مع رفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة، هل تشهد الولايات المتحدة ركوداً؟ إنه السؤال الذي يثقل كاهل المستهلكين والسياسيين والمستثمرين في جميع أنحاء العالم. يمكننا القول إننا اقتربنا اليوم خطوة في سبيل معرفة الإجابة، والإجابة هي: ربما! لكن قبل ذلك يجب أن نعرف: ما هو الركود ومتى يبدأ؟
ما هو الركود؟
بالنسبة للكثيرين، التعريف غير الرسمي هو أن الركود يبدأ بعد ربعين متتاليين من الانكماش الاقتصادي، ويُقاس بالانخفاض في الناتج المحلي الإجمالي، وهو مقياس واسع لأسعار السلع والخدمات. في الشهور الثلاثة الأولى لهذا العام، انخفض الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بمعدل سنوي قدره 1.6%.
وأعلنت وزارة التجارة الأمريكية عن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي مجدداً في الربع الثاني بمعدل سنوي قدره 0.9%.
ويعرف الركود على أنه "تراجع هائل في الأنشطة الاقتصادية ينتشر في جميع المجالات الاقتصادية، ويستمر أكثر من بضعة أشهر".
بينما ينظر صندوق النقد الدولي عند تحديد حالات الركود على الصعيد العالمي إلى مؤشرات عديدة تتضمن انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي المعدل حسب التضخم المدعوم بضعف الإنتاج الصناعي، والتجارة وتدفق رأس المال واستهلاك النفط والبطالة.
وغالباً ما يحدث الركود لسبب كبير ومفاجئ مثل الزلازل أو البراكين أو أزمة صحية كبرى، كانتشار وباء (كورونا على سبيل المثال)، أو اندلاع حرب كبرى (حرب أوكرانيا)، أو لأسباب أخرى من هذا القبيل، وربما يكون السبب تراكمياً وغير مفاجئ مثل التراكم الهائل في الإقراض الثانوي، كما حدث في الأزمة المالية عام 2008.
إذن، فهل ما تمر به أمريكا الآن هو ركود؟
تقول صحيفة The Guardian البريطانية: ليس بهذه السرعة. رسمياً، المكتب القومي للأبحاث الاقتصادية، مؤسسة غير ربحية لمجموعة من الخبراء الاقتصاديين، هو من يحدد ويعلن عندما تكون الولايات المتحدة في حالة ركود.
ينظر المكتب القومي للأبحاث الاقتصادية إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى جانب عوامل أخرى، مثل معدلات التوظيف والدخل الشخصي والإنتاج الصناعي، وغيرها من العوامل.
يفضل مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي والحكومة ألا ينظر العامة إلى الركود وفقاً لمؤشر الناتج المحلي الإجمالي فقط، بل يفضلون ألا يفكر العامة في ذلك الأمر على الإطلاق، مؤكدين أن الأمر أكثر تعقيداً.
وعند النظر إلى سوق العمل، نرى معدلات البطالة 3.6%، في أدنى مستوى منذ ما يقرب من نصف قرن. كما ترتفع الأجور، بالرغم من أنها لا تواكب التضخم، وتم توظيف 2.7 مليون شخصاً خلال النصف الأول من هذا العام.
لكن في الوقت نفسه، انهارت ثقة المستهلكين، وأدى التضخم إلى صعوبات حقيقية حتى لمن لديهم وظائف، وبدأت معالم الهدوء تظهر سريعاً على السوق العقاري الذي كان نشطاً في بعض المناطق، مع تذبذب أسواق الأسهم، على أحسن تقدير. ومع ذلك، إذا كان الجمهوريون في السلطة، من المؤكد أن الديمقراطيين كانوا سيطلقون على التراجع في الناتج المحلي الإجمالي لربعين متتاليين ركوداً، بحسب صحيفة الغارديان.
ماذا يقول السياسيون والمسؤولون الأمريكيون عن الركود؟
يرى جيروم باول، رئيس مجلس المحافظين للنظام الاحتياطي الفدرالي، وجانيت يلين، وزيرة الخزانة، أن التضخم سيكون "مؤقتاً" لكن لفترة طويلة، متقبلين حقيقة الركود. لكنهما حريصان في الوقت نفسه على الترويج لفكرة إمكانية تهدئة الاقتصاد دون دفعه إلى الاتجاه المعاكس، فيما يُعرف بـ"الهبوط اللطيف".
يمكن اعتبار ذلك مجرد تلاعب بالألفاظ، وستكون له عواقب سياسية واسعة النطاق. يوم الأربعاء، 27 يوليو/تموز، رفع الفيدرالي أسعار الفائدة مجدداً، وسُئل باول مجدداً عما إذا كانت الولايات المتحدة تشهد ركوداً أو تتجه نحو ركود اقتصادي. قال باول إنه لا يعتقد بأن الولايات المتحدة في حالة ركود، لكنه يتوقع أن يؤدي رفع أسعار الفائدة إلى تباطؤ اقتصادي وإضعاف سوق العمل. وهذا بكل تأكيد سيبدو ركوداً بالنسبة للكثيرين.
هل هذا وضع اقتصادي غير مسبوق بالنسبة لأمريكا؟
نعم، فقد أدت جائحة كوفيد إلى اضطراب الاقتصاد العالمي بطريقة لم يسبق لها مثيل. ويقول الخبر للغارديان: مازلنا نعاني من ذلك الاضطراب، مثل العدوى تماماً. صار دلينا أعلى معدل تضخم منذ 40 عاماً، واندلاع حرب في مناطق مهمة في إنتاج السلع، وتراجع الأجور، وتباطؤ النمو الاقتصادي، واحتياطي فيدرالي يحرص على تقليص المعروض النقدي بقوة بعد سنوات من أسعار الفائدة المنخفضة. في الوقت نفسه، نرى سوق العمل جيد ولا بأس في الإنفاق الاستهلاكي، المحرك الأكبر للاقتصاد.
وأطلق الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، بول كروغمان، على ذلك "اقتصاد الهراء"، بالأرقام بالنسبة له "غير منطقية". وقال: "قد نحتاج إلى الدخول في حالة ركود حقيقي حتى ندرك ما الذي يحدث حقاً".
ما تأثير كابوس الركود على العالم؟
ينظر العالم لما يحصل في الولايات المتحدة، أكبر اقتصاد في العالم وأقوى عملة تهيمن على العالم، ويخشى اليوم الدخول في نفق الركود التضخمي، حيث إنها حالة لم يشهدها العالم إلا مرة واحدة سابقاً، واستمرت من منتصف الستينيات وحتى بداية الثمانينيات، وهي الحالة التي ارتفعت فيها نسبة التضخم في الولايات المتحدة وباقي الدول الغربية لأكثر من 10% كحد أدنى، وهي نسب لم تحدث مرة أخرى منذ عام 1982 وحتى العام الجاري 2022، أي خلال 40 عاماً.
وكان لارتفاع أسعار النفط في بداية سبعينيات القرن الماضي دور رئيسي في حالة الركود التضخمي في الغرب، والسبب نفسه يلعب دوراً رئيسياً هذه المرة أيضاً، وإن كان السبب الأول هو جائحة كورونا، التي كان تفشيها مطلع عام 2020 بمثابة سحب قابس الكهرباء الرئيسي عن الاقتصاد العالمي، وكذلك اندلاع الحرب في أوكرانيا.
ومع ارتفاع نسبة التضخم في الولايات المتحدة لمستويات غير مسبوقة واتخاذ المركزي الأمريكي قرارات متتالية برفع سعر الفائدة، انتابت الأسواق العالمية حالة من الذعر الشديد، كانت موجودة بالفعل لكن القرار الأمريكي فاقمها.
وتختلف تداعيات رفع سعر الفائدة على الدولار بشكل كبير بين الدول العربية، فدول الخليج على سبيل هي الأقل تأثراً، نظراً لأنها مستفيدة من ارتفاع أسعار النفط، ومن احتياطياتها المالية الكبيرة، وارتباط سعر صرف عملاتها المباشر بالدولار. وتربط دول مجلس التعاون الخليجي عملاتها بالدولار الأمريكي، باستثناء الكويت، التي تربط عملتها بسلة عملات من بينها الدولار، وتحافظ الدول الست على مواكبة قرارات الفيدرالي الأمريكي بخصوص أسعار الفائدة.
وفي الأغلب ستستطيع دول الخليج باستخدام أموال الفوائض النفطية تعويض النقص في السيولة الناجم عن السياسات الانكماشية، وبالتالي قد تكون من أقل دول العالم تأثراً برفع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي.
لكن الأمر مختلف بالنسبة لبقية الدول العربية، خاصة غير النفطية، حيث ترزح العديد من الدول العربية تحت طائلة الديون، ويعني ذلك أن رفع سعر الفائدة على الدولار سيؤدي لزيادة تكلفة الاقتراض لهذه الدول، وبالتالي زيادة أعباء الديون، وتميل كثير من الدول ذات الحمل الكبير من الديون للحصول على قروض أخرى لتسديد قروضها السابقة، وسوف يصبح هذا أصعب عليها مع رفع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي.
وحذرت العضو المنتدب لصندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، من أن 60% من البلدان منخفضة الدخل هي بالفعل في "أزمة ديون" أو قريبة منها، وهي عتبة مقلقة، وصلت عندما تساوي مدفوعات ديونها نصف حجم اقتصاداتها الوطنية.