تحولت الاستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا، التي طرحتها إدارة بايدن مؤخراً، لمحور نقاش وجدل في الأوساط الأمريكية، حيث تُتهم بأنها قديمة وقصيرة النظر، وقد تؤدي إلى الإضرار بالقارة، ولا تراعي مواقف الأفارقة من الحرب الأوكرانية والتنافس الأمريكي الصيني.
تُظهر الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه إفريقيا أن الإدارة الحالية لم تتعلم من أخطاء الماضي، وتركز بشكل مفرط على منافسة القوى العظمى، ولا يمكنها التخلي عن عدسة مكافحة الإرهاب في تعاملها مع إفريقيا، حسبما ورد في تقرير Responsible Statecraft الأمريكي.
في 8 أغسطس/آب 2011، أطلقت إدارة بايدن نسختها الخاصة من الاستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا، وسط رحلات إلى القارة قام بها وزير الخارجية أنتوني بلينكن وسفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد.
ومع ذلك، فإن الاستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا تفتقر إلى الأفكار الجديدة وتعيد بشكل أساسيٍّ صياغة استراتيجية إدارة أوباما لعام 2012، حسب الموقع الأمريكي.
يضع واضعو الاستراتيجية إطاراً لإفريقيا في سياق ما أصبح الآن لغة مكررة حول الصراع الأمريكي القائم على القيم مع الصين وروسيا.
وعلى الرغم من أن صناع السياسات الأمريكيين يعطون مكافحة الإرهاب وزناً ضئيلاً الآن بصفة عامة، فإنه في الاستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا ستستمر "الحرب على الإرهاب" بلا هوادة، وبنفس سلسلة الأخطاء السابقة، إن لم يكن بشكل أخطر، الأمر الذي لا يهدد بفشلها، بل قد يدفع بعض الفئات في القارة الإفريقية إلى الانضمام للدائرة المتعاطفة مع الإرهاب.
"ارحلوا عن بلادنا".. القادة الأفارقة لا يأبهون بالمخاوف الأمريكية من الصين وروسيا
عندما يتعلق الأمر بالصين وروسيا، فإن مسؤولي الإدارة الأمريكية لا يتلقون الردود التي قد تعجبهم من القادة الأفارقة.
قال بلينكن، في خطاب ألقاه مؤخراً في بريتوريا بجنوب إفريقيا، عارضاً فيه على الجمهور الاستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا، إن "الولايات المتحدة والعالم سيتطلعان إلى الدول الإفريقية للدفاع عن قواعد النظام الدولي الذي فعلوا الكثير لتشكيله"، ثم ذكر أوكرانيا على وجه التحديد في معرض إشارته إلى هذا النظام الدولي.
ومع ذلك، فإن حليفاً قديماً للولايات المتحدة في إفريقيا مثل الرئيس الأوغندي يوويري موسيفيني، أخبر سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة علناً، في أثناء زيارتها لبلاده، بأنه غير منحاز في هذا الصراع.
وقال إنه "إذا كنتم تريدون حقاً مساعدة العالم الثالث، فلماذا لا تتركوننا بعيداً عن هذا الصراع الذي لا ناقة ولا جمل لدول العالم الثالث فيه".
موسيفيني لا يتحدث باسم جميع القادة الأفارقة، بل باسم كل الأفارقة فقط، حسب تعبير الموقع الأمريكي.
نفاق الاستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا يظهر في حديثها عن الديمقراطية
وتسلط أجندة سفر بلينكن وليندا توماس غرينفيلد الضوء أيضاً على الفجوة بين الخطاب والواقع لإدارة بايدن وكل إدارة أمريكية عندما يتعلق الأمر بإفريقيا. إذ يختار كل رئيس أمريكي الشراكة مع "رؤساء أفارقة يحكمون مدى الحياة"، وبالتالي يتناقض سجلهم بشكل صارخ مع "المجتمعات المفتوحة" التي يزعم الغرب أنه يدعو إليها، وتركز عليها لغة إدارة بايدن، فموسيفيني على سبيل المثال يتولى السلطة في أوغندا منذ عام 1986.
ولرواندا، المحطة الأخيرة لبلينكن، رئيس يتولى السلطة منذ عام 1994. وقد اتُّهم كل من موسيفيني والرئيس الرواندي بول كاغامي بإصدار أوامر بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد خصومهم السياسيين، وضمن ذلك اغتيال المنشقين الروانديين خارج البلاد.
بالطبع المسؤولون الأمريكيون لا يجهلون هذه الحقائق، مما يعطي الاستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا نكهة ساخرة، حيث يبدو أنه من المفترض أن تؤخذ بعض أجزاء الاستراتيجية على محمل الجد أكثر من غيرها.
يفهم القادة الأفارقة ذلك: فلقد تشجع أي إدارة أمريكية الديمقراطيات الموجودة في القارة، لكن لن تقوض أي إدارة أمريكية حكم حلفائها الاستبداديين.
الاستراتيجية تفتح الباب لتدخُّل عسكري أمريكي غير قانوني بذريعة الإرهاب
بالانتقال إلى مكافحة الإرهاب، تدفن وثيقة الاستراتيجية القسم ذا الصلة بعمق داخل النص، لكن اللغة المفتوحة في هذا الجزء تثير القلق، حيث ستقول إن الولايات المتحدة ستعطي الأولوية لموارد مكافحة الإرهاب لتقليل تهديد الجماعات الإرهابية على الأراضي الأمريكية والأفراد في الولايات المتحدة، وكذلك المنشآت الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية.
وتتعهد الاستراتيجية بألا تستخدم القوة الأحادية الجانب "إلا في الحالات التي يكون فيها التصدي للتهديد قانونياً وحيث يكون التهديد أكثر حدة".
هذه الجملة الأخيرة تترك مجالاً للتفسير، حيث يمكن انتهاك القانون بدعوى أن التهديد المحتمل أكثر حدة، مع العلم أنه مفهوم "أكثر حدة" نسبي تماماً.
فتقليدياً، لم يتردد صانعو السياسة والمسؤولون العسكريون الأمريكيون في المجادلة بأن المسلحين في جميع أنحاء العالم، وضمن ذلك بإفريقيا (خاصةً الصومال)، يشكلون تهديدات للولايات المتحدة أو أفرادها ومنشآتها في الخارج.
وفي الوقت نفسه، يتم نشر بعض الجنود الأمريكيين في الخارج على وجه التحديد لمحاربة تهديدات المتشددين المتصورة، مما يجعلهم أهدافاً للمسلحين (كما حدث بالنيجر في عام 2017 في كمين ضد القوات الأمريكية)، وبالتالي خلق دورة ذاتية الاستدامة من التهديدات المتبادلة.
وتمضي الاستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا لتقول: "سنعمل بشكل أساسي من خلال الشركاء الأفارقة ومعهم ومن خلالهم، بالتنسيق مع حلفائنا الرئيسيين، على أساس ثنائي ومتعدد الأطراف لتحقيق أهداف مكافحة الإرهاب المشتركة وتعزيز النهج الذي يقوده المدنيون حيثما كان ذلك ممكناً وفعالاً".
هذه اللغة أيضاً مألوفة وغامضة، وقد تمهد كما حدث في السابق لعمليات أمريكية عسكرية كبرى، حسب الموقع الإمريكي.
ولا تحاول البحث عن الأخطاء الأمريكية السابقة
تحتوي الوثيقة على قليل من التقييم النقدي للماضي، وحتى في قسم بعنوان "تأملات في ثلاثة عقود من سياسة الولايات المتحدة"، فإنه لا يخلو من الإشادة بالذات، حيث يتضمن هذا القسم السطر التالي: "لقد أزال نهج مكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة أهدافاً إرهابية عالية القيمة، وعطّل المؤامرات لمهاجمة مصالح الولايات المتحدة، واستثمر هذا النهج في القدرات المدنية والعسكرية للشركاء الأفارقة الرئيسيين لتقليل التهديد، ولكن التهديد الذي يمثله الإرهاب وأشكال التطرف العنيف لايزال يتطلب اهتمام الولايات المتحدة"، حسبما تقول الوثيقة.
وتجنب المؤلفون نقاش السؤال الأوضح وهو: لماذا لم ينجح النهج السابق، الذي يتم نقله إلى المستقبل؟ وبدلاً من ذلك، يتم إغلاق القسم من خلال جزء بعنوان "الإنجازات التاريخية والتحديات الحالية". وهو يقدم عدداً قليلاً من المعايير لقياس النجاح. ويتساءل تقرير Responsible Statecraft: كيف ستعرف إدارة بايدن ما إذا كانت الاستراتيجية تعمل؟ وإذا لم يتمكنوا من قياس النجاح، فإن "الاستراتيجية" سوف تفسح المجال للجمود.
هل تؤدي مكافحة الإرهاب لإطلاق موجة عداء للأقليات المسلمة؟
حتى في عصر يُفترض فيه أن "منافسة القوى العظمى" تحل محل "الحرب على الإرهاب" كإطار رئيسي للسياسة الخارجية الأمريكية، تواصل واشنطن النظر إلى العديد من التطورات في إفريقيا من خلال عدسة تركز بشكل مفرط على مكافحة الإرهاب.
مع قيام بدء إدارة بايدن بتنفيذ الاستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا، كانت غانا إحدى محطات توقُّف ليندا توماس غرينفيلد، وهي دولة تتمتع بديمقراطية قوية وازدهار نسبي.
ومع ذلك، تواجه غانا الآن، مثل ثلاث دول أخرى في الساحل الغربي لإفريقيا- هي كوت ديفوار وتوغو وبنين- تهديدات بالتشدد، سواء كان ذلك امتداداً من جارتها المنكوبة بالصراع في الشمال، أي بوركينا فاسو، أو من التوترات المحلية التي قد تعطي مساحة للمسلحين للتجنيد.
ومع ذلك، فإن تلك التوترات المحلية حساسة ومتنوعة ومعقدة وسياسياً، حسب الموقع الأمريكي.
وليس هناك ما يضمن أنه حتى السلطات الوطنية ستتوقع وتحبط الروابط الناشئة بين النزاعات طويلة الأمد على الأرض، وبين الزعماء، والسلطة السياسية من ناحية، وإمكانية تصوير المقاتلين المحتملين في هذه المنطقة أنفسهم لسكان المنطقة كأبطال للحرب، خاصة في ظل شعور الناخبين في هذه المناطق بالإهانة.
علاوة على ذلك، فإن اتهام أي مجموعة معينة بأنهم مناضلون أو متمردون فعليون أو محتملون يمكن أن يخلق نوعاً آخر من النبوءة التي تتحقق من تلقاء نفسها. فلسنوات تخبطت السلطات والقوات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو عند مواجهة هذا التداخل، وكل خطوة نحو تأمين السياسة المحلية جعلت الأمور أسوأ.
كل هذا يصبح خلفية لفهم سبب عدم حكمة زيارة توماس غرينفيلد حتى لشمال غانا المضطرب، فضلاً عن تسليط الضوء على النزاعات المحلية التي تخضع الآن لتدقيق شديد.
وكيف يجب أن يظهر هذا للناس في المناطق الشمالية من غانا، والذين يواجهون موجات جديدة من التنميط العرقي والعسكرة والعقاب الجماعي من قبل جنود الجيش والشرطة.
الفكرة القائلة بأن قوة عظمى تراقب من أصبح رئيساً في بلدتك، وقد تصنفك إرهابياً إذا لم يعجبك ذلك، ستجعل الناس يشعرون بجنون العظمة والغضب في الوقت ذاته.
ويلمح تقرير المركز الأمريكي إلى أن مثل هذه السياسات سوف تساعد على وصم مسلمي شمال غانا بالإرهاب، وتشجع التمييز ضدهم، الأمر الذي قد يؤدي إلى رد فعل من قِبل بعضهم، بالانضمام بالفعل للمجموعات التي توصف بالإرهابية.
وتركزت جهود مكافحة الإرهاب في دول إفريقيا جنوب الصحراء خلال الفترة الماضية، في الدول المتاخمة للصحراء الكبرى، والتي هي دولٌ أغلب سكانها من المسلمين، مما قلل من تحوُّل عملية مكافحة الإرهاب لاستراتيجيات تستهدف السكان المسلمين، رغم أنها أدت بالفعل، إلى تمييز ضد السكان الطوارق والعرب الذين يسكنون التخوم الصحراوية لهذه البلدان.
ولكن في حالة غانا، التي أغلب سكانها من المسيحيين الذين يتركزون في الوسط والجنوب قرب الساحل في مناطق الغابات الجنوبية، بينما يمثل المسلمون فيها أقلية تسكن إلى حد كبير في الشمال ذي الغطاء النباتي من السافانا، فإن هذا يهدد بموجة من التمييز ضد المسلمين تضاف إلى الفوارق والفجوات الموجودة أصلاً في معظم دول غرب إفريقيا بين سكان السواحل الجنوبية ذات الطبيعة الغابية والمتأثرة أكثر بالاستعمار، ومناطق الشمال الرعوية الأكثر عزلة.
لماذا لا يصدق أحدٌ وجود شراكة متساوية بين أمريكا وإفريقيا؟
وهناك لازمة تكررها واشنطن، خاصة في كل مرة يتم فيها إصدار إحدى هذه الاستراتيجيات، حول كيفية اعتبار الولايات المتحدة الدول الإفريقية "شركاء" وليسوا مرؤوسين.
ومع ذلك، هناك دائماً في مثل هذه الاستراتيجيات كلمات مثل: "لكن" أو "في الوقت نفسه"، والتي تنسف الادعاءات بالشراكة الأمريكية الإفريقية المزعومة.
ويقول الموقع الأمريكي: "ولا تزال سياسة الولايات المتحدة تجاه إفريقيا في نهاية المطاف مبنية على عسكرة ونفاق شديدين، كما أن لغة مكافحة الإرهاب عميقة في الاستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا، وقد يكون لها تأثيرات سلبية، أما لغة الصراع مع روسيا والصين فتبدو غير واقعية بالنسبة للأفارقة، ومهما بدا التركيز على أنه صراع حول القيم المشتركة بين إفريقيا والغرب، فإن الواقع أنه صراع مصالح وليس قيم، ويعلم الأفارقة هذا جيداً، فهم أكثر من جربوا نفاق القيم الغربية".