كان أحد الأهداف الرئيسية من زيارة جو بايدن إلى السعودية هو إقناع قيادات المملكة بزيادة إنتاج النفط، لكن جاءت قرارات أوبك بمثابة "الصفعة" للرئيس الأمريكي، الذي تمثل أسعار الطاقة "كابوسه" الأخطر.
كان بايدن قد غادر السعودية منتصف يوليو/تموز الماضي، بعد أن فشل في إقناع ولي عهد المملكة الأمير محمد بن سلمان بزيادة إنتاج النفط، وتحدث مسؤولون أمريكيون عن أن تلك الزيادة ستحدث من خلال منظمة أوبك+، والتي كان اجتماعها مقرراً في أغسطس/آب الجاري.
وتمثل أسعار النفط تحديداً الكابوس الأخطر بالنسبة للرئيس الأمريكي، الذي تنتظره انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، حيث يدفع المواطن الأمريكي أسعاراً قياسية للحصول على المشتقات النفطية، كما أن تلك الأسعار المرتفعة لا تقتصر على الوقود بل تمتد إلى باقي السلع الأساسية، في ظل نسب تضخم غير مسبوقة.
ماذا قررت منظمة أوبك؟
لكن مجموعة أوبك+، التي تضم الدول الأعضاء في أوبك بالإضافة إلى كبار المنتجين من خارجها وخاصة روسيا، أقرت زيادة في إنتاج النفط بواقع 100 ألف برميل يومياً، وهي أقل زيادة تقرها أوبك على الإطلاق منذ تأسيسها، على الرغم من التكهنات بالعكس.
وأظهرت وثيقة لأوبك+ أن المجموعة تتجه لزيادة الإنتاج 100 ألف برميل يومياً اعتباراً من سبتمبر/أيلول، وقال مصدران لرويترز إنه تم إقرار الزيادة فعلياً في اجتماع مغلق.
كانت أوبك وحلفاؤها بقيادة روسيا، قد قرروا زيادة الإنتاج في الشهور السابقة بما يتراوح بين 430 ألفاً و650 ألف برميل يومياً في الشهر، غير أنهم واجهوا صعوبة لتحقيق الأهداف الكاملة لأن معظم الأعضاء قد استنفدوا بالفعل طاقاتهم الإنتاجية.
وقالت أوبك+، التي ستعقد اجتماعها القادم في الخامس من سبتمبر/أيلول، إن محدودية الطاقة الإنتاجية الإضافية تقتضي منها أن تستخدمها بحذر كبير للاستجابة لتعطلات حادة في الإمدادات. وأضافت في بيان أن نقصاً مزمناً في الاستثمار في قطاع النفط سيكون له تأثير على تلبية طلب متنامٍ بعد 2023.
وأشارت مصادر داخل أوبك+، تحدثت لرويترز شريطة عدم الكشف عن هويتها، إلى حاجة للتعاون مع روسيا في إطار مجموعة أوبك+ الأوسع. وقال مصدر بأوبك+ إن الزيادة التي قررتها المجموعة اليوم تستهدف "تهدئة الولايات المتحدة. وليست كبيرة جداً بحيث تزعج روسيا".
وبحلول سبتمبر/أيلول، ستكون أوبك+ قد أنهت جميع تخفيضات الإنتاج القياسية التي طبقتها في عام 2020 للتعامل مع انهيار الطلب الناجم عن جائحة كورونا. لكن بحلول يونيو/حزيران كان إنتاج أوبك+ أقل بنحو 3 ملايين برميل يومياً عن حصصها؛ إذ أدت العقوبات المفروضة على بعض الأعضاء وانخفاض في الاستثمارات لدى آخرين إلى شل قدرتها على زيادة الإنتاج.
ماذا تعني تلك "الزيادة" لبايدن؟
نشرت شبكة CNN الأمريكية تحليلاً عنوانه "صفعة على الوجه.. فشل مصافحة بايدن لولي العهد في تغيير موقف أوبك"، ألقى الضوء على التحول الدرامي في موقف الرئيس بايدن عن موقف المرشح الرئاسي بايدن من السعودية، وكيف فشل ذلك التحول الدرامي في تحقيق أية نتيجة في الملف الأهم للرئيس الديمقراطي.
ووصف تحليل الشبكة الزيادة الأخيرة التي أقرتها أوبك+ في إنتاج النفط بأنها "زيادة لا تذكر وغير محسوسة"، فالعالم يستهلك يومياً نحو 100 مليون برميل من النفط، أي أن الزيادة لا تمثل أكثر من استهلاك 86 ثانية من الاستهلاك العالمي. وقال بوب ماكنيلي رئيس شركة استشارات تسمى مجموعة رابيدان للطاقة، إن "مجموعة أوبك+ اتخذت قراراً بزيادة هي الحد الأدنى، وهي زيادة لن يشعر بها السوق على الإطلاق".
أما رعد القادري، العضو المنتدب للطاقة والمناخ والاستدامة في أوراسيا جروب، فقد قال لرويترز إن "هذا (زيادة 100 ألف برميل) ضئيل جداً وليس له أي معنى. من الناحية الفعلية، هذ ا تحرك هامشي. وسياسياً، تكاد تكون إهانة (لبايدن)"، إذ إن رحلة بايدن إلى المملكة العربية السعودية الشهر الماضي كان هدفها الأساسي هو إقناع زعيمة أوبك بزيادة الإنتاج لمساعدة الولايات المتحدة.
وهناك ما يشبه الإجماع بين المحللين الأمريكيين على أن الزيادة الضئيلة في إنتاج النفط تمثل "صفعة على وجه بايدن"، إذ قال مات سميث، محلل النفط الرئيسي في شركة كيبلر، لسي إن إن: "إنها صفعة على وجه إدارة بايدن. فرحلة الرئيس إلى السعودية واجتماعه مع محمد بن سلمان لم تفلح (في تحقيق المطلوب)".
كان بايدن قد زار السعودية، على أمل إقناع ولي العهد بزيادة إنتاج النفط من خلال منظمة أوبك، لكن المملكة تمسكت باستراتيجيتها التي تقضي بضرورة العمل في إطار تحالف أوبك+، الذي يضم روسيا، وعدم التصرف من جانب واحد.
وأدت أسعار البنزين المرتفعة إلى زيادة التضخم في الولايات المتحدة والعالم، ما أدى إلى تراجع التأييد لبايدن في استطلاعات الرأي بينما يتجه إلى انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني، وهي انتخابات حاسمة لبايدن وللديمقراطيين.
وقبل أن يبدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا، كانت أسعار النفط قد بدأت في الارتفاع واقتربت من 100 دولار للبرميل، وهو ما دفع بايدن إلى إجراء اتصال بالملك سلمان بن عبد العزيز، كان هدفه الرئيسي هو إقناع المملكة بزيادة الإنتاج، لكن ذلك لم يتحقق.
كما وافقت إدارة بايدن الثلاثاء 2 أغسطس/آب على صفقات بيع صواريخ دفاعية بقيمة 5.3 مليار دولار للإمارات والسعودية، وهو ما رآه محللون "حافزاً آخر" هدفه إقناع الرياض وأبوظبي بزيادة الإنتاج.
ماذا تعني "الصفعة" النفطية لبايدن؟
تسبب ارتفاع أسعار الطاقة، الذي أدى إلى زيادة التضخم إلى أعلى مستوياته منذ عدة عقود وإلى رفع البنوك المركزية أسعار الفائدة بشكل حاد، في وضعٍ غاية في الصعوبة بالنسبة للرئيس الأمريكي، الذي كان قد وعد خلال حملته الانتخابية بتحويل السعودية إلى "دولة منبوذة"، ورفع السرية عن تقرير استخباراتي يتهم ولي العهد بالوقوف خلف جريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي.
وظل بايدن، لأكثر من عام بقليل، رافعاً لشعار عقاب السعودية وولي العهد بسبب الاغتيال وبسبب حرب اليمن، لكن أزمة أسعار الطاقة أجبرته على الاتصال بالملك أولاً، ثم زيارة السعودية ومصافحة ولي العهد وعقد اجتماعات معه، دون أن ينجح هذا التحول في موقف الرئيس في الحصول على أية تنازلات من جانب ولي العهد.
وعلى الرغم من أن التحالف الاستراتيجي بين المملكة وأمريكا، الذي يمتد لأكثر من 77 عاماً، لا يزال قائماً، إلا أن التغييرات الجذرية في موازين القوى والتصدعات الكبرى في النظام العالمي الحالي تشير إلى أن كل دولة باتت تسعى لاستخدام ما تمتلكه من نقاط قوة لتحقيق مصالحها الخاصة، وموازنة تحالفاتها مع القوى الكبرى، وبخاصة الولايات المتحدة وروسيا والصين.
وفي هذا السياق، نشرت مجلة Foreign Affairs الأمريكية تحليلاً عنوانه "لا أحد يريد النظام العالمي الحالي"، رصد أسباب فشل النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، في تحقيق الاستقرار وتوجه كثير من الدول إلى البحث عن نظام مختلف، النابعة من حقيقة أنَّ الكثير من الدول لم تعد ملتزمة بالحفاظ على النظام العالمي الحالي، بما في ذلك تلك الدول المؤسسة له.
وكان العالم، في أعقاب الحرب العالمية الثانية عام 1945، قد عاش في ظل نظامين، الأول هو نظام عالم الحرب الباردة ثنائي القطبية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، والذي لم يكن مهتماً إطلاقاً بكيفية إدارة الدول لشؤونها الداخلية. أما بعد الحرب الباردة، سقط النظام ثنائي القطبية وهيمنت الليبرالية الجديدة، ليتشكَّل النظام العالمي الليبرالي الحالي أحادي القطبية، الذي تقوده الولايات المتحدة، ويتجاهل السيادة الوطنية والحدود، كلما احتاجت واشنطن إلى فعل ذلك.
وادَّعى هذا النظام أنَّه منفتح وليبرالي قائم على القواعد ويدعم قيم الديمقراطية وما يسمى بالأسواق الحرة وحقوق الإنسان وسيادة القانون. لكن في واقع الأمر، كان يستند إلى هيمنة القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية للولايات المتحدة. بالنسبة لمعظم الحقبة التي أعقبت زوال الاتحاد السوفيتي، كانت معظم القوى، من ضمنها الصين الصاعدة، يتبعون بوجه عام هذا النظام الذي تقوده الولايات المتحدة.
ومع ذلك، تشير السنوات الأخيرة إلى أنَّ هذا النسق أصبح شيئاً من الماضي. تُظهر قوى أخرى ما يمكن تسميته بالسلوك "التعديلي" أو "التنقيحي"، حيث تسعى وراء تحقيق أهدافها الخاصة على حساب النظام العالمي الحالي، وتسعى إلى تغيير هذا النظام نفسه.