يعاني العالم من تداعيات التغير المناخي، لكن تآكل شواطئ بلدان المغرب العربي هو الأسرع عالمياً، ويبدو أن الاحتباس الحراري ليس المتهم الوحيد، فهل الحل الوحيد لإنقاذ الموقف هو الهروب للداخل؟
والمقصود بمصطلح التغير المناخي هو التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية لكوكب الأرض، وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة مُسببةً فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة وربما في الأماكن نفسها؛ مما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب مياه المحيطات والبحار. وكان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قد وصف 2021 بأنه يمثل "جرس إنذار" للبشرية قبل أن يفوت أوان إنقاذ الكوكب من تداعيات التغير المناخي.
لماذا شواطئ المغرب العربي الأكثر عرضة للخطر؟
كشفت دراسة أجراها البنك الدولي مؤخراً حول التداعيات الاقتصادية لتآكل السواحل في هذه المنطقة عن أن شواطئ دول المغرب العربي، لا سيما تونس والمغرب وليبيا تتآكل بوتيرة أسرع مقارنة بباقي المناطق الأخرى في العالم.
وخلصت الدراسة إلى أن شواطئ في منطقة المغرب العربي تآكلت بمعدل متوسط يبلغ 15 سنتيمتراً سنوياً ما بين عامَي 1984 و2016، بينما بلغ المتوسط العالمي لتآكل الشواطئ، خلال نفس الفترة، حوالي 7 سنتيمترات سنوياً.
ويجد المراقبون صعوبة في تحديد مقدار تآكل الشواطئ في كل بلد على حدة، لأن السواحل تكتسب الرمال وتفقدها لذا فإن التقديرات المحلية مضللة، لكن صور الأقمار الاصطناعية من وكالة الفضاء الأوروبية والمركز الوطني لعلوم المحيطات في المملكة المتحدة ساعدت باحثي البنك الدولي على تحديد الخطر الذي تعرضت له سواحل منطقة المغرب العربي في مناطق معينة.
وكشفت الدراسة عن أن أكثر من ثلث الشواطئ في المغرب- حوالي 38%- تآكلت بنسبة ما بين 12 إلى 14 سنتيمتراً سنوياً، فيما انحسرت السواحل الليبية بمعدل سنوي يبلغ 28 سنتيمتراً. وتُعد هذه النسب مستقرة نسبياً مقارنة بالوضع في تونس، حيث تآكلت ثلث الشواطئ الرملية -حوالي 35%- بمعدل أسرع وأكبر يتراوح بين 50 و70 سم سنوياً، بحسب تقرير لموقع الإذاعة الألمانية دويتش فيله.
على سبيل المثال، تعرضت مدينة الحمامات التونسية التي تعد مقصداً سياحياً شهيراً، لانحسار في منطقة الشواطئ بما يصل إلى 24 ألف متر مربع أي قرابة 3 و8 أمتار سنوياً في الفترة الزمنية ما بين عامَي 2006 و2019.
وقد حاول خبراء الاقتصاد في البنك الدولي حساب التداعيات الاقتصادية لهذه الظاهرة؛ حيث وجدوا أن هذا الأمر يعادل حوالي 2.8٪ من الناتج المحلي الإجمالي في تونس و0.7٪ في ليبيا و0.4٪ في المغرب و0.2٪ في الجزائر ما يشكل إجمالاً حوالي 2.46 مليار دولار (2.42 مليار يورو) على أساس الدخل القومي لهذا البلدان الأربعة المسجل عام 2021.
ويقول الخبراء إن هناك تداعيات خطيرة أخرى لظاهرة تآكل الشواطئ في بلدان المغرب العربي تتمثل في اقتراب المياه المالحة التي تعمل على تلويث المياه الجوفية العذبة لتصبح أكثر ملوحة؛ ما يعني صعوبة أو استحالة استخدامها سواء للشرب أو للزراعة.
قنبلة موقوتة تفاقمها أسباب أخرى
في بلدة غنوش التونسية، الواقعة على بعد 400 كيلومتر جنوب العاصمة، رصد الصيادون "تغيرات كبيرة" على الساحل؛ حيث يبحرون للصيد وكسب أرزاقهم وذلك خلال السنوات الخمس عشرة الماضية. وقال ساسي علية، بحار ورئيس مجمع التنمية للصيد البحري في غنوش بولاية قابس، لدويتش فيله إن الرمال "تتناقص والصخور بدأت بالظهور. إنها مشكلة مضاعفة نظراً لأن سواحل ولاية قابس تعاني من تلوث بيئي بسبب المصانع الكيماوية في المنطقة وهو ما يؤثر على المصايد الصغيرة".
وقال منير خشارم، رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة والصيد البحري بجزيرة قرقنة التابعة لولاية صفاقس، إن "هناك بقع سوداء على طول الساحل الذي يختلف كثيراً عما كان عليه قبل عشرين عاماً، رغم أن الظاهرة لا تزال محصورة في أماكن محددة حول الجزيرة".
ويؤكد حديث هؤلاء وغيرهم من الصيادين في جنوب تونس أنهم ليسوا الوحيدين الذين يقفون على ظاهرة تآكل السواحل، إذ تم توثيق تلك الحقيقة من جانب خبراء المناخ، وآخر تلك التأكيدات الرسمية كانت دراسة البنك الدولي.
وفي هذا السياق، خرجت تحذيرات تدق ناقوس الخطر إزاء التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لظاهرة تأكل الشواطئ في تلك البلدان المغاربية. وحذر مؤلفو مقال نشره "مختبر العلوم المائية" في جامعة مونبلييه الفرنسية الذي يركز على موارد المياه في البحر المتوسط، من التداعيات المحتملة لهذه الظاهرة على قطاعات مثل السياحة وصيد الأسماك ما يعد بمثابة "قنبلة اجتماعية واقتصادية موقوتة" قد تنفجر في أي وقت.
كما حذرت ليا سيغارت، كبيرة خبراء تغير المناخ بالبنك الدولي والمسؤولة عن شؤون البيئة والموارد الطبيعية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، من أن ظاهرة تغير المناخ تُفاقم من خطورة التهديدات الأخرى ما يؤدي إلى مخاطر اجتماعية.
وفي مقابلة مع دويتش فيله، أضافت سيغارت أن فئات المجتمع المهمشة تعد "الأكثر عرضة لتحمل وطأة ظاهرة تغير المناخ، لذا يتعين أن تسير إجراءات مواجهة الظاهرة مع عملية الاستقرار السياسي". وقالت إن الوضع في بلدان المغرب العربي يُعد أكثر خطورة بسبب وجود مجتمعات كبيرة تعيش قرب السواحل.
وقال خبراء إن التوسع الحضري والسكاني المتزايد في المناطق الساحلية يعد أحد الأسباب وراء تآكل الشواطئ بهذه الوتيرة المرتفعة؛ إذ توثر المباني والتجمعات البشرية على العناصر الطبيعية مثل الأراضي الرطبة والنباتات والكثبان الرملية التي تعد مفتاح السيطرة على عمليات التعرية.
ففي المغرب يعيش نسبة 65% من السكان قرب المناطق الساحلية فيما تبلغ النسبة في تونس 85% وهي النسبة الأكبر حيث تعد المناطق الساحلية أكثر جاذبية للصناعات؛ إذ تضم 90% من الشركات سواء صغيرة ومتوسطة الحجم خاصة في مجال السياحة والتصنيع، وفقاً لما ذكرته وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي في تونس. وبشكل عام يعيش نحو 40% من إجمالي سكان العالم بالقرب من الشواطئ والمناطق الساحلية.
هل يكون الابتعاد عن السواحل الحل الوحيد؟
وفي الوقت نفسه، يعتبر ارتفاع مستوى سطح البحر أحد الأسباب وراء اختفاء الشواطئ، بينما يشدد الخبراء على أن السبب الفعلي الذي يجعل تآكل السواحل في بلدان المغرب العربي قد يتجاوز هذه العوامل.
جيل ماهي، مدير الأبحاث في مختبر العلوم المائية في جامعة مونبلييه، قال للموقع الألماني إن الفارق بين بلدان المغرب العربي ودول شمال البحر المتوسط يتمثل في "عدد السدود على الأنهار". وأضاف ماهي الذي يعمل حالياً في المعهد الوطني للعلوم البحرية والتكنولوجيا في تونس، أن التآكل يحدث بوتيرة أسرع "بسبب بناء السدود على الأنهار".
وأوضح ماهي أن الدراسات التي أجريت على تاريخ الرواسب التي تتكون عند تلاقي مياه الأنهار بمياه البحار في تونس والجزائر والمغرب، أظهرت وجود سدود كبيرة ما يعني عدم وصول رمال كافية إلى الساحل.
وتشير الدراسات إلى أن التغير الذي طرأ على الرواسب بسبب تشييد السدود قد أدى إلى تسارع تآكل الشواطئ والسواحل والذي بدأ فعلياً جراء ظاهرة ارتفاع مستوى سطح البحر.
وإجمالاً تتعرض السواحل في بلدان المغرب العربي لخطرين؛ يتمثل الأول في ظاهرة التغير المناخي، حيث تؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى ارتفاع مستويات سطح البحر فيما يكمن الخطر الثاني في التعدي على الشواطئ. وينجم عن ذلك تفاقم الظواهر المناخية المتطرفة مثل الفيضانات والأمواج الكبيرة والرياح القوية التي يمكن أن تضر بالمناطق الساحلية.
وبسبب قلة سقوط الأمطار في هذه المنطقة جراء الاحترار العالمي، فإن حكومات بلدان شمال إفريقيا تعمل على تخزين المياه العذبة لتلبية حاجة سكان المناطق الساحلية الذين يتزايدون بمرور الوقت ما يتطلب تشييد المزيد من السدود بما يشبه الحلقة المفرغة.
ورغم ذلك، فإن جيل ماهي الذي يشارك في تنفيذ خطط لإدارة السواحل التونسية، يقول إنه لا تزال هناك بوادر أمل، مضيفاً أنه في ظل حتمية ارتفاع مستوى سطح البحر، فإن هناك العديد من السبل لتقليل الضرر الذي يسببه البشر من أجل حماية السواحل بشكل أفضل حتى الوصول إلى "توازن جديد" بين احتياجات البشر والطبيعة.
ويوصي ماهي وخبراء البنك الدولي بالشروع في تطبيق إجراءات لحماية المناطق الساحلية بما يشمل فرض ضرائب أكبر على أعمال البناء في المناطق الساحلية والعقارات وترميم السدود الداخلية التي تسمح بتدفق المزيد من الرمال والرواسب صوب الساحل وحتى إقامة مصدات الرياح للسيطرة على الكثبان الرملية.
وأكدت سيغارت على أن البنك الدولي يساعد في تنفيذ بعض الخطط في منطقة المغرب العربي، مضيفة: "لا توجد دولة بعينها قادرة بمفردها على مواجهة ظاهرة تغير المناخ". وشددت على ضرورة دعم هذه الخطط محلياً؛ لأن ذلك قد "يساعد في التخفيف من آثار ظاهرة التغير المناخي".
ويجمع الخبراء على أنه مع تفاقم ظاهرة التغير المناخي، قد لا يجد ملايين البشر حول العالم خياراً سوى النزوح جراء ضراوة الفيضانات وارتفاع منسوب مياه البحر، وتدرس بعض الحكومات بالفعل "خيار المواءمة والتكيف" ومن ضمن الخيارات "نقل السكان".
وعلى الرغم من أن ذلك الحل ليس سهلاً، فإن ارتفاع مستوى سطح البحر وحدوث فيضانات كارثية بشكل متكرر بمرور الوقت جعل بعض الحكومات تفكر في تبني نهج معاكس لمواجهة آثار التغير المناخي يتمثل فيما يُعرف بالتراجع المنظم. وقد ينطوي على ذلك الانتقال من المدن الكبرى كما هو الحال في سيدني بأستراليا، فمع وقوع الأمطار الغزيرة وفيضان أنهار على ضفافها جرى إجلاء أكثر من 30 ألف من السكان، فهل يكون ذلك هو الحل الوحيد لبلدان المغرب العربي؟