"حاملة الطائرات الصينية الأولى بدأت كملهي ليلي"، تبدو قصة أول حاملة طائرات صينية أقرب لفيلم هوليوودي أو هندي ساخر، ولكن في حقيقتها تعبِّر عن مدى مثابرة هذا البلد، والطابع الكتوم لخططه الطموحة، التي تكون عادة بعيدة الأمد.
مؤخراً، أعلنت الصين عن استكمال بناء ثالث حاملة طائرات لها والثانية المصنعة محلياً، والحاملة الثالثة أقرب للحاملات الأمريكية، وبدأت تثير قلق الغرب وجيران الصين الآسيويين، وسوف تدخل مرحلة التسليح والاختبارات.
وقبل تدشين هذه الحاملة كان لدى الصين حاملتا طائرات، الأول تُدعى لياونينغ (Liaoning)، التي تُعد أول حاملة طائرات تمتلكها الصين، وهي في الأصل حاملة سوفييتية لم يكتمل بناؤها، وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، عُرضت للبيع من قبل أوكرانيا، التي كانت تبنى بها.
أما حاملة الطائرات الصينية الثانية، فهي Shandong، والتي تم بدء العمل بها في 2013، وهي أول حاملة طائرات صينية محلية الصنع، واستُنسخت من الحاملة السوفييتية التي تم شراؤها من أوكرانيا، ودشنت عام 2017، وصلت شاندونغ في أكتوبر/تشرين الأول 2020 إلى القدرة التشغيلية الأولية أو المعايير الأساسية للنشر في البحار.
مغامرة صينية كانت وراء إطلاق برنامج حاملات الطائرات العملاق
برنامج حاملات الطائرات الصينية الذي يتقدم بسرعة هذا تعود جذوره لمغامرة خاضها مواطن صيني بدوافع وطنية أو مالية أو بكلتيهما، حيث قام بشراء أول حاملة طائرات صينية من أوكرانيا بطريقة خدعت الغرب و الأوكرانيين والروس على حد سواء.
فلقد تم شراء أول حاملة طائرات صينية "لياونينغ " بـ20 مليون دولار عام 1998 من قِبل رجل الأعمال المقيم في هونغ كونغ، شو تسينغ بينغ، بدعوى استخدامها كـ"كازينو" قمار في ماكاو المستعمرة البرتغالية السابقة التي استعادتها الصين وأبقتها ككيان ذي استقلال ذاتي ضمن نظام دولة واحدة ونظامين الذي طبق على هونغ كونغ وماكاو، وجعل الأخيرة تحافظ على اقتصادها القديم القائم على القمار والأنشطة الترفيهية.
كانت هذه الحاملة تدعى فارياج "Varyag" قبل أن يشتريها الصينيون، وهي من فئة سفن كوزنتسوف وفقاً للتصنيف السوفييتي.
سفينة مخادعة منذ نشأتها
انطلق العمل في بناء هذه السفينة عام 1985 في حوض بناء للسفن قرب ميكولايف بجنوب أوكرانيا، التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي.
وصنفت البحرية السوفييتية سفناً فئة كوزنتسوف في الأصل، على أنها "طراد ثقيل حامل للطائرات"، فبالإضافة إلى حملها للطائرات، تم تصميم هذه السفن لحمل صواريخ كروز P-700 Granit المضادة للسفن، والتي تشكل أيضاً التسلح الرئيسي لطرادات القتال من فئة كيروف.
سمحت هذه القدرة متعددة المهام للسفن بتجنب تصنيفها كحاملات طائرات، مما يسمح لها بالمرور عبر المضائق التركية بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط؛ لأنه بموجب اتفاقية مونترو، لا يُسمح بمرور حاملات الطائرات التي يزيد وزنها على 15000 طن عبر المضائق التركية، ولكن لا يوجد حد للإزاحة على الأنواع الأخرى من السفن القادمة من دول البحر الأسود.
في المقابل، اعتبرت البحرية الصينية أن لياونينغ حاملة طائرات. نظراً لأن الصين لا تقع على البحر الأسود، وبالتالي لا تحتاج إلى هذه الخدعة السوفييتية، ولكن بكين نفذت خدعة أكبر بكثير لاقتناء هذه الحاملة السوفييتية السابقة.
كيف اشترتها الصين دون أن تدفع مقابلاً لها؟
عندما انهار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، كانت السفينة مكتملة بنسبة 68٪ فقط، وتوقف العمل في بنائها وعرضت للبيع من قبل أوكرانيا الدولة المفلسة المستقلة حديثاً.
ولأنها لم تكن قادرة على العثور على مشتر، تركت أوكرانيا السفينة لتتدهور حالتها.
اقتربت أوكرانيا من نيل عروس من الصين والهند وروسيا كمشترين محتملين، أرسلت الصين وفداً رفيع المستوى في عام 1992 ، أفاد بأن السفينة كانت في حالة جيدة وأوصى بشرائها. ومع ذلك، رفضت الحكومة الصينية شراء السفينة بسبب الوضع الدبلوماسي الدولي في ذلك الوقت.
ولكن رجل الأعمال الصيني شو زيبنيغ Xu Zengping المقيم في هونغ كونغ قام بتنفيذ بواحدة أكثر المغامرات العسكرية جراًة في التاريخ في عام 1998، حيث أقنع حوض بناء السفن الأوكراني ببيعه الحاملة غير مكتملة مقابل 20 مليون دولار أمريكي.
كان شو، عضواً سابقاً في فريق كرة السلة للقيادة العسكرية في إقليم قوانغتشو أي أنه كان ضابطاً سابقاً.
تبين فيما بعد أنه قد فعل ذلك بناءً على طلب من عشاق الطيران البحري داخل القوات البحرية الصينية (PLAN)، الذين أرادوا أن تنضم بكين إلى النادي الحصري للدول التي تشغل حاملات الطائرات.
اتصل به مسؤولون من البحرية لشراء حاملة الطائرات نيابة عن الصين، لكن كان عليه أن يفعل ذلك بأمواله الخاصة ودون دعم بكين، حسبما ورد في تقرير لصحيفة South China Morning Post الصينية.
في يناير/كانون الأول 2015، ظهرت تفاصيل أخرى، حيث قال شو تسينغ بينغ إنه تم تكليفه من قبل البحرية الصينية لشراء السفينة نيابة عنها، مع إبلاغه بضرورة استخدام قصة الفندق والكازينو العائم كتغطية.
تم تحذيره من أن البحرية الصينية ليس لديها ميزانية لشراء السفينة، والحكومة الصينية لا تدعم الشراء. ومع ذلك، كان شو معجباً جداً بالفكرة أثناء قيامه بجولة في السفينة لدرجة أنه قرر شرائها باستخدام أمواله الشخصية.
في عام 1998، اشترى شو تسينغ بينغ السفينة التي كانت عبارة عن هيكل صدئ في مزاد بمبلغ 20 مليون دولار لشركة من ماكاو تدعى Chong Lot التي أسسها، وزعمت الشركة للبائعين أنها ستسحب حاملة الطائرات غير المكتملة إلى ماكاو، بدعوى تحويلها إلى فندق وكازينو عائم بقيمة 200 مليون دولار.
في العام السابق، اقترض شو 230 مليون دولار من صديق أعمال في هونغ كونغ، وأنفق 6 ملايين دولار في هونغ كونغ لإنشاء شركة Chong Lot كشركة من ماكاو.
كان المراقبون الغربيون متشككين في دوافع الصفقة، حيث لم يكن لدى شركة Chong Lot رقم هاتف مدرج، وكان يديرها ضباط سابقون في البحرية الصينية. كما رفض المسؤولون في ماكاو طلب شركة Chong Lot لتشغيل كازينو.
ومع ذلك الأمر الذي قلل الشكوك في أن الصين تريد استعمال السفينة كحاملة طائرات أن المحللين الغربيين لاحظوا أن Varyag قد تدهورت كثيراً لاستخدامها كسفينة حربية عملياتية، وأشاروا إلى أن البحرية الصينية كانت تركز على الغواصات. كما تم بيع الناقلات السوفييتية كييف ومينسك بالفعل إلى الصين كمناطق جذب سياحي.
ووصف شو المفاوضات في كييف، بأنها كانت مروعة ومليئة بالرشاوى وتقديم المشروبات الكحولية، مما ساعد على فوزه بالمزاد.
كإجراء احترازي، قام بشحن 40 طناً من مخططات الناقل إلى الصين براً في ثماني شاحنات.
نقل الحاملة أصعب من شرائها
كان نقل الحاملة من أوكرانيا إلى الصين أكثر ازعاجاً من الشراء، حيث كان يجب قطرها من أوكرانيا حتى الصين.
في يونيو/حزيران 2000، تم توقيف Varyag. مع اقترابها من مضيق البوسفور، رفضت تركيا السماح للسفينة بالمرور، مشيرة إلى خطر أن تهب عاصفة من الرياح ستؤدي إلى أن تدور السفينة في الاتجاه العرضي وتسد المضيق بأكمله.
أمضت Varyag الأشهر الـ16 التالية مع قاطرة في البحر الأسود، حيث تراكمت عليها رسوم سحب قدرها 8500 دولار في اليوم وتوقف شركة Chong Lot عن دفع فواتيرها.
قارن مشغل القاطرة مصيرها بالأسطول الأصفر الذي علق في قناة السويس لمدة ثماني سنوات بسبب حرب 1967 التي ترتب عليها إغلاق القناة، حتى أن الباحثين الفرنسيين عن الإثارة هبطوا بطائرة هليكوبتر على متن السفينة. في غضون ذلك، تفاوض المسؤولون الصينيون مع تركيا، وقدموا امتيازات تجارية وسياحية.
في أغسطس/آب 2001، وافقت تركيا على السماح للسفينة بالمرور. في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2001، تم إخلاء مضيق البوسفور من جميع حركة المرور الأخرى حيث تم قطر Varyag في 2 نوفمبر/تشرين الثاني، ومرت عبر مضيق الدردنيل دون وقوع حوادث.
في 4 نوفمبر/تشرين الثاني، تعرضت الحاملة لعاصفة وجنحت أثناء مرورها بجانب جزيرة سيكروس اليونانية. تم سحب السفينة مرة أخرى في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2001، بعد وفاة أحد البحارة أثناء محاولته ربط حبلي السحب.
واجهت السفينة مشكلة كبرى لكي تصل إلى وجهتها، فالطريق الطبيعي أن تسافر عبر قناة السويس، ولكن هيئة قناة السويس لا تسمح بمرور السفن "الميتة" – أي السفن التي لا تعمل محركاتها، لذلك تم سحب الهيكل عبر مضيق جبل طارق، حول رأس الرجاء الصالح، ثم مرت عبر مضيق ملقا بين سنغافورة وإندونيسيا بسرعة متوسطة من 6 عقدة (11 كم/ ساعة؛ 6.9 ميل في الساعة) عبر رحلة طولها 28 ألف كلم.
ودخلت Varyag المياه الصينية في 20 فبراير/شباط 2002، ووصلت في 3 مارس/آذار 2002 إلى حوض بناء السفن البحري داليان في شمال شرق الصين. وشملت التكاليف إضافة إلى ثمن بدن السفينة المشار إليه من قبل، حوالي 500 ألف دولار رسوم عبور، و5 ملايين دولار لمدة 20 شهراً من رسوم القطر.
قدر شو في عام 2015 أن إجمالي التكلفة الشخصية التي تحملها كانت 120 مليون دولار أمريكي على الأقل. أصر على أنه لم يتم تعويضه من قبل الحكومة الصينية، وقضى السنوات الـ18 التالية في سداد ديونه، جزئياً عن طريق بيع عقارات مثل منزله.
السفينة كانت في حالة أفضل مما يبدو عليها
على عكس التقارير الأولية التي تفيد بعدم وجود محركات للسفينة، ذكر شو أن المحركات الأربعة الأصلية ظلت سليمة وقت الشراء، ولكن تم إغلاقها وحفظها في أختام الشحوم، وتم إعادة تجديدها وإدخالها إلى العمل عام 2011.
واستغرقت عملية إصلاح وتطوير الحاملة التي اسمتها بكين لياونينغ (Liaoning) سنوات، وسُلمت للبحرية الصينية التي بدأت تشغيلها في سبتمبر/أيلول 2012، ولكنها ظلت سفينة تدريب حتى عام 2018، حيث لم يتم تخصيص Liaoning لأي من أساطيل العمليات في الصين.
يبلغ طول حاملة الطائرات لياونينغ نحو 305 أمتار، وتستطيع ما مجموعه 40 من الطائرات ذات الأجنحة الثابتة والمروحيات مقارنة بالحاملات الأمريكية من طراز فورد، التي أطلقت أول نسخها عام 2017، والتي تستطيع حمل نحو 75 طائرة متنوعة.
ويعتقد أن حمولة لياونينغ القياسية تتكون من 24 طائرة J-15 وهي استنساخ صيني للمقاتلة السوفييتية العاملة من حاملات الطائرات سوخوي 33، ونحو 18 من الطائرات المروحية المتنوعة.
في مايو/أيار 2022، أجرت لياونينغ ومجموعة الطائرات التابعة لها تدريبات في بحر الصين الشرقي وشوهدت بالقرب من جزيرة مياكو من قبل قوات الدفاع الذاتي اليابانية (الجيش الياباني)، ولاحظ المحللون اليابانيون وتيرة عملياتية عالية جداً من لياونينغ، مما يشير إلى تنامي ثقة الصين ونضجها في عمليات تشغيل حاملات الطائرات.
أصبحت هذه السفينة أساساً لتطوير أسطول حاملات الطائرات الصينية، التي وصلت لثلاث سفن، والعدد قابل للزيادة.
استخدمت الصين هذه السفينة لتجري عملية محاكاة أدت إلى إنتاج أول حاملة طائرات صينية الصنع، وهي "شاندونغ" التي يبلغ طولها 315 متراً، وتستطيع أن تحمل ما مجموعه 44 طائرة، بما في ذلك 32 طائرة مقاتلة.
وبعد ذلك طورت الصين حاملة الطائرات الثالثة "فوجيان"، والتي كانت بدأت عملية بنائها عام 2015 وانتهت هذا العام، والتي يعتقد أنها تشكل نقلة كبيرة، مقارنة بالحاملتين السابقتين، حسب الخبراء الغربيين والآسيويين.
وهذه السفينة الجديدة ستكون أول حاملة طائرات حديثة للجيش الصيني، وتمثل خطوة كبيرة مهمة إلى الأمام"، حسبما قال ماثيو فونايول، الزميل الأول في مشروع الصين التابع لمجموعة الأزمات الدولية، لشبكة CNN الأمريكية.
"فوجيان" هي سفينة مختلفة عن الحاملتين السابقتين، فهي أطول بعشرة أمتار من سابقتيها؛ ومن المحتمل أن تكون أكبر حاملة طائرات غير أمريكية في العالم، كما تضم أنظمة إقلاع وهبوط أكثر تطوراً من الحاملتين الأسبق عليها، وأقرب للنظم الأمريكية.
كما أن تصميمها المختلف عن شقيقتيها الأصغر تماماً، هو تصميم صيني بشكل كبير، لأن الحاملة الأولى بناها السوفييت والثانية كانت مشتقة منها، ويشير ذلك ليس فقط لاستفادة الصينيين مما تعلموه من هاتين الحاملتين، والتطوير الذي أضافوه، ولكنها في الأغلب تؤشر إلى أنهم درسوا التصميمات الغربية، ولاسيما الأمريكية عن كثب، وقد يكونون قرصنوا بعض التقنيات.
رغم أن قدرات حاملة الطائرات الصينية الثالثة غير معروفة بالكامل، ولكن يبدو أنها ستكون أصغر قليلاً من الحاملات الأمريكية من طراز فورد، حيث يعتقد أن الحاملة الصينية الجديدة قد تستطيع حمل عدد أدنى بقليل من حمولة فورد، أي نحو 70 طائرة أو أقل، وهو تطور هائل عن الـ40 طائرة التي تحملها الحاملة التي اشتراها الصينيون من أوكرانيا بثمن بخس.