أفاد تقرير جديد لمنظمة الهجرة الدولية بأن عدد المهاجرين في مصر يبلغ نحو تسعة ملايين شخص، يقاربون 9% من السكان. فمن أين أتى هؤلاء المهاجرون وما الوظائق التي يعملون بها؟ وما دورهم في تنشطة الاقتصاد المصري؟
في هذا التقرير سنسلط الضوء على ذلك، وسنتطرق أيضاً إلى تعامل مصر تاريخياً مع قضية المهاجرين.
9 ملايين مهاجر في مصر بينهم مليون ونصف المليون سوري
كشفت منظمة الهجرة الدولية في تقريرها الأخير الصادر في شهر أغسطس/آب الجاري، أن عدد المهاجرين الدوليين المقيمين في مصر هو 9 ملايين و12 ألفاً و582 مهاجراً، وهو ما يعادل 8.7% من مجموع سكان البلاد.
وذكر التقرير أن هؤلاء المهاجرين ينتمون إلى 133 دولة، موزعين بين المجموعات السودانية بـ4 ملايين مهاجر والسوريين بـ1.5 مليون، واليمنيين والليبيين بنحو مليون لكل بلد، حيث تشكل هذه الجنسيات الأربع ما نسبته 80% من المهاجرين الدوليين المقيمين في البلاد.
تشير البيانات أيضاً إلى وجود 300 ألف من جنوب السودان، و200 ألف من الصومال، و150 ألفاً من العراق، و135 ألفاً و932 فلسطينياً، و17 ألف إثيوبي.
وتفوق تقديرات المنظمة التقديرات الرسمية المصرية الأخيرة، التي كانت تحدد أعداد المهاجرين بـ6 ملايين مهاجر.
كما كشفت دراسات منظمة الهجرة الدولية والبيانات، التي جمعتها من السفارات، أن أكثر من ثلث المهاجرين في مصر (37٪) يعملون في وظائف ثابتة وشركات مستقرة، مما يشير إلى أنهم يساهمون بشكل إيجابي في سوق العمل ونمو الاقتصاد المصري.
وقالت المنظمة إن السوريين، على سبيل المثال، والذين يشكلون 17٪ من أعداد المهاجرين الدوليين في مصر "يعتبرون من أفضل الجنسيات التي تساهم بشكل إيجابي في سوق العمل والاقتصاد المصري"، لافتة إلى أن حجم الأموال، التي استثمرها 30 ألف مستثمر سوري، مُسجل في مصر تقدر بنحو مليار دولار".
وكشف التقرير أن هناك زيادة ملحوظة في عدد المهاجرين بمصر منذ عام 2019، بسبب عدم الاستقرار في البلدان المجاورة، مما دفع الآلاف من السودانيين وجنوب السودان والسوريين والإثيوبيين والعراقيين واليمنيين إلى البحث عن ملاذ آمن في مصر.
ما الذي يختلف في تجربة مصر عن غيرها في التعامل مع قضية اللاجئين؟
كان الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، قد أشار إلى هذا العدد في يناير/كانون الثاني 2022، خلال افتتاحه "منتدى شباب العالم"، الذي تنظمه الحكومة المصرية بمدينة شرم الشيخ، حين قال إن "مصر تستضيف ما لا يقل عن 6 ملايين شخص فروا من الصراع والفقر في بلادهم".
وأضاف أن حكومته "عكس بعض البلدان الأخرى، لا تحتجز المهاجرين في مخيمات، لكنها تسمح لهم بالعيش بحرية في المجتمع". ولفت إلى أن القاهرة توفر التعليم والرعاية الصحية وغيرهما من الخدمات لجميع المهاجرين واللاجئين على الرغم من مواردها المحدودة والضغوط الاقتصادية.
وقالت المنظمة الدولية إنه "قد يُنظر إلى الخطاب الإيجابي للحكومة المصرية تجاه المهاجرين واللاجئين، على أنه عامل جذب للمهاجرين واللاجئين وطالبي اللجوء مؤخراً إلى مصر"، رغم أن البلاد تواجه ضغوطاً اقتصادية متزايدة جراء تداعيات جائحة كورونا والحرب الروسية في أوكرانيا.
وأكدت المنظمة أن "مصر كانت دوماً سخية في إدراج المهاجرين واللاجئين وطالبي اللجوء في النظم الوطنية للتعليم والصحة، على قدم المساواة مع المصريين في كثير من الحالات، وهذا على الرغم من التحديات التي يواجهها هذان القطاعان والتكاليف الاقتصادية الباهظة".
معتبرة أن "إدراج السكان المهاجرين في خطة التطعيم الوطنية ضد فيروس كورونا مثالٌ حديث واضح على نهج الحكومة المصرية في معاملة المهاجرين، على قدم المساواة مع المواطنين المصريين".
أين يتواجد معظم اللاجئين أو المهاجرين في مصر؟
تعتبر المنظمة الدولية للهجرة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة أن المهاجر هو "أي شخص يتحرك أو ينتقل عبر حدود دولية أو داخل دولة بعيداً عن مكان إقامته المعتاد، بغض النظر عن وضعه القانوني، وأسباب هجرته ومدة إقامته وما إذا كانت هجرته طوعية أو غير طوعية".
وأوضحت المنظمة أن عدد السعوديين المقيمين في مصر، والبالغ عددهم 600 ألف سعودي، اختاروا الانتقال إلى مصر بغرض الدراسة في الجامعات المصرية أو التقاعد، ومن بينهم مجموعات تسافر لقضاء موسم معين، خاصةً الصيف، في مصر.
ولفتت إلى أن متوسط عمر المهاجرين فى مصر هو 35 سنة، مع نسبة متوازنة من الذكور (50.4%) والإناث (49.6%)، ويقيم غالبيتهم (56%) في 5 محافظات، هي: القاهرة والجيزة والإسكندرية ودمياط والدقهلية.
وتضم قائمة الأسباب التي جعلت مصر مهجراً لملايين العرب، حسن الضيافة والثقافة واللغة المتشابهة، وغياب متطلبات التأشيرة والقرب الجغرافي والأمن السلمي مع الظروف الاقتصادية الجيدة، مقارنة بالدول التي جاء منها المهاجرون، حسب المنظمة الدولية للهجرة.
إساءات "نادرة" للاجئين في مصر
على عكس الدول الأوروبية، استقبلت معظم الدول العربية اللاجئين السوريين، بترحاب نسبي، وضمن ذلك دول مشرقية ومغاربية، وقد يكون هناك استثناء في بعض الدعوات بلبنان، لأسباب خاصة بهذا البلد، بعضها يتعلق بضخامة نسبة اللاجئين والعمال السوريين في لبنان والتي تقارب ربع السكان، في وقت هناك حساسيات تجاه سوريا لدى الطوائف اللبنانية، خاصةً المسيحيين الذين ينظرون بقلق تاريخي إلى سوريا باعتبارها تمثل المحيط العربي الإسلامي، بلبنان الذي يخشى الموارنةُ فيه تقليدياً الذوبان، إضافة إلى ممارسات نظام الأسد خلال فترة الوجود السوري في لبنان، والتي استهدفت السُّنة والمسيحيين عادة، إضافة إلى مخاوف الشيعة من تعاطف اللاجئين السوريين مع المعارضة السورية ضد نظام الأسد المتحالف مع حزب الله وإيران.
وتجدر الإشارة إلى أن سوريا وشعبها استقبلوا أيضاً، المهاجرين العراقيين الذين فروا من بلادهم عقب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
ولكن مصر تظهر فيها ظاهرة الترحاب بالمهاجرين بشكل واضح في ظل هذا العدد الكبير منهم، وباستثناء بعض الانتقادات التي وُجهت لبعض السوريين بسبب احتجاجهم على عزل الرئيس السابق محمد مرسي الذي قد منحهم العديد من الحقوق، وما ترتب على ذلك من إساءات محدودة وُجهت إليهم بعد 30 يونيو/حزيران 2013، في بعض وسائل الإعلام الحكومية
ولكن ظل وضع السوريين في مصر بشكل عام آمن نسبياً، كما أن الحكومة واصلت بعد 30 يونيو/حزيران منحهم كثيراً من حقوق المصريين رغم أنها أوقفت لفترةٍ قدوم مزيد من السوريين بعد هذا التاريخ.
العراقيون والسودانيون لقوا معاملة مماثلة
وقبل السوريين كان اللاجئون العراقيون محل ترحاب في مصر من الحكومة والشعب، واللافت في هذا الصدد العلاقة المركبة بين مصر والعراق والهجرة المتبادلة بين البلدين.
حيث كان العراق يستضيف نحو ثلاثة ملايين مصري خلال الثمانينيات، حيث لعبوا دوراً مهماً في اقتصاد البلاد خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية، ولكن في نهاية هذه الحقبة وقعت مشكلات كبيرة للمصريين هناك، وقيل إن بعض جثث المصريين عادت في أكفان من العراق، وسط انتقادات من المعارضة المصرية ضد ما اعتبرته تهاوناً من نظام الرئيس الراحل حسني مبارك أمام هذه الظاهرة وحديث عن مسؤولية الرئيس العراقي تجاه ما حدث، وإن كانت أغلب التقديرات تشير إلى أن صدام كان حريصاً على حماية ورعاية المصريين في العراق، خاصةً أنه كان معروفاً بتوجهه القومي وتلقى جزءاً من تعليمه بالقاهرة وكان متاثراً في فترة ما بالتجربة الناصرية.
ورغم هذه التجربة الأليمة العابرة التي عاشها المصريون في العراق، فإنه عندما جاء العراقيون إلى مصر بعد الغزو الأمريكي للعراق قوبلوا بترحاب كبير من قبل الدولة المصرية وكذلك الشعب، ولم يحدث أي تفرقة بين السنة والشيعة في المعاملة، رغم تحفظات السياسة المصرية الرسمية والشعبية التقليدية تجاه إيران والأحزاب السياسية الشيعية.
وقبل ذلك بعقود استضافت مصر أعداداً من الفلسطينيين وكان نادراً أن يوجد الفلسطينيون بمصر في معسكرات اللاجئين كما حدث في بقية الدول العربية إلا بعض المعسكرات في سيناء، ولكن عاش الفلسطينيون بين أطياف الشعب المصري وحافظوا على قدر من مؤسساتهم والتواصل بين مجتمعاتهم، وإن عانوا من بعض المشكلات البسيطة في فترة السبعينيات بسبب الخلاف بينهم منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة المصرية بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل.
وبإضافة إلى ذلك كان السودانيون دوماً ضيوفاً على مصر منذ أن كان البلدانِ تحت حكم واحد، على الأقل من ناحية الرسمية، خلال الفترة الملكية والاستعمارية، بل كان السودانيون يمثلون قطاعاً أحياناً من القوات الأمنية والعسكرية في العهد الملكي، ولم تحدث مشكلات بينهم وبين السلطة باستثناء ما حدث في الاعتصام الذي وقع بميدان مصطفى محمود، وكان أغلب المشاركين فيه من الأفارقة ومن السودانيين من جنوب السودان وغرب البلاد.
والليبيون تقليدياً لهم علاقة خاصة بمصر قديمة للغاية، حيث إن هناك أصولاً مشتركة تربط بين القبائل العربية الليبية وسكان غرب النيل سواء في الصعيد أو في الدلتا أو في محافظة مرسى مطروح، ويعتقد أن هناك ملايين من المصريين من سلالة هجرات القبائل العربية الليبية، إضافة إلى العلاقات بين الطرق الصوفية في البلدين على مدار قرون.
وأدى ذلك إلى تصاهر بين الليبيين والمصريين، خاصةً المصريين الذين تربطهم علاقات أسرية قديمة مع ليبيا في محافظات مرسى مطروح والفيوم والبحيرة والمنيا على الأخص.
وبعد تولي القذافي الحكم في نهاية الستينيات جاء الملك الليبي السنوسي إلى مصر رغم علاقة القذافي الوثيقة بجمال عبد الناصر، وأصبحت مصر بصفة عامةٍ ساحة لهجرة كثير من المنفيين الليبيين والمعارضين لنظام القذافي، خاصة في فترة التوتر بين مصر وليبيا خلال السبعينيات والثمانينيات. وبعد الثورة الليبية وما أعقبها من انهيار نظام القذافي والحرب الأهلية، جاءت أعداد كبيرة من الليبيين الى مصر؛ بحثاً عن الأمان والظروف الحياتية الأفضل، خاصة في ظل أن أغلبهم يتوافر لهم إمكانيات مادية جيدة نسبياً.
ظاهرة قديمة في مصر
ولكن الهجرة إلى مصر، خاصةً الهجرة العربية، هجرة قديمة، واستيعاب مصر لهذه الهجرة وعدم وجود أو قلة المشكلات التي تواجه المهاجرين خاصةً العرب والمسلمين، ظاهرة وسمة قديمة للثقافة المصرية.
فالهجرة الشامية إلى مصر تكاد تكون جزءاً من ثقافة الشام المضطرب دوماً والذي يعاني من الغزوات والحروب الأهلية منذ العهود القديمة.
وهجرة السيد المسيح إلى مصر مع والدته السيدة مريم العذراء نموذج واضح لهذه الهجرة الشامية التي تعود لآلاف السنين، ويقال إن مسيحيي الشام جزء من تركيبتهم النفسية فكرة الهجرة إلى مصر عند وقوع الأزمات أو تعرضهم للاضطهاد.
وهجرة القبائل العربية إلى مصر هجرة قديمة تعود إلى فترة قوية طويلة قبل الفتح العربي لمصر، ثم اكتسبت زخماً كبيراً بعد الفتح العربي، حيث تواصلت هذه الهجرة على مدار مئات السنين وامتزجت القبائل العربية بالأقباط من سكان وادي النيل ليخرج من نسلهم الشعب المصري في نسخته الحالية ذات الجذور العربية القبطية المشتركة.
والهجرة من شمال إفريقيا أيضاً قديمة، ويعتقد أن الأمازيغ- خاصةً القادمين من ليبيا- كانوا يمثلون مكوناً مهماً من مكونات المجتمع المصري القديم، خاصة في الجيوش المصرية، كما أن منهم من كانوا حكاماً للبلاد، وشكلوا عدة أسر حاكمة في مصر القديمة، وكذلك سكان السودان القديم، وتعد واحة سيوة الشهيرة مثالاً لهذه الهجرة حيث ينتمون إلى أصول أمازيغية قديمة، ومازالوا يتحدثون لغة أمازيغية.
أنساب متداخلة في العصر الإسلامي
في العصر الإسلامي اتسمت العلاقة بين مصر والمغرب العربي الكبير برمته بأنها ذات اتجاهين، فكل القبائل العربية التي هاجرت إلى المغرب العربي وعرَّبته جاءت تقريباً من مصر، وأشهرها قبائل بني هلال وبني سليم التي انطلقت من صعيد مصر للمغرب الكبير، وبقي بعضهم في مصر، وجعل هذا هناك قرابة وثيقة بين القبائل العربية في المغرب العربي الكبير والقبائل العربية في مصر.
كما أن بعض القبائل العربية التي هاجرت إلى المغرب العربي الكبير عادت مرة أخرى في عصور لاحقة إلى مصر، وجعل هذا سكان الشطر الغربي من وادي النيل وسكان المناطق الصحراوية والقبائل البدوية الغربية ذوي نكهة مغاربية فلهجاتهم وملابسهم قريبة إلى سكان ليبيا على الأخص، كما أن بقاء الحجاج المغاربة في مصر ظاهرة مهمة، ومنهم على الأخص رجال الدين الذين حوَّلتهم الثقافة المصرية إلى أولياء الله الصالحين الذين يحتلون مكانة كبيرة في الوجدان الشعبي الديني المصري.
كما يُعتقد أن هناك هجرة أمازيغية كبيرة حدثت في العصور الإسلامية، وجاء كثير منها في شكل جنود مع الدولة الفاطمية، وهناك قرية في محافظة الدقهلية تدعى كتامة وهو اسم القبيلة الأمازيغية التي كانت تمثل عماد الجيوش الفاطمية، كما يعتقد أن المغاربة كانول يمثلون دوماً مكوناً مهماً من سكان القاهرة ولعبوا دوراً كبيراً في مقاومة الحملة الفرنسية.
وقبائل الهوارة التي تشكل شطراً مهماً من سكان صعيد مصر وبعض أجزاء الدلتا ومناطق في المغرب العربي، إنما هي نتيجة امتزاج قبائل أمازيغية مع القبائل العربية.
الشوام أسسوا الصحافة المصرية
في العصر الحديث بعد تولي محمد علي الحكم في مطلع القرن التاسع عشر تحولت مصر إلى قبلة لهجرة واسعة من منطقة البحر المتوسط وبصورة أقل من الدول العربية.
وعلى مدار قرن ونصف القرن من حكم الأسرة العلوية جاءت إلى مصر أعداد كبيرة من الشوام، خاصةً لبنان، والذين أثبتوا مهارة في التجارة ولعبوا دوراً كبيراً في نشأة الصحافة والأدب المصري والعربي، وتحولت مصر إلى ملاذ للمثقفين الشوام، خاصةً المسيحيين المعارضين للحكم العثماني.
كما جاء كثير من المهاجرين من دول عربية أخرى واندمجوا بسرعة في البنية الاجتماعية المصرية، بل أصبحوا رموزاً وطنية مصرية، فجاء من تونس الشاعر الكبير بيرم التونسي صاحب الأغاني الشعبية والوطنية، ونجيب الريحاني الفنان العراقي المسيحي الذي كان أكثر من عبّر عن تركيبة الشخصية المصرية التي جمعت بين مزيج نادر للمرارة والسخرية.
وعلى غرار الهجرات العربية القديمة امتزجت الهجرات العربية الحديثة بشكل كبير في مصر الحديثة وأصبحت جزءاً من التركيبة الاجتماعية المصرية، وإن كان جزء من الهجرة اللبنانية- خاصةً المسيحية- كان أقرب للجاليات الأجنبية التي كانت تسيطر على اقتصاد البلاد وكانت مرتبطة بالاستعمار البريطاني.
الهجرة العثمانية.. من الجيش لتشكيل طبقة الباشوات
إضافة إلى الهجرة من الدول العربية شهدت مصر على مدار تاريخها هجرة من العناصر التركية وكذلك الشركس والألبان والجورجيين المسلمين وغيرهم من العناصر التي يمكن وصفها بالعثمانية، لأنها كانت تمثل القوام الأساسي للطبقة الحاكمة العثمانية، وانضمت هذه النخب لبقايا المماليك الذين تعود جذورهم لأصول جورجية وتركية أيضاً.
وقام محمد علي بتوظيف هذه العناصر التركية والألبانية والشركسية وبقايا المماليك، وجميعهم كانت لديه خبرة عسكرية كبيرة، ليكونوا نخبته الحاكمة الذين يقودون الجيش والدولة، ووزع عليهم الأراضي الزراعية فيما يعرف باسم نظام الاحتكار، حيث كانوا مكلفين بجمع الضرائب، ولكن هذا النظام تحوَّل تدريجياً إلى نظام الإقطاع القائم على طبقة من مُلاك الأراضي من الباشوات الذين ينحدرون إما من أصول عثمانية وإما مملوكية، إضافة إلى زعماء القبائل البدوية العربية وأعيان الريف والعُمد من الطبقات العليا من الفلاحين المصريين.
وعكس كثير من الدول العربية فإن الهجرة التركية إلى مصر لم تتقوقع في مناطق معينة أو تُشكل تكتلات قبائل بعينها مثل قبائل الكراغلة في دول المغرب العربي أو القبائل التركمانية في العراق والشام.
ولكن الهجرة التركية والعناصر المملوكية والشركسية أيضاً لم تندمج في البداية بشكل كامل في البنية الاجتماعية المصرية على عكس ما حدث مع الهجرة من الدول العربية.
ولكن شكَّل المهاجرون الأتراك والألبان والشركس وغيرهم ممن يمكن وصفهم بعناصر النخبة العثمانية، القوام الرئيسي للطبقة الاجتماعية العليا المالكة للأرض الزراعية في مصر خلال القرن التاسع عشر، حيث ظلت الأسرة العلوية ذات هوى عثماني هي ومحيطها في مواجهة المصريين من سكان البلاد الأصليين.
وكانت طبقة ملاك الأراضي بأصولها الثلاثة العثمانية والبدوية وأعيان الريف، في بداية الأمر ذات نكهة عثمانية وتركية كبيرة ولكن تدريجياً ازدادت عملية تمصيرها، وساعد على ذلك عدم وجود اختلاف في الدين وتبنّيها تدريجياً اللغة والثقافة العربية، إضافة إلى تأثرها بالثقافة الأجنبية الوافدة.
ومع بدء ظهور ما يمكن تسميته بالحياة السياسية في مصر بدأت نظرة هذه الطبقات لنفسها تتحول إلى أنها طبقة ملاك أراضٍ وطنية وتعتز بانتمائها لمصر الحديثة بجذورها العربية الإسلامية الفرعونية ومكوّنها القبطي مع التأثر بشكل كبير بالحداثة الغربية.
وبدأت هذه الطبقة تتبنى تدريجياً الشعور الوطني المصري، خاصة في فترة النضال ضد النفوذ الاستعماري، ولعب بعضها دوراً في معارضة الخديوي إسماعيل ومن بعد الخديوي توفيق، بل كان من بعضهم شعراء وأدباء لعبوا دوراً مهماً في الثقافة المصرية العربية وأصبح بعضهم من رموز العمل الوطني والثقافة المصرية مثل محمود سامي البارودي رب السيف والقلم، الشاعر والضابط الوطني المعارض للخديوي ذي الأصول المملوكية، وأحمد شوقي أمير الشعراء ذي الأصول الكردية، وقاسم أمين ذي الأصول التركية.
المهاجرون الأوروبيون كانوا ينظرون باستعلاء للمصريين
رغم ميل الجيل الجديد من المثقفين المصريين للإشارة بشكل إيجابي إلى ما يعتبرونه تعايشاً وامتزاجاً بين المصريين والمهاجرين الأوروبيين في عصر ما قبل ثورة يوليو/تموز 1952، فإن الرصد العلمي يشير إلى أن هذا لم يكن صحيحاً على الإطلاق.
وأن الجاليات الأوروبية كانت تعيش منعزلة وتنظر باستعلاء لبقية المصريين بطريقة تفوق بشكل كبير، العزلة النسبية التي عاشها المهاجرون الأتراك والشركس في مصر.
ويشير إلى ذلك، المؤرخ البريطاني فيليب مانسيل في كتابه الشهير"ثلاث مدن مشرقية"، حيث كانت الجاليات الأوروبية في الأغلب أداة من أدوات الاستعمار البريطاني، وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن ذريعة احتلال بريطانيا لمصر بدأت من خلال افتعال خلاف بين مهاجر مالطي ومواطن مصري، أدت إلى معركة بين المهاجرين الأوروبيين في الإسكندرية والمواطنين المصريين، وتدخَّل الإنجليز بدعوى حماية الأجانب، وهي المعركة التي انتهت بمذبحة للمصريين في الإسكندرية عام 1882.
وكانت حماية الأجانب إحدى ذرائع وجود الاستعمار البريطاني دوماً، كما أن مصر في ذلك الوقت كانت تشهد تمييزاً قضائياً فجاً عبر ما يعرف باسم المحاكم الأجنبية أو القنصلية ثم المحاكم المختلطة، حيث كان الأجانب لا يخضعون للنظام القضائي المصري المحلي.
وكان التزاوج بين الجاليات الأوروبية والمصريين محدوداً حتى مع الأقباط ، عكس التزاوج بين المهاجرين العرب والمصريين، وبصورة أقل بين المهاجرين ذوي الأصول التركية والشركسية والمصريين.
لا غيتوات منعزلة، واندماج طوعي وتدريجي
وعلى مدار تاريخ الهجرة إلى مصر، هناك ظاهرتان: الأولى أنه رغم اعتزاز المصريين بوطنيتهم فإنه نادراً ما تكون هناك توجهات عنصرية منظمة إلا بعض الحوادث الفردية التي ترتبط في الأغلب بالأحداث السياسية.
والثانية أنه على مدار التاريخ لم تشكل الجاليات المهاجرة غيتوهات منعزلة تستمر لعقود، بل استطاعت هذه الجاليات- لاسيما العربية- الحفاظ على هويتها نسبياً، ولكن البنية الاجتماعية المصرية سرعان ما تدمجها بسلاسة ودون أي عمليات قسرية، حيث توفر مصر بالنسبة للهجرة العربية بيئة توازن بين السماح للمهاجرين بالحفاظ على قدر من هويتهم الأصلية وأيضاً قدر من الامتزاج الملائم المتدرج على مدى الزمن.
نوعية المهاجرين العرب تساعد على قلة المشكلات
كما أن الطبيعة الجغرافية المصرية خلقت نوعاً من الترشيح لنوع الهجرة القادمة للبلاد، فرغم أن مصر تتوسط الدول العربية، فإن كتلتها الجغرافية المعمورة ليست ملاصقة لأي دولة عربية أخرى، وتفصل الصحاري بينها وبين جوارها، مما جعل الهجرة إليها في الأغلب عبر الطائرات أو طرق سفر أخرى مكلفة، ونادراً ما تأتي إليها موجات من اللاجئين القادمين سيراً على الأقدام كما حدث في بعض الدول العربية الأخرى، وهذا يجعل المتوسط العام الاجتماعي والمادي للمهاجرين العرب إلى مصر مرتفعاً أو متوسطاً، وهو ما يترتب عليه قلة الجرائم بينهم، إضافة إلى التشابه بين البيئات الاجتماعية في هذه الدول ومصر، كل ذلك يجعل هذه الهجرة غير مستفزة في الأغلب للمصريين، عكس ما حدث في بعض الدول الأخرى بالمنطقة مثلما حدث في تركيا أو لبنان.
على الجانب الآخر، يلاحظ أن سياسات الأنظمة في مصر على اختلافها دائماً مرحِّبة بالمهاجرين واللاجئين.
ولم تستغل المعارضة هذا الملف ضد الحكومة مثلما يحدث في بلد مثل تركيا، ترحب حكومتها بالمهاجرين العرب لاسيما السوريين، بينما تلعب المعارضة بهذا الملف ضدها.
وعلى العكس في مصر، فإن المعارضة والنخب المثقفة والشباب المتعلم والمتدينين يقفون أمام أي محاولات لإشعال موجات عداء ضد المهاجرين مثلما حدث عندما أثيرت بعض هذه الموجات ضد السوريين قبل سنوات، فظهر هاشتاغ سريع الانتشار بعنوان "السوريين منورين مصر".
كما أن مصر بلد كبير السكان والمساحة قادر على استيعاب أعداد كبيرة من اللاجئين، وبنيت في البلاد خلال العقود الماضية مدن جديدة ضخمة استوعبت أعداداً كبيرة من المهاجرين العرب، مما خلق نوعاً من تبادل المنفعة بين الجانبين.
فهؤلاء المهاجرون ساهموا بتعمير بعض هذه المدن، وضخوا الأموال في شراء وتأجير الشقق والمحلات، فوفرت لهم هذه المدن ملاذات آمنة ومنعزلة نسبياً، وأضافوا هم لها نكهتهم الخاصة، مثلما حدث مع السوريين بشكل خاص، حيث لعبوا دوراً مهماً في تطور اقتصاد مدينة 6 أكتوبر المصرية، وبصورة أقل، منطقتي "مدينتي" و"الرحاب"، وهي المناطق التي بات المصريون يتذوقون فيها الأطعمة الشامية كأنهم يسيرون في حارات دمشق العتيقة.