حرب عبثية لم يكن لها أن تندلع من الأساس. تصفها روسيا بأنها "عملية عسكرية خاصة"، ويصفها الغرب بأنها "غزو ليس له ما يبرره". فماذا ربح العالم من حرب أوكرانيا بعد أشهر من اندلاعها؟
قالوا إنها حرب مقدسة لحماية الديمقراطية واحترام القانون، فهل هذه حقيقة الحرب في أوكرانيا؟ وهل هناك منتصرون في تلك الحرب؟ روسيا تحقق انتصارات على الأرض في الشرق، لكنها تدفع ثمناً باهظاً من الدم والمال وأشياء أخرى. أمريكا عادت للسيطرة على أوروبا، لكنها خسرت الكثير، وفي طريقها لخسارة أهم ما تملك.
وبين رغبة الولايات المتحدة في استعادة هيمنتها والهروب من مشاكلها الداخلية من جهة، ورغبة روسيا في تأمين حدودها وعمقها الاستراتيجي والتمرد على الهيمنة الأمريكية من جهة أخرى، وجد العالم نفسه رهينة لحرب لا تبدو لها نهاية وشيكة، كما لم تكن هناك مبررات فعلية لاندلاعها من الأساس، والنتيجة تضخم وأزمة غذاء وتفاقم كارثة المناخ وما خفي أعظم.
الحرب، التي اندلعت يوم 24 فبراير/شباط 2022 بعد نحو 3 أشهر من الترقب والتجهيز والاستعداد وإثارة "الفزع" ودق طبول الحرب، هي في الأساس انفجار لأزمة جيوسياسية بين الولايات المتحدة، التي رأت حسابات إدارتها برئاسة جو بايدن أن الوقت مناسب لتفجيرها، وبين روسيا، برئاسة فلاديمير بوتين، التي قررت أن الحلول الدبلوماسية قد انتهى أوانها وحان وقت الحرب.
أما أوكرانيا، بزعامة فولوديمير زيلينسكي، فقد دفعت ولا تزال تدفع ثمناً باهظاً من دماء جيشها وشعبها واقتصادها المدمر، ويحتاج لأكثر من قرن لإعادة الإعمار (بحسب تقدير المستشار الألماني أولاف شولتس)، وأصبحت ربع مساحتها تقريباً تحت السيطرة الروسية بشكل كامل، فماذا حققت كييف؟
في هذا التقرير نسلط الضوء على أهم الخسائر التي مُني بها العالم بسبب اندلاع هذه الحرب.
أمريكا.. طرف رئيسي في اندلاع الحرب؟
الدور الأمريكي في حرب أوكرانيا هو الدور الرئيسي والأهم والمحرك الأول منذ اندلاع الأزمة قبل عقود، فأوكرانيا كانت واحدة من الدول المؤسسة للاتحاد السوفييتي، مع روسيا وروسيا البيضاء، وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي وحصول أوكرانيا على الاستقلال، كان هناك اتفاق أو وعد قدمته واشنطن لموسكو يتعلق بحلف الناتو، مفاده أن الحلف العسكري الغربي لن يتوسع "بوصة واحدة" ناحية الشرق.
توسع الناتو شرقاً بمرور الوقت، وضم جمهوريات من أوروبا الشرقية كانت يوماً أعضاء في حلف وارسو بزعامة الاتحاد السوفييتي، لكن روسيا في تلك الفترة كانت تعاني من انهيار شبه تام، وبالتالي لم تكن لديها القدرة على الاعتراض المؤثر على ذلك الزحف الغربي نحو حدودها. أوكرانيا تحديداً تعتبر جغرافياً وتاريخياً منقسمة إلى جزئين، غربي مركزه كييف العاصمة، وهو الجزء الأكثر قرباً وميلاً إلى أوروبا الغربية، وجزء شرقي أكثر قرباً وميلاً إلى روسيا.
ودون الدخول في تفاصيل كثيرة، شهدت أوكرانيا صراعاً بين روسيا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، تجسد في صورة حرب خاطفة عام 2014 سيطرت خلالها روسيا على شبه جزيرة القرم، وسيطر انفصاليون أوكرانيون على منطقتي لوغانسيك ودونيتسك في دونباس. فرض الغرب عقوبات اقتصادية على روسيا وطردها من مجموعة الثمانية لتصبح مجموعة السبع، وتوسطت ألمانيا وفرنسا ليتم التوصل إلى اتفاقيات مينسك، عاصمة روسيا البيضاء، التي أدت إلى وقف إطلاق النار في دونباس. بموجب تلك الاتفاقيات، كان الانفصاليون، المدعومون من روسيا والموالون لها، يسيطرون على ثلث مساحة إقليم دونباس، بينما يسيطر الجيش الأوكراني، المدعوم من الغرب، على ثلثي الإقليم.
ظلت الأمور على حالها في أوكرانيا منذ عام 2014 وحتى عام 2021 مع تولي بايدن المسؤولية في البيت الأبيض وإعلانه عن "عودة أمريكا لقيادة العالم". انسحبت أمريكا من أفغانستان في أغسطس/آب 2021 في مشهد نال كثيراً من الهيبة الأمريكية حول العالم وتسبب في زعزعة ثقة الحلفاء في واشنطن، وهي الثقة التي كانت في أدنى درجاتها أصلاً بسبب سنوات رئاسة دونالد ترامب واتباعه سياسة انعزالية نالت كثيراً من مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى تهيمن على المسرح السياسي الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
ثم جاءت الانتخابات الرئاسية الأمريكية وما نتج عنها من رفض ترامب الاعتراف بنتائجها والتشكيك في نزاهتها، وهي المشاهد التي توَّجها اقتحام أنصار ترامب مبنى الكونغرس يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021، لتشوه صورة القوة العظمى بصورة غير مسبوقة، ويبدأ الحديث عن أفول عصر الهيمنة الأمريكية، خصوصاً أن الانقسام الداخلي في البلاد أوشك على الوصول إلى شفا الحرب الأهلية.
لا يمكن بأي حال من الأحوال التطرق إلى الحرب الأوكرانية دون هذه النظرة السريعة على الأوضاع الداخلية في الولايات المتحدة لعدد من الأسباب، أولها أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يريد الضمانات القانونية الملزمة بشأن عدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو من إدارة بايدن تحديداً، على أساس أن القرار في الناتو قرار أمريكي، من وجهة النظر الروسية.
لكن بدلاً من سعي بايدن إلى تفادي تحول الأزمة الجيوسياسية في أوكرانيا إلى حرب، وصفها الرئيس الأمريكي بأنها الأكبر في القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، تجاهل ساكن البيت الأبيض مشاكل بلاده الداخلية من انقسام خطير بين الجمهوريين والديمقراطيين، ونسب تضخم لم تشهدها البلاد منذ 4 عقود على الأقل، وغيرها من الأزمات الخانقة التي تتطلب تعاوناً دولياً وتهدئة للصراعات، وحول كل تركيزه إلى الأزمة الأوكرانية، التي أصبحت الشغل الشاغل لإدارة بايدن.