أعلنت شركة "غازبروم" الروسية، الإثنين 25 يوليو/تموز 2022، أنها ستخفض إمدادات الغاز الطبيعي عبر خط أنابيب "نورد ستريم 1" إلى أوروبا بمقدار النصف مجدداً، لينزل إلى مستوى 20% من طاقته الاستيعابية، حيث قالت الشركة المملوكة للدولة الروسية، عبر تويتر، إنها ستقلل "الكمية اليومية" للغاز المتجهة لألمانيا إلى 33 مليون متر مكعب، اعتباراً من الأربعاء 27 يوليو/تموز 2022.
وبذلك ستتراجع إمدادات غازبروم عبر خط "نورد ستريم 1" إلى نحو 80% منذ بدء الأزمة التي تسببت بها الحرب الروسية في أوكرانيا، حيث تبرر الشركة الروسية هذا التقليص الكبير لإمدادات الغاز، بسبب ما وصفتها بأعمال الصيانة في المرات السابقة، وتوقف عمل التوربينات الآن، حسب تعبيرها.
تقليص إمدادات الغاز الروسي.. هل يعجّل بوتين بخنق أوروبا قبل الشتاء؟
هذه هي المرة الثانية التي تخفض فيها روسيا تدفقات غازها إلى أوروبا، إذ كانت الأولى في منتصف يونيو/حزيران، عندما خفضت صادراتها عبر نورد ستريم 1 بنسبة 60%، معللةً ذلك بالتأخر في عودة المعدات التي تتم صيانتها في كندا بسبب العقوبات.
ورفضت الحكومة الألمانية فكرة أن الأسباب الفنية هي التي تؤدي إلى مزيد من خفض إمدادات الغاز إليها. حيث قال وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك، لوكالة الأنباء الألمانية، إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "يلعب لعبة غادرة". وتابع: "إنه يحاول إضعاف الدعم الكبير لأوكرانيا ودق إسفين في مجتمعنا. وللقيام بذلك فإنه يثير حالة من عدم اليقين ويرفع الأسعار، نحن نواجه هذا بالوحدة والعمل المكثف".
واستؤنفت صادرات الغاز الروسي عبر خط الأنابيب نورد ستريم 1 إلى أوروبا، الخميس، بعد إغلاق تام استمر 10 أيام من أجل "أعمال الصيانة"، لكنه استمر على نسبة 40% فقط من طاقته الاستيعابية، لكن بعد القرار الأخير سيعمل نورد ستريم بـ20% من قدرته فقط، وهو ما يعني أزمة كبيرة بالنسبة لأوروبا.
قبل الأزمة، كانت روسيا ترسل ما يقدَّر بنحو 230 مليون متر مكعب من الغاز إلى أوروبا كلَّ يوم، يسافر حوالي ثُلُثها غرباً عبر أوكرانيا.
وتسابق الدول الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا، الزمن لتأمين بدائل للغاز الروسي وتخزينها قبل الشتاء، حيث يتوجس الأوروبيون من برودة الطقس خلال فصل الشتاء، بسبب عدم اليقين مما إذا كان التوقف الكلي المُحتمل لإمدادات الغاز الروسي سوف يجبر على فرض ترشيد استهلاك الطاقة على الأسر مثلما هو الحال مع الصناعات.
بوتين يضع أوروبا أمام عواقب كارثية
تقول صحيفة The Guardian البريطانية، إن ألمانيا استطاعت خفض اعتمادها على الغاز الروسي من 55% من إجمالي الطلب إلى 35% منذ بداية الحرب الروسية ضد أوكرانيا، لكنها لا تزال تعتمد اعتماداً كبيراً على خط أنابيب نورد ستريم 1، وبالنسبة لخطي الغاز الآخرَين اللذين يحملان الغاز الروسي عادةً إلى ألمانيا، فإنهما لا يخدمان البلاد في الوقت الراهن.
لكن يبدو أن روسيا تتعجل لخنق أوروبا قبل أن تستطيع إيجاد بدائل ثابتة وتخزين كميات كافية للشتاء القادم. ويبدو أن الوطأة الأكبر من خفض الغاز سوف تقع على كاهل الصناعات في ألمانيا، التي تستهلك نحو ثلث الغاز المتاح بالبلاد، بيد أن الأسابيع الأخيرة شهدت ارتفاع الأصوات من الصناعات الدوائية والكيميائية التي بدأت في نشر نداءات عامة تجادل بأن ترشيد استهلاك الطاقة في قطاعاتهم سوف يحمل تأثير الدومينو، الذي تتبعه عواقب كارثية.
يقول سيمون تاليابييترا، الزميل البارز لدى المؤسسة الفكرية Bruegel المتخصصة في السياسات الاقتصادية والمستقرة بالعاصمة البلجيكية بروكسل: "يتمثل أسوأ الاحتمالات في أن البلاد الأوروبية سوف تحتاج إلى خفض استهلاكها من الغاز بنحو 15%".
لكن ألمانيا سيتعين عليها أن تشهد خفضاً بنحو 30% أو 20% إذا نجحت في استكمال تشييد محطتي الغاز المسال العائمتين في بحر الشمال بميناء فيلهلمسهافن وميناء برونسبوتل مع نهاية العام الحالي، مثلما كان مخططاً.
أضاف تاليابييترا: "إذا وقعت الدول الأوروبية في فخ بوتين وواجهنا سيناريو حمائية الطاقة بحلول الشتاء، فسوف يتضرر الاقتصاد تضرراً أسوأ بكثير".
إلى أي مدى يمكن أن يسوء الأمر بالنسبة لأوروبا؟
تقول وكالة Bloomberg الأمريكية، إن أسواق المال تضع تنبؤات تشاؤمية إذا أوقفت روسيا إمدادات الغاز كلياً إلى أوروبا، مشيرةً إلى أن التنبؤات تُشير إلى أن الأسهم الأوروبية سوف تهبط بنسبة 20%، وأن سعر اليورو مقابل الدولار سوف ينخفض إلى 90 سنتاً.
تُشير الوكالة إلى أن التنبؤات تُشير أيضاً إلى انتشار الديون عالية المخاطر، ما يوسع مستويات أزمة 2020 الماضية، إذ إن الشحنات من شرق أوروبا إلى غربها تسير حالياً بمستويات أقل في ظل إغلاق خط الأنابيب الرئيسي (نورد ستريم 1) لعشرة أيام، بسبب خضوعه لعمليات صيانة.
تتشكل مخاوف حول ما إذا كانت موسكو سوف تعيد تشغيل خط الأنابيب مرة أخرى. وفي خضم هذا يتساءل كثير من المستثمرين: إلى أي مدى يمكن أن يسوء هذا الأمر؟
للإجابة عن هذا السؤال حاول الخبراء الاستراتيجيون في "وول ستريت" أن يضعوا الأرقام في سيناريو لم يكن من الممكن تصوره في الأوقات العادية، وتحدثوا عن نتائج "كارثية" متوقعة تدخل فيها العديد من المتغيرات، مثل طول مدة أي إغلاق، ونطاق خفض الإمدادات، وكيف يمكن للبلاد أن ترشد استهلاك الطاقة، وهو ما يجعل أي تنبؤات محض تخمين في أفضل الأحوال.
يقول يواكيم كليمنت، رئيس الاستراتيجية والمحاسبة والاستدامة في شركة Liberum Capital، إن المجهول الجسيم يتمثل في "مدى انعكاس الصدمة التي بدأت في ألمانيا وبولندا وبلاد وسط أوروبا، على بقية أوروبا والعالم". وأضاف: "ليس هناك ببساطةٍ بديل متاح للغاز الروسي".
بحسب الوكالة الأمريكية، صدر تحليلٌ مؤخراً، ووضع الخبراء الاقتصاديون في شركة UBS Group AG السويسرية تصوراً لما يعتقدون أنه سيحدث إذا أوقفت روسيا شحنات الغاز إلى أوروبا. يمكن أن يؤدي هذا إلى خفض عائدات الشركات بأكثر من 15%، ويمكن أن يتجاوز بيع الأوراق المالية 20% في مؤشر ستوكس 600، ويمكن أن ينخفض سعر اليورو إلى 90 سنتاً.
كذلك كتب الخبراء الاقتصاديون في الشركة السويسرية أن الاندفاع نحو الأصول الآمنة يمكن أن يؤدي إلى تراجع العائدات على السندات العشرية الألمانية، وهي السندات المرجعية للسوق الأوروبية، لتصل إلى 0%.
"أوروبا الآن عالقة في حلقة مفرغة"
من جانبه، كتب أرند كابتين، كبير الخبراء الاقتصاديين في شركة UBS: "نشدد على أن هذه التوقعات ينبغي أن يُنظر إليها على أنها تقديرات تقريبية حادة، وهي ليست بأي حال من الأحوال أسوأ سيناريو. يمكننا بكل سهولةٍ تصور حدوث اضطرابات اقتصادية تؤدي إلى نتائج نمو أسوأ".
يأتي هذا بينما تتكبد الأسواق فعلياً بعضاً من هذا الضرر، فقد وصل اليورو إلى أقل مستوى له منذ عقدين، متساوياً مع قيمة الدولار.
كذلك فقدت الأسهم الألمانية 11% من قيمتها، منذ يونيو/حزيران 2022، وكانت عملاقة الغاز الألمانية Uniper SE الشركة الأشد تكبداً للخسائر، مع هبوط أسهمها بنسبة 80% هذا العام، في الوقت الذي تسعى فيه لتأمين خطة إنقاذ حكومية.
يقول عديد من المستثمرين إنه إذا بدأت الدول الأوروبية طوعاً في ترشيد استهلاك الغاز لملء الخزانات، فإن الضربة التي سيتعرض لها النمو الاقتصادي سوف تكون قوية.
ويقول تشارلز هنري مونشاو، كبير موظفي الاستثمار بشركة Banque Syz: "أوروبا الآن عالقة في حلقة مفرغة"، وأضاف أن ارتفاع أسعار الطاقة يضر اقتصاد أوروبا، ويؤدي إلى انخفاض اليورو. وفي المقابل يجعل انخفاض اليورو واردات الطاقة أغلى ثمناً.
من أين تحاول أوروبا إيجاد بدائل للغاز الروسي؟
يقول تقرير سابق لصحيفة The Guardian البريطانية، إن ليبيا قد تكون قادرةً على المساعدة في ضوء إنتاجها القوي من الغاز وقربها من أوروبا، لكن يتركَّز الحديث على قطر، أحد أكبر مُنتِجي الغاز في العالم، وثاني أكبر مُصدِّر للغاز الطبيعي المُسال بعد أستراليا. تُعَدُّ قطر حليفاً غربياً قوياً في الشرق الأوسط، وقد زوَّدَت المملكة المتحدة ودولاً أوروبية أخرى بالغاز الطبيعي المُسال لسنوات.
وفي مقالٍ نَشَرَه موقع Middle East Eye البريطاني، كَتَبَ أندريس كريغ، الأستاذ المساعد في قسم دراسات الدفاع في كلية كينجز في لندن، إن قطر، على عكس روسيا، لم تستخدم الطاقة في سياسات القوة الصارمة، بل استثمرت في عقودٍ موثوقة طويلة الأجل، ما يوفِّر إمكانية التنبؤ والاستدامة بعيداً عن تقلُّبات أسعار السوق.
وأضاف أندريس كريغ، أنه بالنسبة لقطر تعتبر الطاقة وسيلةً للقوة الناعمة. وهي تتناسب بشكل جيد مع قوتها الناعمة الحالية كحَكَمٍ إقليمي ووسيط سلام. وباعتبارها دولةً صغيرةً في بيئةٍ غير مستقرة، تحاول قطر خلق ترابط يوفِّر لها الأمن في نهاية المطاف. وبالتالي، على عكس روسيا، فهي غير مهتمة باستغلال التبعيات من جانبٍ واحد في سياسات القوة الصارمة.
كما يمكن للولايات المتحدة نفسها أن تلعب دوراً مباشراً في تعزيز إمدادات الغاز في أوروبا أيضاً. غادرت شحناتٌ قياسية من الغاز الطبيعي المُسال الولايات المتحدة مُتَّجِهةً إلى الموانئ الأوروبية خلال الأشهر الماضية، ولدى الولايات المتحدة حافزٌ قويٌّ طويل الأجل لتشجيع أوروبا على التخلِّي عن اعتمادها على روسيا -ومشروع خط أنابيب نورد ستريم 2- لصالح احتياطيات الغاز الصخري الخاصة بها.