في تحول لافت، أشادت مؤسسات مالية غربية بأداء الاقتصاد التركي، وأصبح هناك تفاؤل في الأسواق العالمية بشأن الأوراق المالية التركية ومجمل الاقتصاد التركي.
وتراجعت مخاطر الائتمان السيادية في تركيا، التي قفزت إلى أعلى مستوى في 19 عاماً في الشهر الماضي، إلى 703 نقاط أساس خلال الأسبوع الجاري، وهو أدنى مستوى لها منذ مايو، بعد أن ساعد تحويل روسيا النقود إلى شركة تابعة في تركيا على زيادة احتياطي النقد الأجنبي للبلاد، حسبما ورد في تقرير لوكالة بلومبرغ الأمريكية.
وانخفض العائد الإضافي الذي يطلبه المستثمرون مقابل حيازة سندات دولارية تصدرها تركيا، بدلاً من سندات الخزانة الأمريكية، إلى أقل من 600 نقطة أساس أمس الأول الثلاثاء، وذلك للمرة الأولى منذ يونيو/حزيران 2022.
واستقرت السندات التركية وسط بيانات أظهرت أنَّ المبلغ الإجمالي من العملات الأجنبية التي تحتفظ بها الشركات في البنوك التركية قفز بنحو 5.6 مليار دولار في سبعة أيام. قال الخبير الاقتصادي المستقل، هالوك بورومتشيكسي، في تقرير إنَّ إجمالي الاحتياطيات، بما في ذلك الذهب، ربما ارتفع 7.3 مليار دولار إلى 108.6 مليار دولار الأسبوع الماضي، حسبما نقلت عنه بلومبرغ.
يأتي انتعاش سوق السندات بعد المكاسب في الأسهم، فقد سجل المؤشر القياسي أكبر ارتفاع أسبوعي في 21 شهراً.
إشادة خجولة تختلف تماماً عن الانتقادات السابقة
وجاءت إشادة المؤسسات المالية الغربية الخجولة بأداء الاقتصاد التركي والأوراق المالية التركية؛ ليمثل انعكاساً كاملاً عن الانتقادات الموجهة من هذه الجهات خلال السنوات الماضية لسياسة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الاقتصادية.
فعلى مدار سنوات وجهت المؤسسات المالية والمحللون الغربيون انتقادات حادة لإصرار الرئيس التركي على خفض سعر الفائدة في بلاده.
ولسنوات قالت إن هذه السياسة مسؤولة عن تراجع الليرة التركية بشكل كبير، وارتفاع معدل التضخم بالبلاد، الذي سجل في العالم الأخير مستوى لم يسجله منذ بداية حكم حزب العدالة والتنمية بالبلاد.
معادلة سعر الفائدة الصعبة
وقد يكون هذا صحيحاً إلى حد كبير أن خفض الفائدة أدى لتراجع الليرة وارتفاع التضخم.
ولكن ما كانت تتجاهله هذه المؤسسات المالية، التي تمثل في الأغلب مصالح مستثمري الأموال الساخنة في العالم أن رفع سعر الفائدة، رغم أنه قد يؤدي على المدى القصير إلى تخفيض التضخم وتقوية العملة الوطنية، فإنه له أضرار أكبر على المدى البعيد.
إذ يؤدي رفع سعر الفائدة إلى زيادة حجم الديون، كما أنه يؤثر على النشاط الاقتصادي الواقعي على الأرض وخاصة الجوانب الانتاجية والاستهلاكية؛ لأن الشركات في هذه الحالة تصبح أقل قدرة على الاقتراض للتوسع في أنشطتها، بل قد تواجه مشكلة في سداد الديون، كما أن المستهلك يكون أميل لعدم الشراء والاستثمار، ويفضل إيداع أمواله في المصارف لجني الأرباح السهلة، مما يؤدي لنقص السيولة وتزايد البطالة.
الاقتصاد التركي يقوم على حركية بالغة للشركات الخاصة
وفي الحالة التركية على وجه الخصوص، فإن رفع سعر الفائدة (التي هي مرتفعة أصلاً) له أضرار كبيرة، لأن الاقتصاد التركي يقوم على كتلة كبيرة من الشركات الخاصة النشطة المجالات الصناعية والزراعية والخدمية، والتي تعتمد على السياحة والتصدير والاستهلاك المحلي بشكل كبير.
وهذه الشركات تعتمد على السيولة التي تتوفر لها من القروض ورفع سعر الفائدة سيترتب عليه أعباء كبيرة على هذه الشركات ،ويقلل من قدرتها على التوسع في الإنتاج، ويؤثر على نشاط الأسواق وازدياد البطالة، الأمر سيؤدي بدوره إلى تراجع الصادرات والنمو الاقتصادي، الأمر الذي سينتج عنه رفع نسبة القروض لحجم الناتج المحلي، مما سيؤدي لتخفيض أكبر في وقت لاحق لسعر العملة.
فتضطر الدول في أغلب الأحيان إلى مزيد من الاستدانة لرد الديون إلى أن تجد نفسها أمام خيار خفض حاد ومفاجئ في عملتها، مثلما حدث في حالة الجنيه المصري عام 2016.
النموذج اللبناني.. رفع سعر الفائدة يؤدي لدوامة ديون قد تؤدي لانهيار اقتصادي
وإذا واصلت الدولة الحفاظ على سعر مصطنع لعملتها وتعويض النقص في العملة الأجنبية بالديون أو طباعة النقود، فإن هذا سيؤدي إلى تفاقم العجوزات المالية وزيادة المخاطر التي يمثلها هذا على الاقتصاد وتضطر الدول في مواجهة ذلك إلى مزيد من رفع الأسعار الفائدة لجذب مزيد من الديون من مستثمري الأموال الساخنة مما يدخل البلاد في دائرة لا تتوقف من تفاقم الديون.
وتنهار دائرة الديون هذه، عندما يقرر أصحاب الأموال أن الدولة لن تكون قادرة على سداد ديونها ويرفضون إغراءاتها ويتوقفون عن إقراضها، بل يسحبون أموالهم من بنوك هذا البلد، وعندها تحدث موجة هرولة لسحب الأموال ينهار القطاع المصرفي والعملة مثلما حدث في لبنان، التي كان سعر الفائدة فيها مرتفعاَ على مدار العقود الماضية.
كيف يكون تخفيض الفائدة والعملة مفيداً للاقتصاد أحياناً؟
على العكس فإن سياسة خفض سعر الفائدة التي أصر عليها الرئيس التركي متحدياً كثيراً من الاقتصاديين في بلاده وفي العالم، رغم أنها قد تؤدي على المدى القصير إلى إضعاف مؤقت للثقة بالعملة الوطنية وتراجعها، فإنها في الوقت ذاته تساعد على معالجة الاختلالات الهيكلية المزمنة في الاقتصاد، خاصة عندما يكون اقتصاداً ديناميكياً قائماً على التصدير مثل حالة تركيا.
فتراجع سعر العملة التركية أدى إلى تقليل الواردات، وانخفاض تكلفة منتجات البلاد المحلية وزيادة قدراتها التنافسية، وبالفعل حققت تركيا نمواً قياسياً في الصادرات خلال السنوات الماضية، إضافة إلى أن تراجع أسعار المنتجات المحلية جراء انخفاض سعر العملة، يشجع السياحة الخارجية، وبالفعل تفيد التقارير الواردة من تركيا هذا الصيف أن المشكلة الرئيسية للسياحة التركية هي الازدحام الهائل جراء تدفق أعداد هائلة من السياح الأجانب.
لماذا تعاني تركيا من مشكلة دائمة في عملتها في الأصل؟
تعاني تركيا من مشكلة مزمنة، فيما يتعلق بعملتها، كانت هذه المشكلة عنيفة قبل تولي حزب العدالة والتنمية الحكم في مطلع الألفية، حيث كانت الليرة التركية أدنى عملة في العالم من حيث القيمة، وكان الدولار يعادل مليوناً و650 ألف ليرة قبل أن ينفذ الحزب إصلاحات اقتصادية حققت أداءً أفضل للعملة التركية مكنته من حذف ستة أصفار منها، ولكن ما زال كبار السن في تركيا يقولون أحياناً بالخطأ مليون ليرة بدلاً من الليرة.
المشكلة المزمنة في الاقتصاد التركي هي وجود اختلالات في الميزان التجاري وميزان المدفوعات وميزان الحساب الجاري، يعني ذلك أن حجم العملة الأجنبية التي تدخل تركيا غالباً اقل مما تخرج منها.
ويعود ذلك إلى أسباب متعددة منها أن تركيا مستورد كبير للطاقة، وكذلك مستورد للمواد الخام والآلات وكثير من السلع الوسيطة، إضافة للسلع كاملة الصنع التي لا تنتجها وكذلك مستورد للعديد من الحاصلات الزراعية رغم إنتاجها المحلي الزراعي الكبير.
الأمر الثاني أن تركيا رغم أنها مصدر ومصنع كبير، فإن جزءاً كبيراً من صناعاتها ذو قيمة مضافة قليلة مثل صناعة النسيج، أو يعتمد على مواد خام أو مكونات أجنبية (ودول البحر المتوسط عامة تعاني من نقص في العديد من المواد الخام).
كما أن بعض الصناعات ذات القيمة المضافة الجيدة التي يتم تصنيعها محلياً نسبة القيمة المضافة المحلية فيها ليست كبيرة مثل صناعة السيارات التركية.
ويحتاج الاقتصاد التركي إلى التوسع إلى مجالات صناعية ذات قيمة مضافة كبيرة مثل صناعات التكنولوجيا أو تعزيز القيمة المضافة المحلية في الصناعات القائمة والناجحة في البلاد مثل صناعات السيارات، وهو توجه بدأت تركيا تسعى للتركيز عليه في الفترة الماضية من خلال العمل على تعميق نسبة المنتج المحلي في صناعتها الأساسية وتعزيز الابتكار، ويساعدها على ذلك نجاحات شركاتها في مجال التصدير والإمكانات العلمية والبشرية المتوفرة له.
أنقرة كادت تخرج من عنق الزجاجة إلى أن جاءت الجائحة
وأدى تراجع الليرة قبل سنوات، وتحديداً خلال الأزمة المالية عام 2018، إلى تعزيز تنافسية الصادرات التركية، وأدى ذلك قبل أزمة كورونا إلى بدء تراكم رصيد العملات الأجنبية والذهب في البلاد، ولكن جاءت كورونا التي أضرت بشكل خاص بالسياحة والصادرات، لتحدث اختلالاً كبيراً في ميزان المدفوعات وعودة أزمات الليرة.
كما أن الأزمات السياسية والأمنية التي توالت على البلاد كان لها تأثير، فالبلاد مجاورة لسوريا التي شهدت حرباً أهلية، مدمرة وتوترت علاقة أنقرة مع الوجود العسكري الروسي والأمريكي في سوريا، إضافة لصراعها مع حزب العمال الكردستاني ثم تعرض البلاد لمحاولة انقلاب عام 2016، وكذلك عمليات ارهابية دموية في اسطنبول، ثم أخيراً الأزمة الأوكرانية التي أدت لارتفاع أسعار الطاقة بشكل هائل، إضافة إلى أن روسيا وأوكرانيا يعدان من أهم شركاء تركيا الاقتصاديين.
كان الطرح الذي اقترحه معظم الاقتصاديين داخل البلاد وخارجها أنه في مواجهة ذلك يجب رفع أسعار الفائدة لجذب القروض الأجنبية، وتحديداً ما يُعرف باسم قروض مستثمري الأموال الساخنة، ولكن وجهة نظر الرئيس التركي أن هذا ليس سوى حل مؤقت يزيد الأزمة على المدى البعيد من خلال زيادة حجم القروض وأن هذه الاحتياطات لن تكون احتياطات حقيقية؛ لأنها مجرد قروض مملوكة لآخرين يمكن سحبها في أي لحظة، كما أن هذا سيؤدي إلى تقليص النمو الاقتصادي، ويؤثر على نشاط الشركات التركية وسيؤدي للبطالة ويؤثر على التصدير، الذي يعد الوسيلة الوحيدة لتقليل الاختلال في ميزان العملة الصعبة في البلاد.
ومن هنا أصر أردوغان على خفض أسعار الفائدة لتعزيز النشاط الاقتصادي على الأرض وأدى ذلك إلى تراجع لافت لسعر العملة التركية جعلها أسوأ عملة من حيث الأداء خلال عام 2022، ولكن في مقابل ذلك ساعد ذلك على استمرار النشاط الاقتصادي وزيادة الصادرات بشكل كبير، وجعل اقتصاد البلاد أقل تاثراً بالأزمة الأوكرانية من المتوقع.
فرغم التضخم الكبير نجت البلاد من موجات الأزمات القاسية التي أصابت أسواق الدول الناشئة (أغلبها دول اقتصادها أقل ارتباطاً بروسيا وأوكرانيا من تركيا)، جراء هروب الأموال الساخنة بعد الحرب الأوكرانية، بينما هذه الأموال كانت قد بدأت تغادر تركيا قبل ذلك بسنوات.
فبينما رهنت العديد من الدول نفسها بالأموال الساخنة عبر رفع سعر الفائدة، فإن الاقتصاد التركي لم يعد رهينا بالأموال الساخنة إلى حد كبير، بل على عكس فإن تراجع سعر العملة والنمو الصادرات، مما أدى إلى تعزيز أساسيات الاقتصاد التركي، وبالأخص تقليل فجوة العملات الصعبة في البلاد.
ونتيجة ذلك، فإن تركيا قد يكون لها معدل تضخم كبير لم يسبق أن عانت منه منذ سنوات، ولكنها أيضاً تحقق نمواً اقتصادياً جيداً، ونمواً كبيراً في الصادرات، ولا تعاني من ارتفاع نسبة الديون إلى إجمالي الناتج المحلي.
في المقابل، فإن هناك عدداً من الدول يواجه شبح أزمات محتملة خطيرة، بعضها يعد أعلى من تركيا في السلم الاقتصادي، مثل إيطاليا، وبعضها قريب منها مثل الأرجنتين، وهي دولة متوسط الدخل فيها أعلى من تركيا، وتعتبر دولة متقدمة صناعياً وغنية بالموارد الطبيعية وصاحبة أعلى نسبة أراضٍ زراعية للفرد، في العالم، ولكن ها هي تطلب مزيداً من قروض صندوق النقد الدولي.
تحسن العلاقات مع الكتل الرئيسية يساعد الاقتصاد التركي
لا شك أن أحد العوامل الإيجابية في صالح الاقتصاد التركي، هو تحسن العلاقات بين أنقرة وشركائها الرئيسيين، وهي علاقات كانت قد شهدت توتراً كبيراً خلال السنوات الماضية يرجعه منتقدو الرئيس التركي إلى سياساته الخارجية.
ولكن الواقع يشير إلى أن السبب في هذه المشكلات هي حرص تركيا على الحفاظ على مصالحها في العديد من الملفات، ومعاملتها بشكل فيه ندية من قبل قوى العظمى.
وقد أدت سياسات الرئيس التركي في الفترة الماضية، والتي يمكن وصفها بـ "الدبلوماسية الخشنة"، والتي قاربت في بعض الأحيان على استخدام القوة العسكرية إلى تحسين مواقف تركيا في العديد من الملفات الإقليمية، ودفع الدول الكبرى للتخلي عن الاستعلائية في التعامل معها بعد أن أصر أردوغان على الرد بقوة على أي تصرف اعتبره إساءة لبلاده أو مصالحها.
وهكذا تحسنت العلاقة مع الولايات المتحدة بعد أن كان بايدن قد توعَّد خلال حملته الانتخابية بإقالة أردوغان بالتعاون مع المعارضة التركية.
وتراجعت نزعت الوصاية التي كانت تتسم بها سياسة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في تعاملهما مع تركيا، وبات واضحا للأوروبيين تحديداً أن أنقرة يمكن أن تلجأ للأدوات الخشنة بدءاً من السماح للاجئين بالوصول لأراضي الاتحاد الأوروبي، مروراً بفرض فيتو على انضمام السويد وفنلندا للناتو، وصولاً لاختراق جزر أجواء اليونان أو إرسال سفن حربية تركية لحماية قوافل الإمدادات التركية الموجهة لليبيا رغم أنف الحظر الذي فرضته أوروبا على تصدير السلاح لهذا البلد المنكوب.
وأصبح الغرب مضطراً إلى القبول بأنه يجب عليه أن يتعامل بندية مع أنقرة في كثير من القضايا، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، في الوقت الذي ظهرت فيه أهمية تركيا البالغة للغرب خلال الأزمة الأوكرانية.
الأمر ينطبق على روسيا التي اتسمت العلاقة بينها وبين تركيا بالتقلب الكبير، بين التنسيق إلى ما يقارب المواجهة أحياناً، ولكن في الوقت الحالي يمكن القول إن العلاقة بين البلدين استقرت بشكل كبير بعد ما أصبحت تركيا بمثابة المنفذ الوحيد لروسيا سياسياً واقتصادياً ولوجيستياً، بالإضافة إلى أنها قناة الوساطة الوحيدة بين كييف وموسكو.
وكان لافتاً في هذا الإطار تحويل شركات روسية لمليارات الدولارات إلى تركيا في إطار عملية بناء المفاعلات النووية التركية من قِبَل موسكو.
كما تعافت العلاقات التركية – الخليجية، وبدأت دول الخليج تضخ استثمارات في الاقتصاد التركي، بعد أن تم تجميد الخلافات بين الجانبين في العديد من الملفات.
وأدت هذه التسويات في مجال العلاقات الخارجية بالتأكيد إلى منافع للاقتصاد التركي.
قياس معدل الأجور مسألة يجب أن تراعي فروق الأسعار بين الدول
قد يكون هناك ثمن لإصرار الرئيس التركي على خفض سعر الفائدة، وهو ارتفاع معدل التضخم وتآكل القوى الشرائية للمواطن التركي، ولكن هذا الثمن أقل كثيراً من الثمن الذي قد يُدفع إذا دخلت البلاد في دوامة الديون والركود الاقتصادي.
والأهم أن هناك مبالغة في الحديث عن انخفاض الأجور في تركيا إذا تم تقويمها بالدولار، وهو الحديث الذي تركز عليه المعارضة التركية؛ حيث تشير دوماً إلى انخفاض الأجور في تركيا مقارنةً بمعظم الدول الأوروبية بما فيها دول أوروبا الشرقية.
والواقع أن الأجور في تركيا قد تكون منخفضة مقارنةً بمعظم الدول الأوروبية، بما فيها دول أوروبا الشرقية إذا ما قوّمت بالدولار بالقيمة الاسمية (أي ما يشتريه الدولار في نيويورك وواشنطن)، أما إذا وضع في الاعتبار ما يعرف بالقيمة الشرائية، أي ما يشتريه الدولار في تركيا وليس بالولايات المتحدة أو أوروبا، فإن متوسط الأجور ونصيب الفرد التركي من الناتج المحلي سيكون أفضل من معظم دول جنوب شرق أوروبا ويقارن بدول أوروبا الشرقية الأكثر ثراءً وبعض دول جنوب أوروبا؛ لأن تركيا أرخص كثيراً من هذه الدول.
وعلى سبيل المثال، ففي حال المقارنة مع اليونان المجاورة، سنجد أن الأجور بها أعلى من تركيا وفقاً للقيمة الاسمية، ولكن إذا وُضع في الاعتبار فرق الأسعار بين اليونان وتركيا (اليونان أغلى بشكل لافت من تركيا)، فإن الأجور في تركيا ستكون مناظرة تقريباً (أو أكبر في بعض الأعوام) للأجور في اليونان، وهي الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي التي تلقت عشرات المليارات من الدولارات من الدعم وحزم الإنقاذ من قِبَل الاتحاد الأوروبي، والتي كان متوسط الدخل فيها تاريخياً أعلى من تركيا حتى عندما كانت اليونان جزءاً من الدول العثمانية.
وبالمقارنة مع اليونان وغيرها من الدول الأوروبية الجنوبية والشرقية والأمريكية اللاتينية، وهي دول متوسط الدخل فيها أعلى غالباً من تركيا أو مساوٍ لها، وتنتمي لفئة مشابهة للفئة التي ينتمي لها الاقتصاد التركي، فيمكن ملاحظة أنه خلال السنوات الماضية، فإن أنقرة لم تلجأ لصندوق النقد الدولي منذ تولِّي حزب العدالة والتنمية الحكم، ولم تحتج لأي مساعدات اقتصادية خارجية ضخمة، بينما دول أوروبية ثرية مثل إيطاليا والبرتغال وأيسلندا، وفنلندا مرت بعدة أزمات مالية حادة، وحصلت على أموال من الاتحاد الأوروبي وحتى روسيا والصين في بعض الأحيان.
نعم، عانت تركيا العديد من الأزمات، ولكن الأزمات سمة الاقتصادات، خاصة في الدول ذات الاقتصادات الناشئة التي تتسم اقتصاداتها غالباً بالتقلب بين النمو الكبير، والتراجع الحاد والديون الثقيلة، كما أن تركيا تقع في منطقة ملتهبة سياسياً وأمنياً.
ومع ذلك، فإن أزماتها لا تقارن بالأزمات الكبيرة التي عانت منها كثير من الاقتصادات الدول الغربية التي لا تواجه نفس المشكلات، وتحظى بدعم الاتحاد الأوروبي، كما أن كانت تركيا أحد الاقتصادات القليلة التي حققت نمواً جيداً للغاية أثناء جائحة كورونا مع إدارة مرنة لإغلاقات الجائحة، حافظت خلالها على معدل وفيات متدنٍّ جداً مع اقتصاد لم يغلق بالكامل.
والآن رغم أن تركيا واحدة من أكثر الدول العالم ارتباطاً بالاقتصادين الروسي والأوكراني، فإنها لا تواجه شبح انهيار مالي أو أزمة حادة مثل تلك التي تواجهها سلسلة من دول العالم، بعضها متقدم كإيطاليا التي يخشى من وقوعها في أزمة ديون كبيرة، قد تمثل مشكلة للاتحاد الأوروبي برمته، وهي أزمة أحد أسبابها ثبات سعر اليورو؛ مما أضعف النمو الاقتصاد الإيطالي، وأضعف تنافسية صادرات البلاد.
وحتى التضخم القياسي في تركيا، فإنه أقل مما كان متوقعاً، ويبدو أنه توقف عن الصعود، ويقترب من فصله الأخير، والأهم أن البلاد استجابت له بزيادة الأجور، وهي زيادة لم تعادل حجم ارتفاع الأسعار، ولكن على الأقل قللت من آثارها، علماً بأن أغلب دول العالم بما فيها الدول الغربية، لم تزد الأجور أمام موجة التضخم الحالية.
معادلة تركيا الصعبة.. الجمع بين الاستقلال السياسي والانفتاح اقتصادي
تحاول أنقرة تحقيق معادلة صعبة ألا وهي بناء اقتصاد قوي ومستقل ومندمج في العالم عبر التبادل التجاري بالأساس، مع تحقيقها للاستقلال السياسي، بما في ذلك الدخول في مواجهات من أجل ما تعتبره مصالحها أو حتى أيديولوجية حزبها الحاكم، ويتطلب ذلك ألا تصبح أنقرة تابعة للكتلة الغربية أو مستسلمة أمام المشروعات الروسية والإيرانية والخليجية السياسية في المنطقة.
وبالتالي فهي تسعى لتحقيق نمو اقتصادي كبير بدون تلقِّي مساعدات أو دعم مالي من الكتل النقدية المالية الرئيسية في العالم، وهي الكتلة الغربية (الأمريكية والأوروبية واليابان حليفة أمريكا)، وكذلك الكتلة الصينية والروسية والخليجية.
هل حان الوقت لمراجعة مصداقية تقييمات المؤسسات المالية الغربية؟
إن إبداء المؤسسات المالية الغربية قدراً من التفاؤل الخجول في مستقبل اقتصاد تركيا وتوجهها للاحتفاظ أو شراء الأصول والأوراق المالية التركية في وقت تتخلص فيه من أصول الاقتصادات الناشئة المماثلة، أمر لا يستدعي فقط النظر بعمق في التجربة الاقتصادية التركية على أخطائها ونجاحاتها، ولكنه يشير أيضاً إلى ضرورة إعادة النظر في مدى مصداقية تقارير المؤسسات المالية الغربية والدولية (مثل صندوق النقد الدولي).
فهذه هي نفس المؤسسات التي انتقدت منهج رئيس الوزراء الماليزي الراحل مهاتير محمد في الخروج من الأزمة المالية الآسيوية في تسعينيات القرن العشرين، رغم أنه تبين بعد ذلك أن ماليزيا كانت أسرع دول المنطقة في الخروج من هذه الأزمة.
هذه المؤسسات الغربية والدولية نفسها هي التي ظلت تشيد بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة وتمنحه جائزة أفضل محافظ بنك مركزي في العالم لسنوات، وكانت تشيد بصلابة النظام المصرفي اللبناني الذي يحتفظ بأصول واحتياطيات ضخمة وبملاءته المالية القوية، والآن تتهمه بالفساد والمسؤولية عن الأزمة اللبنانية.
وهي نفس المؤسسات التي وفرت القروض والدعم للبنان كلما انتكس خلال العقود الماضية برعاية خليجية وأوروبية وأمريكية.
وتجاهلت هذه المؤسسات عبر عقود أن لبنان ارتكب خطأ مالياً فادحاً هو تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية لفترة تزيد عن الثلاثين عاماً.
ورغم أنه لا خلاف على أن الاضطرابات السياسية والفساد والمحاصصة الطائفية هي سبب رئيسي للأزمة الاقتصادية اللبنانية التي توصف بأنها واحدة من أسوأ الأزمات في العالم منذ أكثر من قرن، فإن أحد أسباب هذه هو السياسات النقدية والمالية التي قامت على الاقتراض وشجعت الواردات من الخارج وأضعفت الصناعة المحلية اللبنانية، وجعلت الأجور في لبنان مرتفعة بحيث تقارن ببعض الدول الأوروبية؛ مما أدى إلى ضعف تنافسية السلع المحلية في مواجهة المستورد.
حتى إن لبنان كان قبل أزمته يستورد الأسماك من تركيا، الدولة التي يتشارك معها في نفس البحر الأبيض المتوسط، وهذا ليس لأن اللبنانيين "كسالى"، فهم أنجح جالية عربية في الخارج، وليس فقط لأن البلاد تعاني من مشكلات سياسية واقتصادية وارتفاع في أسعار الأرض وسوء البنية الأساسية، ولكن أيضاً بسبب الإصرار على تثبيت سعر العملة؛ مما يجعلها مقومة بأعلى من مستواها الحقيقي، وجعل اللبنانيين يعيشون في مستوى أعلى من إمكانيات البلاد، وعندما حدثت الأزمة السورية وتراجعت السياحة والمساعدات الخليجية انهار النموذج اللبناني برمته المقام على الاقتصاد المالي والخدمي مع تجاهل الإنتاج الزراعي والصناعي.
إن الشكوك في مصداقية تقييمات وتقارير المؤسسات الدولية الغربية أيضاً تظهر عند النظر إلى موقفها من المنهج الاقتصادي لمصر خلال السنوات الماضية.
فقبل الحرب الأوكرانية، كانت هذه التقارير والتقييمات تشيد بأداء الاقتصاد المصري وتشجع مستثمري الأموال الساخنة على ضخ أموالهم في الأوراق المالية المصرية، حتى إن القاهرة عندما طرحت سندات لمدة 30 عاماً تمت تغطيتها عدة مرات في مؤشر على ثقة كبيرة بالاقتصاد المصري، رغم أنه كان من الواضح أن هذا الاقتصاد أصبح قائماً على تثبيت غير واقعي لسعر صرف الجنيه المصري، ورفع سعر الفائدة بمعدل جعله يعتبر الأعلى في العالم لجذب القروض الأجنبية التي تستخدم لتنفيذ مشروعات بنية أساسية محلية لن تأتي في النهاية بعائد بالعملة الأجنبية لسداد هذه القروض.
وعندما جاءت أزمة أوكرانيا، فرفعت أسعار الوقود والحبوب وقللت شهية المخاطره لدى المستثمرين وجعلتهم يبتعدون عن أسواق الدول الناشئة، كانت مصر أكبر الخاسرين وانخفضت السندات المصرية في بعض الأحيان بمقدار النصف، في تعبير على تراجع هائل في الثقة في هذا الاقتصاد، بعد أن أصبح حجم ديونه ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل عدة سنوات، وبعد أن أصبحت خدمة الدَّيْن تبتلع الجزء الأكبر من الميزانية المصرية وموارد البلاد الدولارية المحدودة.
والآن ها هي مصر مضطرة إلى الذهاب للمرة الثالثة خلال حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي لصندوق النقد الدولي للحصول على مزيد من القروض لتسديد القروض القديمة التي تراكمت بسبب تقييمات مؤسسات الصناديق الغربية غير الدقيقة واحتفائها برفع سعر الفائدة المبالغ فيه.