ثقة العالم في البنوك المركزية الكبرى تتراجع إلى أدنى معدل لها منذ عقود، وسط تساؤلات حول ما إذا كانت هذه البنوك نسبت لنفسها زوراً، دور البطولة في الحفاظ على النمو الاقتصادي المستدام خلال الثلاثة عقود الماضية والذي كان مصحوباً بتضخم منخفض.
فعلى مدى 30 عاماً، كانت البنوك المركزية الكبرى هي الفاعلين المهيمنين في السياسة الاقتصادية، وسيطرت على الدورات الاقتصادية من خلال التعديلات في أسعار الفائدة وعبر التيسير الكمي. وتزامنت صدارة البنوك المركزية مع حقبة من التضخم المنخفض، وهي دلالة واضحة على مهاراتها في وضع السياسات النقدية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية.
كان المستثمرون أيضاً واثقين بقدرة البنوك المركزية على إنقاذ الاقتصاد في أوقات الشدة. فتميل أسواق الأسهم للارتفاع حين تشير البنوك المركزية إلى أنها على وشك تخفيف السياسة النقدية. وقد عُرِفَت هذه الظاهرة في عهد آلان غرينسبان، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لفترة طويلة، باسم "خيار غرينسبان".
لكن الآن، يجري التشكيك في مهارة البنوك المركزية. فقد وقعت في مأزق نتيجة الارتفاع القوي المفاجئ للتضخم على مدار الأشهر الـ12 الماضية، وكانت أيضاً بطيئة في رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم.
كي نكون منصفين، كان ارتفاع أسعار الطاقة، المرتبط في جزءٍ منه بالغزو الروسي لأوكرانيا، عاملاً مهماً في ارتفاع التضخم. وقال أندرو بايلي، محافظ بنك إنجلترا، أمام مجلس العموم البريطاني إن البنك المركزي واجه سلسة من الصدمات "غير المسبوقة تقريباً". لكنَّه أضاف أن "توقُّع تضخم بنسبة 10% والقول بأنه لا يوجد الكثير الذي يمكننا عمله حيال ذلك لهو موضع صعب جداً على المرء أن يكون به".
بكين وليس البنوك المركزية الكبرى هي صاحبة الفضل في عصر السلع الرخيصة
هذا الإقرار بالعجز محرج جداً. فإذا لم تكن البنوك المركزية تستحق اللوم على القفزة الأخيرة للتضخم، فربما لا تستحق الفضل الذي نُسِبَ لها على الارتفاعات البسيطة في الأسعار على مدار العقود الثلاثة الماضية.
كان انخفاض التضخم مدفوعاً بدخول الصين إلى الاقتصاد العالمي، وهي الخطوة التي غمرت العالم المتقدم بالسلع منخفضة التكلفة.
فقد تم الاستشهاد بالعولمة، وصعود القوة التصنيعية للصين بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية على وجه الخصوص، كواحد من العوامل الدافعة وراء التضخم العالمي المنخفض والمستقر على مدى العقدين الماضيين، حسب تقرير لوكالة Goldman Sachs الأمريكية.
منذ تسعينيات القرن العشرين، ظل التضخم في الاقتصادات المتقدمة الرئيسية منخفضاً ومستقراً في جميع أنحاء العالم مقارنة بالعقود السابقة، يقف العديد من الدوافع وراء التغيير الكبير، بما في ذلك السياسات النقدية التي نجحت في تثبيت توقعات التضخم والتقدم التكنولوجي وإدارة المخزون بشكل أفضل.
ولكن غالباً ما يتم الاستشهاد بعامل آخر هو العولمة، ولا سيما دخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية، والارتفاع الحاد في قدرتها التصنيعية.
في عام 2001، كانت الصين تمثل أقل من 2% من التجارة العالمية. بحلول عام 2019، نشأت 13% من الصادرات العالمية و28% من القيمة المضافة التصنيعية العالمية من الصين.
زيادة تكاليف العمالة بالصين وتوتر علاقتها مع أمريكا يرفعان التضخم
مع التزام الحكومة الصينية بإزالة الكربون وإعادة التفكير في سلاسل التوريد العالمية بعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين ووباء COVID، بات التساؤل: هل ستتحول الصين من قوة معاكسة للتضخم في الماضي إلى محرك تضخمي في المستقبل؟
وبسبب زيادة تكاليف العمالة وتشديد القيود البيئية، أصبحت قدرة الصين على إنتاج سلع مصنعة رخيصة موضع تساؤل، على خلفية التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين وإعادة ترتيب سلاسل التوريد العالمية.
ربما تتحول الصين من عامل معاد للتضخم العالمي إلى محرك تضخمي عالمي.
وبينما تميل المناقشات حول العلاقة بين الصين والتضخم العالمي إلى التركيز على دور بكين في إنتاج البضائع الرخيصة، وكيف يؤدي الارتفاع في أسعار منتجاتها دوراً في التضخم الحالي، فإن الطلب الصيني يلعب دوراً مهماً على قدم المساواة في الأزمة الحالية، إن لم يكن أكثر.
شكلت الصين تقريباً جميع الزيادات في الطلب العالمي على المعادن خلال العشرين عامًا الماضية، وثلاثة أرباعها كانت للاستهلاك المحلي.
ابتعاد الشركات الكبرى عن بكين يؤدي لزيادة الأسعار
كما أدى مزيج التوترات بين الولايات المتحدة والصين ووباء COVID-19 إلى قيام الشركات المصنعة بإعادة التفكير في مصادر المدخلات ومرونة سلسلة التوريد. إن التحول من سلسلة التوريد العالمية "الأقل تكلفة" إلى "أعلى مرونة" هو بلا شك تضخم على المدى القريب. ومع ذلك، فإن الآثار المترتبة على التضخم على المدى الطويل غامضة.
في الواقع، إذا كانت سلاسل التوريد بالفعل أكثر مرونة وأقل عرضة للاضطرابات، فقد يكون التضخم طويل الأجل أقل في المتوسط حيث تقل احتمالية ارتفاع الأسعار مع صدمات الطلب.
ولعبت التغيُّرات التكنولوجية التي قللت تكاليف الشركات دوراً أيضاً في التضخم المستقر خلال العقود الماضية.
وربما لم تكن البنوك المركزية جهات إدارة اقتصادية لامعة حقاً، ربما كانت محظوظة وحسب، وفقاً لوصف صحيفة The Financial Times البريطانية.
تتكشف هذه الأزمة حتى مع عدم تعافي الاقتصاد العالمي بالكامل من الوباء. حتى قبل الحرب، كان التضخم في العديد من البلدان يرتفع بسبب اختلال التوازن بين العرض والطلب ودعم السياسات خلال الوباء، ما أدى إلى تشديد السياسة النقدية. قد تتسبب عمليات الإغلاق الأخيرة في الصين في اختناقات جديدة في سلاسل التوريد العالمية، حسبما ورد في تقرير نشر بمدونة صندوق النقد الدولي "IMFBlog".
وأصبح التضخم خطراً واضحاً وقائماً لكثير من البلدان. حتى قبل الحرب، ارتفعت على خلفية ارتفاع أسعار السلع الأساسية واختلال التوازن بين العرض والطلب. تحرك العديد من البنوك المركزية، مثل الاحتياطي الفيدرالي، بالفعل نحو تشديد السياسة النقدية. تؤدي الاضطرابات المرتبطة بالحرب إلى تضخيم تلك الضغوط.
يتوقع صندوق النقد الآن أن التضخم سيظل مرتفعاً لفترة أطول بكثير. في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وصل إلى أعلى مستوى له منذ أكثر من 40 عاماً.
ضعف الثقة بمصداقية البنوك المركزية يفاقم دورة التضخم
هنالك مشكلة أخرى في اعتراف محافظ بنك إنجلترا، وهي أن قدرة البنوك المركزية الكبرى على إدارة التوقعات بالغة الأهمية. فإذا كانت الشركات تعتقد أن البنوك المركزية يمكنها السيطرة على التضخم، فإنها ستتجنَّب تمرير ارتفاع التكاليف في صورة أسعار أعلى للمستهلكين، وإذا كان العمال يعتقدون أن البنوك المركزية يمكنها السيطرة على التضخم، فإنهم لن يطالبوا بأجور أعلى تعويضاً عن ارتفاع الأسعار. لكن إذا خسر هؤلاء ثقتهم بالبنوك، سيصير الأمر منافسة مفتوحة وبلا قيود، مثلما كان الوضع في السبعينيات. حينها، كان تينكر بيل ميتاً.
وبهذا المقياس، لم تختفِ الثقة في البنوك المركزية بعد. فمن الممكن قياس توقعات التضخم طويل الأجل في أسواق العقود الآجلة. ويُظهِر هذا القياس أن المستثمرين يتوقعون فقط معدل تضخم يبلغ 2.1% في السنوات الخمس التالية لعام 2027.
مع ذلك، مثَّل الارتفاع القوي المفاجئ للتضخم صدمة سيئة لسوق السندات. إذ بلغ العائد على سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات 3.43% في يونيو/حزيران الماضي، وهو أعلى مستوى له خلال أكثر من 10 سنوات، بعدما كان 0.54% في مارس/آذار 2020.
تراجعت السندات لأجل 10 سنوات منذ ذلك الحين إلى ما دون 3%. ويشير تقلُّبها الأخير إلى أنَّ المستثمرين الآن غير متأكدين بشأن مدى قدرة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على إدارة الدورة الاقتصادية. وتشير البيانات الأخيرة بصورة محيرة إلى أن سوق العمل لا يزال صحياً، لكنَّ ثقة المستهلكين تراجعت ولا يزال القطاع التصنيعي يعاني.
لكنَّ الاختبار الأكبر للثقة بالبنوك المركزية ربما يجري في سوق الأسهم. ففي يونيو/حزيران الماضي، استوفى مؤشر S&P 500 التعريف الفني للسوق الهابطة حين تراجع بأكثر من 20% عن مستوياته المرتفعة في يناير/كانون الثاني الماضي.
لربما كان المستثمرون في السابق يأملون الحصول على مساعدة بسيطة من بنك الاحتياطي الفيدرالي في صورة خفض لسعر الفائدة. لكن بعد أيام قليلة، كشف بنك الاحتياطي الفيدرالي عن أكبر زيادة في أسعار الفائدة منذ عام 1994، بزيادة بلغت ثلاثة أرباع النقطة المئوية.
بطبيعة الحال، ستُصِرُّ البنوك المركزية على أنَّ "خيار الفيدرالي" لم يكن سياسة واعية على الإطلاق. فحين خفَّضت أسعار الفائدة في مواجهة اضطرابات السوق، لم تكن تحاول دعم أسعار الأصول بل تقليص الضر الاقتصادي المحتمل الذي قد ينجم عن الانهيار المالي. الآن وقد عاد التضخم، لا يسع البنوك المركزية القلق بشأن الأسواق المالية، بل عليها فقط أن تبطئ ضغوط تلك الأسعار.
لقد اعتاد المستثمرون الاعتقاد بأن البنوك المركزية ستنقذهم، لكنَّهم الآن قلقون من أنَّ البنوك قد تقبرهم.