وسط مقاطعة شعبية وحزبية واسعة، أُقر في تونس، 25 يوليو/تموز 2022، دستور جديد للبلاد اقترحه الرئيس قيس سعيّد، حيث يعطي الدستور الرئاسة صلاحيات واسعة على حساب البرلمان. فيما يثير الدستور الجديد مخاوف محلية وغربية على "مستقبل الديمقراطية" في البلد الذي كان يُنظر إليه حتى وقت قريب أنه الاستثناء الوحيد الناجح لدول الربيع العربي. فهل كتب دستور قيس سعيد السطر الأخير لثورات الربيع العربي؟
"تونس الجديدة".. هل قتل قيس سعيد آخر مهد لثورات الربيع العربي؟
كانت تونس، مهد ثورات الربيع العربي، تعد طويلاً الاستثناء الوحيد الناجح لهذه الموجة الثورية التي سرعان ما أدخلتها نزاعات قيس سعيد مع معارضيه في مرحلة مختلفة عن السنوات العشر التي تلت ثورة 2011، يتحكم خلالها سعيّد بمعظم مفاتيح الحكم، ويقصي جميع معارضيه بكافة أطيافهم.
يقول تقرير لوكالة فرانس 24، إن تونس كانت الشمعة الوحيدة التي بقيت مشتعلة من الثورات التي هزت المنطقة، فقد نجحت البلاد في تنظيم ثلاثة مواعيد انتخابية تعددية على مدى العقد الماضي، والتي لاقت إشادة دولية، كما تم إقرار دستور توافقي خلال سنة 2014، يضمن الحريات العامة والفردية والتعددية السياسية في البلاد.
لكن وفي ظل عبور المرحلة الانتقالية بسلام، عانت تونس أزمات اقتصادية ومالية وأمنية، جعلت المكتسبات الديمقراطية يُنظر إليها على أنها "نقمة" لبعض التونسيين، مع تعطل محركات الاقتصاد الأساسية ومنها بالأساس السياحة، وتصدير الفوسفات، وتوالي أزمات المال العام، واعتمادها على قروض صندوق النقد الدولي الذي يفرض حزمة إصلاحات اقتصادية ذات كلفة اجتماعية ثقيلة.
وجاءت أزمة فيروس كورونا وتداعياتها الصحية والاقتصادية العالمية لتدمر الوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، وهو ما استغله الرئيس الشعبوي سعيّد، لفرض ما سمّاها "إجراءات استثنائية" بحجة "الخطر الداهم"، ويستحوذ على معظم السلطات، ويقر خارطة انتقال سياسي لم تقبل بها القوى السياسية والمدنية والنقابية بالبلاد.
قيس سعيد يمنح نفسه صلاحيات واسعة ويلغي مكتسبات الشعب التونسي
بتمرير دستور جديد اقترحه بنفسه متجاوزاً رأي الهيئة الاستشارية التي عينها لصياغته، يبدو أن سعيّد نجح في تمرير خطوته الأهم في مشروعه السياسي. لكن قوى محلية ودولية يقدرون أن هذا الدستور لا يحظى بإجماع واسع، ويضعف "المؤسسات الديمقراطية"، ويقوض احترام الحريات الأساسية، فيما يمنح معظم السلطات لرئيس الدولة.
وعبرت الولايات المتحدة، الخميس 28 يوليو/تموز، عن قلقها إزاء الديمقراطية في تونس بعد الدستور، إذ قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن في بيان: "شهدت تونس تناقصاً مقلقاً في المعايير الديمقراطية على مدى العام المنصرم، وألغت الكثير من مكتسبات الشعب التونسي التي حصل عليها بشق الأنفس منذ 2011".
وأضاف بلينكن أن الولايات المتحدة لديها مخاوف من أن الدستور الجديد قد يضعف الديمقراطية، ويقوض احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وأن عملية صياغته لم تحظ بنطاق واسع من الحوار النزيه.
في اليوم التالي لتصريحات بلينكن، استدعت الخارجية التونسية القائمة بالأعمال الأمريكية ناتاشا فرانشيسكي، من أجل التنديد بـ"التدخل" وبالتصريحات "غير المقبولة" لمسؤولين أمريكيين، انتقدوا الاستفتاء على الدستور، فيما قال وزير خارجية تونس، عثمان الجرندي، إن "الموقف الأمريكي لا يعكس بأي شكل من الأشكال روابط الصداقة التي تجمع البلدين وعلاقات الاحترام المتبادل بينهما، وهو تدخل غير مقبول في الشأن الداخلي الوطني".
من جانبه، دعا الاتحاد الأوروبي إلى "الحفاظ" على الحريات الأساسية في تونس، وذلك خلال إعلان نشره باسم الأعضاء الـ27 وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل.
وأشار الاتحاد إلى أن استفتاء 25 يوليو/تموز، سجل "نسبة مشاركة ضعيفة"، وشدَّد على ضرورة التوصل إلى "إجماع واسع" بين القوى السياسية والمجتمع المدني، بشأن "جميع الإصلاحات السياسية والاقتصادية المهمة التي ستقوم بها تونس".
أسباب عجَّلت بانهيار التجربة الديمقراطية في تونس
وعن الأسباب التي عجّلت بانهيار التجربة الديمقراطية في تونس، يقول مساعد رئيس تحرير صحيفة المغرب اليومية، حسان العيادي، إن الأحزاب التونسية المعارضة في زمن الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وعلى رأسها حركة النهضة، نجحت في تحقيق انتقال سياسي تولت به زمام الحكم في إطار "تشاركي وتوافقي"، لكنها غفلت عن أن الثورة التونسية اندلعت بالأساس من أجل مطالب اجتماعية واقتصادية تحت شعار "شغل حرية كرامة وطنية".
وتابع قائلاً: "حتى عندما اهتمت الحكومات المتعاقبة بالاستجابة للمطالب الاجتماعية، فإن كلفة السلم الاجتماعي كانت باهظة على التوازنات المالية للدولة، ما أجّل انفجار الأزمة عوض حلها، ولعل العفن الذي وصل إليه الوضع في صيف 2021 يعود لذلك"، بحسب تعبيره.
ويرى العيادي أن صورة سيئة للطبقة السياسية بشكل عام ترسخت في أذهان شق واسع من التونسيين، باعتبارها "طبقة تعقد الصفقات فيما بينها، وتستفيد مالياً من وجودها في السلطة، دون تحقيق منجز يذكر لعامة الشعب".
المؤسسة العسكرية في مصر والحرب في سوريا
في المقابل، يرى مراقبون في المسار السياسي الذي اتخذه الرئيس قيس سعيّد انتكاسة أخرى لثورات الربيع العربي، قد تعجل بإغلاق كل الآمال التي كانت معقودة على تونس في الحفاظ على "الاستثناء الديمقراطي".
ومن بين بلدان الموجة الأولى لثورات الربيع العربي، عاد الحكم من جديد في يد المؤسسة العسكرية النافذة في مصر، عبر انقلاب عسكري قاده الرئيس عبد الفتاح السيسي، فيما مازالت سوريا تعاني تبعات حرب هجرت وقتلت الملايين، رغم نجاح نظام بشار الأسد في تفادي الانهيار. من جانبها، غرقت ليبيا واليمن أيضاً في حروب أهلية دامية، وأزمات سياسية لم يظهر أفق حلها بعد.
وفيما سُمي بالموجة الثانية لثورات الربيع العربي، لم تنجح ثورتا أكتوبر/تشرين الأول 2019، في العراق ولبنان، في تحقيق التطلعات المنتظرة منها، بل غرق البلدان في أزمات سياسية عطلت تشكيل الحكومات بعد انتخابات برلمانية لم تُفرز أغلبية واضحة، وحافظت فيها التكتلات السياسية التقليدية على وزنها ولو نسبياً.
وفي الجزائر التي نجح حراكها في إسقاط الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، يرى مراقبون أن السلطة لم تخرج من يد نفس النخبة السياسية المتحالفة مع مؤسسة الجيش النافذة. أما السودان، الذي أسقطت فيه مظاهرات نظام عمر البشير في 2019، فقد عاد الجيش بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان للاستحواذ على الحكم بعد إقصاء المدنيين من السلطة التنفيذية.
من جانبه، يرفض مدير المركز العربي للدراسات السياسية والاجتماعية بجنيف، رياض الصيداوي، تعميم التغيرات التي شهدتها المنطقة في 2011، مؤكداً أن لكل بلد خصوصياته، حيث يقول: "في تونس ومصر حدثت ثورة سلمية حقيقية، أدت إلى تفكّك النخب وانحياز الجيش للمطالب الشعبية وسقوط النظام، أما في ليبيا وسوريا فقد حدث انشقاق في المؤسسة العسكرية، أدى إلى حرب أهلية، إضافة إلى تدخلات أجنبية حاولت تغيير النظام القائم".
"قوس الثورة لم يغلق بعد"
وفيما يخص مآل التجربة التونسية، يصر حسان العيادي أن قوس الثورة لم يُغلق بعد، باعتبار أن "الحكم الفردي" الذي ينوي سعيّد فرضه في تونس يحتاج إلى تحقيق قدر من "الرفاه لشعبه لإضفاء شرعية على حكمه"، مضيفاً أن الرئيس يعجز عن ذلك الآن بحكم ثقل الديون على كاهل الدولة التونسية، والتي قد يعاني سعيّد من تبعاتها خلال الأشهر المقبلة.
وهنا يذكّر أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الفرنسية خطار أبو ذياب، أن ربيع الشعوب الأوروبية تطلَّب سنوات طويلة وعقوداً ليحقق استقراراً سياسياً وديمقراطية حقيقية.
وقال لفرانس 24: "بذور التغيير التي زرعتها الانتفاضات العربية في موجتي 2011 و2019 لا يمكن أن تذهب سدى، لكن الأمر لا يتعلق بمجرد إسقاط نظام حكم هنا أو هناك، هذه الانتفاضات بحاجة لثورات بنيوية وثقافية في المجتمعات العربية، التي تعاني من مشكلة تجذر نزعة الاستبداد واستمرار وجود أجهزة قمعية في الدولة، تتحكم في العملية السياسية. هناك أيضاً معضلة المذهبية والطائفية، التي تطل برأسها في عدد من الدول، والتي تمثل عائقاً كبيراً أمام عملية تغيير سياسي حقيقية".
أما رياض الصيداوي فيقدم وجهة نظر أخرى لتفسير تعطل الانتقال السياسي في المنطقة، حيث يقول: "الدول العربية تفتقر لأولغارشيا (نخبة) مالية وصناعية وطنية، قادرة على الدفع نحو ديمقراطية ليبرالية مثلما عليه الحال في الدول الغربية. الدولة بأجهزتها الأمنية والعسكرية في المنطقة العربية مازالت اللاعب الأقوى في المعادلة السياسية، حيث يتجلى ذلك مثلاً في النفوذ الواسع للمؤسسة العسكرية في بعض من هذه البلدان".
وفي تونس، قد يواجه سعيّد موقفاً صعباً خلال المرحلة السياسية الجديدة، في ظل نسبة الامتناع الواسعة عن التصويت على الدستور الجديد، التي ناهزت 75% من الجسم الانتخابي، والتخبط الذي بدت عليه أرقام الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، التي اضطرت لسحب إحصاءات المشاركين، ما أثار شكوكاً حول حدوث تلاعب.
واتهمت "جبهة الخلاص الوطني"، وهي تحالف أحزاب معارضة في البلاد، الهيئة الانتخابية بـ"تزوير" أرقام نسبة المشاركة في الاستفتاء على الدستور، مدعية أن استفتاء الرئيس قيس سعيّد "فشل".
وهنا يقول العيادي: "سعيّد الذي كان يريد التأسيس لنظام رئاسي قوي يحتكر معظم السلطات لم ينجح في تمرير الدستور إلا بربع الناخبين، وهو رقم هزيل، مقارنة بتجارب أخرى للاستفتاء على الدستور، وهذا المعطى يخدم بالأساس أحزاب المعارضة التي قاطعت الاقتراع، والتي تريد إجبار سعيّد على تقديم تنازلات وفرض سياسة انفتاح على الساحة السياسية، التي يرفض الرئيس التونسي مجرد التعامل معها".
ويضيف العيادي أن جيلاً كاملاً من الشباب الذي ترعرع خلال العشرية الماضية لم يشارك في هذا الاقتراع، ما قد يمثل "إنذاراً" لسعيّد بأن مشروعه السياسي ليس في مأمن من "الارتدادات".