوجي، وأسوأ ما في الأمر أن هذه المشكلات كلها محفوفة بأزمة ركود وتضخم ارتسمت ملامحها الكئيبة في الأفق.
موسكو وبكين متهمتان بانتهاك مبادئ النظام العالمي القائم على القواعد، ومع ذلك فإن الشواهد التي تقدم دليلاً على كونهما السبب في تفاقم الأمور ليست مقنعة.
ولخَّص وزير الخارجية الأمريكي السابق، هنري كيسنجر، منذ بضعة أيام شدة خطورة هذا الأمر، بالقول: "نحن [الولايات المتحدة] على شفير حربٍ مع روسيا والصين بشأن أمور كان لنا نصيب من أسباب نشأتها، وقد فعلنا ذلك من غير تصور عن عاقبة ذلك، ولا رؤية لما يفترض أن تؤول إليه الأمور".
إلى من سيؤول تشكيل النظام العالمي الجديد؟
يرى كارنيلوس أن هذه المواجهة قد تؤدي إلى إعادة ترتيب النظام العالمي، لكن التصور الواقعي يرجِّح تشكيل نظام عالمي ثلاثي الأقطاب:
القطب الأول: هو الكتلة الديمقراطية الغربية بقيادة الولايات المتحدة، والذي يجسده "ثالوث التحالف المقدس" بين مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى (G7) وحلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي.
والقطب الثاني: هو الكتلة الأوراسية بقيادة الصين وروسيا، ويضم إيران وبعض جمهوريات آسيا الوسطى.
أما القطب الثالث: فيتألف من الدول التي لا تريد الانضمام إلى أيٍّ من الحلفين، أي بقية دول العالم، التي يطلق عليها الآن جنوب الكرة الأرضية. وغالب الأمر أن تقف هذه الدول على الحياد بينما تتنازع الكتلة الديمقراطية والكتلة السلطوية في الحرب الباردة الثانية.
معركة من أجل "أسر القلوب وإقناع العقول"
يعمل الجنوب العالمي على تحرير نفسه بعد عقود من الوصاية السياسية والاقتصادية والمالية الغربية، لكن هذا لا يعني الاصطفاف طوعاً إلى جانب الكتلة الأوراسية، بل السعي إلى نظام أكثر مرونة. وقد شهدت حرب أوكرانيا بأن كثيرين لم يُقبلوا على تلبية نداء الغرب للعالم من أجل الاصطفاف ضد روسيا، والغالب أن يقل عن ذلك عدد الملبِّين لنداء المواجهة القادمة ضد الصين.
يبذل الثالوث الغربي غاية وسعه ليأسر قلوب الناس وعقولهم في الجنوب العالمي، لكن خلل المعايير المتغلغل في الغرب تجاه خصومه والانحراف المطرد للنظام العالمي عن قواعده أسخطُ للناس بكثير من الفظائع الروسية في أوكرانيا أو اعتداد الصين بنفسها وترسيخها لحدودها.
ويبدو حتى الآن أن التجمعات السياسية غير الغربية، مثل "منظمة بريكس" (التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) و"منظمة شنغهاي للتعاون" أكثر جاذبية لدول الجنوب. فالدول الديمقراطية الغربية لا تستميل إليها سوى الدول المشابهة لها في تفكيرها والمنضوية تحت لوائها، كما يتضح من انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو.
أما القوى البارزة في أقاليمها -مثل تركيا والجزائر ومصر والسعودية والإمارات والأرجنتين والمكسيك- فتبحث لنفسها عن وجهة أخرى.
قال دبلوماسي بريطاني كبير ذات مرة: "أن تكون صديقاً للولايات المتحدة أصعب بكثير من أن تكون عدواً لها". ومن ثم، فإننا قد نكون على موعد مع ظهور كتلتين متنافستين في الاقتصاد والتجارة، وربما لن تنحصر مقرات النظام العالمي في نيويورك ولندن ولن تقتصر عملته على الدولار الأمريكي بعد الآن.
الصين وروسيا وبناء الاستقلالية القطبية
تعمل الصين وروسيا على إيجاد بدائل للدولار الأمريكي، ولنظام سويفت للدفع العالمي، ولبورصتي نيويورك ولندن. وقد انسحبت شركات صينية مملوكة للدولة من البورصات الأمريكية، كما تسعى الصين إلى تخفيض استثماراتها في سندات الخزانة الأمريكية. ولا تزال كل هذه التحركات في طور النشأة، لكنها قد تصبح غداً جذابة لكثير من دول الجنوب العالمي، خاصة إذا كان أصرَّ الغرب على مسلكه في استخدام الدولار سلاحاً يستله على خصومه، وتمسك بتمييز مصالحه المالية وعدم الاكتراث بمصالح غيره.
إذا استمرت الحال كذلك فإن مزيداً من الدول قد تبدأ في البحث عن أماكن أخرى أكثر أماناً لرصيدها الاحتياطي من الذهب والعملات الصعبة، خاصة بعد استيلاء الولايات المتحدة وبريطانيا على الأرصدة الوطنية الأفغانية والفنزويلية، فضلاً عن استيلاء الدول الغربية غير المسبوق على 300 مليار دولار من الاحتياطي الروسي.
واقع الأمر أن الإمعان في فصل اقتصاد روسيا عن الغرب، والانفصال المحتمل للاقتصاد الصيني، قد يغير ملامح النظام العالمي تغييراً جذرياً. فكيف يستوعب الشرق الأوسط هذه التحولات الكبرى؟
ماذا عن الشرق الأوسط؟
أصبح "السلام الأمريكي" Pax Americana الموعود في الشرق الأوسط أبعد عن التحقق بعد كل هذا التحايل وانحراف المعايير الذي انطوى عليه سبيل الوصول إلى ما يُعرف باتفاقات أبراهام، فالصفقات التي أسَّست لها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وأقرَّتها إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، مهمة من الناحية الاقتصادية، لا سيما لإسرائيل، لكنها تستند إلى افتراضين مطعون فيهما تاريخياً: أولاً، أن القضية الفلسطينية يمكن تنحيتها جانباً إلى أجل غير مسمى دون عواقب. وثانياً، أن رأي الشعوب في العالم العربي لا أهمية له.
ويقول كارنيلوس، سيتعين قريباً على القوى الإقليمية الكبرى أن تحسم أمرها، هل ستترك المنطقة مرة أخرى ساحةً لمعارك القوى العظمى كما كانت خلال القرن العشرين؟ وهل ثمة نموذج سياسي مطروح يمكن أن يُبنى عليه الاستقرار الإقليمي: هل هي اتفاقات أبراهام التي قامت بوساطة من الولايات المتحدة؟ أم نموذج التفاهم غير الرسمي على معاداة الغرب، على غرار ما يُعرف بمحور الممانعة (الذي يجمع إيران والعراق وسوريا وحزب الله)، أم هو نموذج المنظمات والائتلافات غير الغربية، مثل منظمة "بريكس بلس" و"منظمة شنغهاي للتعاون"، أم غير ذلك؟
هل يميل إطار العمل الاقتصادي في المنطقة بثقله نحو مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تبلغ قيمتها تريليون دولار، أم يتجه إلى الشراكة الجديدة لمجموعة الدول السبع في مجال البنية التحتية والاستثمار العالمي، والتي تبلغ مخصصاتها 600 مليار دولار؟ هل يستمر الاعتماد على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اللذين تسيطر عليهما الولايات المتحدة، أم تعثر دول المنطقة على بديل لها في "البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية" الذي أنشأته الصين؟
البيانات المتاحة لنا في هذا السياق هي أن شركاء الولايات المتحدة التقليديين في الشرق الأوسط، مثل مصر والسعودية، يفكرون في الانضمام إلى منظمة "بريكس". وقد أعلنت الرياض أنها تفكر في اعتماد اليوان عملة بديلة للدولار في مبيعات النفط إلى الصين، ومن المقرر أن يزور الرئيس الصيني شي جين بينغ السعودية قريباً.
الغلبة للسياسة الواقعية في النهاية
يقول كارنيلوس، على الرغم من التغيرات التي طرأت على الساحة العالمية، فإنه لمن سوء الحال أن مخطط الولايات المتحدة للشرق الأوسط لم يتغير، ولم تكن رحلة بايدن الأخيرة إلى إسرائيل وفلسطين المحتلة والسعودية مختلفة عن غيرها. فقد أقرت الزيارة من جديد ضمانات الشراكة طويلة الأمد بين الولايات المتحدة وإسرائيل في مواجهة إيران، أما الفلسطينيون فلم يتلقوا سوى علقم الكلام بخصوص تطلعاتهم المشروعة إلى الحق في تقرير المصير.
أما المحصلة الأهم لزيارة بايدن فكانت الواقع الذي كشفت عنه رحلة الرئيس الأمريكي إلى السعودية بعد المزاعم السابقة بنبذِها، وما أبرزته من صعوبات كامنة في مزاعم السياسة الخارجية، التي تدعي الاستناد حصرياً إلى المبادئ والقيم الأخلاقية.
لقد شهد الشرق الأوسط انهيار سردية بايدن الكبرى عن صدام عالمي بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، فقد فرضت السياسة الواقعية قواعدها ومعاييرها، بعد أن واجه الرئيس الأمريكي معضلة ملحة بين التمسك بمبادئه الأخلاقية المزعومة، والتي تقتضي أن يظل الرجل الذي أمر بقتل الصحفي جمال خاشقجي منبوذاً دولياً، أم أن مصلحة المستهلكين الأمريكيين مقدَّمة على كل شيء، وأن تخفيض أسعار النفط لهم أولى بالاهتمام من غيره.
لا عجب في أن بايدن مال إلى الخيار الثاني، فقد أدى ارتفاع التضخم إلى تآكل القوة الشرائية للمستهلك الأمريكي، وتداعي فرص الحزب الديمقراطي في الفوز بانتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي، في نوفمبر/تشرين الثاني. وكان أسرع حل هو مطالبة السعودية بإغراق السوق بالنفط الخام للحدِّ من ارتفاع أسعاره. من الواضح الآن أن الرياض لم تلزم نفسها بأي زيادة في إنتاج النفط، وأن الزيارة كانت كارثة سياسية.
يمكن أن يكون للقمة الثلاثية المنتظرة قريباً بين إيران روسيا وتركيا في طهران تداعيات أكثر أهمية وأطول أثراً في المنطقة. فالولايات المتحدة لا تزال رهينة القواعد القديمة التي عفا عليها الزمن في التعامل مع المنطقة، والاتحاد الأوروبي لم يعد له تأثير يُعتد به، أما روسيا والصين فلديهما فسحة أكبر للتأثير وتبادل المصالح.
الخلاصة أنه على الرغم من محاولات الغرب هيكلة النظام الدولي على أساس المنطق الصارم: "نحن مقابل هم" أو "إما معنا وإما علينا"، فإن الواقع الناشئ أكثر تركيباً بكثير من ذلك. وجدير بدول الشرق الأوسط، ومنها حلفاء الولايات المتحدة التقليديون، أن تستحسن الاحتمال القائم بنشأة نظام عالمي جديد، فهذا النظام قد ينطوي على كثير من الخيارات غير المسبوقة لهم.