كانت مصر واحدة من أكثر دول العالم تأثراً بحرب أوكرانيا، وتتفاقم الأزمة الاقتصادية المصرية بسرعة، دافعة الحكومة للبحث عن حلول عاجلة بما فيها خيار اللجوء لصندوق النقد للمرة الثالثة.
وتشهد الأسر المصرية بمختلف مستوياتها الاقتصادية تآكلاً سريعاً في قدرتها الشرائية. خلال الشهور الأخيرة، تظاهر العشرات بسبب تأخير تسليم السيارات الجديدة بسبب القيود المفروضة على الاستيراد وانخفاض قيمة العملة المحلية.
بينما ظهرت مجموعات جديدة على منصة فيسبوك للبحث عن بدائل محلية لأطعمة الحيوانات الأليفة بعد تقييد الاستيراد، فيما اضطر المصريون الأبسط حالاً لتقليل استهلاكهم ومشترياتهم من المواد الغذائية والأساسية، حسبما ورد في تقرير لموقع شبكة CNN الأمريكية.
وحذرت مؤسسة Moody الائتمانية في شهر مايو/أيار من "المخاطر الاجتماعية والسياسية"، وخفضت توقعاتها للاقتصاد المصري لهذا العام من مستقرة إلى سلبية. ويبدو أن الحكومة المصرية تشاركها تلك المخاوف.
وتحسباً لهذا الوضع، دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي لحوار وطني مع رموز المعارضة، في تغيير واضح لمنهج القمع الذي زج بآلاف الأشخاص في السجون، حسب وصف الشبكة الأمريكية.
لماذا كانت مصر من أكثر البلدان تأثراً بحرب أوكرانيا؟
بلغ معدل التضخم الرسمي في مصر 14.7% في شهر يونيو/حزيران، بعدما كان حوالي 5% فقط في نفس الوقت من العام الماضي، إلا أن استطلاعات السوق تشير إلى ارتفاع هذا الرقم أكثر وأكثر منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في شهر فبراير/شباط.
تسببت الحرب الأوكرانية في حالة من انعدام اليقين في أسواق الحبوب العالمية أدت إلى ارتفاع الأسعار. تعتمد مصر على روسيا وأوكرانيا في 80% من وارداتها من القمح، وتدفع الآن 435 دولاراً للطن الواحد بدلاً من 270 دولاراً للطن في العام الماضي، وفقاً لبيانات الحكومة المصرية.
أثر الغزو الروسي أيضاً على مجال السياحة في مصر، إذ كان السائحون الروس والأوكرانيون يمثلون ما يصل إلى نصف إجمالي عدد السائحين في مصر، لكن تراجعت تلك الأعداد بشكل كبير.
في وقت كان يتعافى فيه الاقتصاد بالكاد من التباطؤ الناجم عن جائحة كوفيد-19، اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية لتدفع التحديات التي تواجه الاقتصاد إلى آفاق جديدة أكثر صعوبة.
وفقاً لوكالة التصنيف الائتماني، أدى ارتفاع أسعار الفائدة في الأسواق الأكثر استقراراً مثل الولايات المتحدة إلى خروج ما يصل 20 مليار دولار من مصر، جزء كبير منها من الأموال الساخنة.
أدى ذلك إلى ترنح الحكومة المصرية في ظل أزمة نقدية وديون تمثل 85% من حجم اقتصادها. ومع انخفاض احتياطي النقد الأجنبي، بدأت الحكومة تخفض قيمة الجنيه بشكل محدود حتى فقد 17% من قيمته في ظرف أيام خلال شهر مارس/آذار الماضي.
أدى ذلك- إلى جانب التدابير الحكومية الأخرى للتحكم في تدفق العملات الأجنبية إلى خارج البلاد- إلى تضييق الخناق على الاستيراد، مما أثر على كل الفئات من المستهلكين والتجار والمصنعين.
وصف رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي في مؤتمر صحفي شهر مايو/أيار تلك الأزمة الاقتصادية بـ"غير المسبوقة"، وقال: "ينبغي أن ندرك أن الأزمة لم تضرب مصر وحدها، وإنما جميع أنحاء العالم".
وقال إن التأثيرات المباشرة وغير المباشرة للأزمة ستكلف مصر 465 مليار جنيه (24.6 مليار دولار أمريكي)، ويتضمن ذلك جهود الحكومة لتوفير شبكة أمان اجتماعي للمواطنين.
قرض صندوق النقد الدولي المنتظر سيكون أكبر من السابق
وتسعى الحكومة المصرية للحصول على المزيد من القروض، لا سيما من صندوق النقد الدولي الذي اقترضت منه مصر بالفعل 20 مليار دولار منذ عام 2016، وهذا يعد الطلب الثالث من نوعه في غضون ستة أعوام. حيث تعد القاهرة بالفعل واحدة من أكبر المقترضين من الصندوق بعد الأرجنتين.
وقالت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، مؤخراً إن "الأزمة تُفاقم من تعرُّض مصر لخروج الاستثمارات الأجنبية من سوق سندات عملتها المحلية".
هذا الخروج للاستثمارات جاء نتيجة ارتفاع معدلات الفائدة عالمياً إلى جانب التخوفات المرتبطة بالاقتصاد المصري في ظل غياب برنامج لصندوق النقد الدولي واعتقاد أن قيمة الجنيه مدعومة من الحكومة مقابل الدولار. وعمدت مصر إلى تعزيز مواردها المالية المضغوطة، واستعادة الثقة باقتصادها الذي يعتمد اعتماداً كبيراً على "الأموال الساخنة"، أو جذب الأجانب إلى سوق الدين المحلي قصير الأجل، من خلال خفض قيمة عملتها، الجنيه، قبل أن تعلن نيتها طلب قرض من صندوق النقد الدولي.
دول الخليج تضخ مليارات الدولارات للحد من الأزمة الاقتصادية المصرية
بينما ضخت دول الخليج مليارات الدولارات في مصر لتجديد الاحتياطي النقدي الأجنبي المتناقص منذ شهر فبراير/شباط.
يأتي جزء كبير من أموال الإمارات العربية المتحدة في شكل استثمارات وصفقات استحواذ على كبرى الشركات المصرية، وترغب الحكومة المصرية في رؤية المزيد من ذلك، إذ رسم مدبولي الخطوط العريضة لخطة طرح حصص لشركات مملوكة للحكومة والجيش، من بينها سبعة موانئ، لجلب 40 مليار دولار على مدار أربع سنوات.
ويعد من المهام الرئيسية للحكومة في الوقت الحالي توفير القمح لدعم وصول الخبز إلى 70 مليون مصري، في دولة يبلغ تعداد سكانها 100 مليون مواطن. وتعمل حالياً على تقديم حوافز للمزارعين المحليين لزراعة القمح وبيعه للحكومة من أجل سد جزء من الفجوة المتوقعة في واردات الحبوب.
هل يفرض الصندوق شروطاً جديدة؟
في 2016، كان أحد شروط صندوق النقد تعويم الجنيه، وترك تحديد قيمته لآليات السوق دون تدخُّل من البنك المركزي، وهذا ما تم فعلاً، حيث انخفض الجنيه بعد التعويم مقابل الدولار إلى 18 جنيهاً مقابل 8 جنيهات قبل التعويم، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع التضخم وتراجع القدرة الشرائية للمصريين.
لكن البنك المركزي المصري عاد للتدخل بشكل غير مباشر في سوق الصرف، بتوفير العملات الأجنبية للبنوك، وتمكن من تثبيت سعر الدولار حول 15.5 جنيه لمدة تزيد على سنتين.
في مارس/آذار الماضي، وقبل يومين من الإعلان عن طلب مصر تمويلاً جديداً من صندوق النقد "لبرنامج إصلاحي شامل"، خفضت مصر الجنيه بنسبة 15% ليعود الدولار فوق 18 جنيهاً، ورفع البنك المركزي المصري أسعار الفائدة.
وبهذا، تكون مصر قد بادرت مسبقاً بالوفاء باثنين من أهم شروط صندوق النقد.
ولكن قد يطلب صندوق النقد تعويماً أكبر، يؤدي إلى تفاقم في التراجع في قيمة الجنيه.
مصر سبق أن قلصت الدعم، فهل من مزيد؟
تقديرات المحللين ترجّح قيام الحكومة المصرية بتقليص دعم السلع الأساسية، خصوصاً الطاقة، وقد سارت مصر بهذا الاتجاه بالفعل، إذ بدأت قبل نحو ثلاث سنوات بتعديل أسعار المحروقات كل ثلاثة أشهر بناءً على أسعار النفط في الأسواق العالمية وأسعار الصرف.
ومنذ ذلك الحين، شهدت أسعار المحروقات عدة ارتفاعات، ما انعكس على أسعار الكهرباء والمياه.
والآن، وإضافةً إلى المحروقات، يضغط صندوق النقد الدولي على مصر لتقليص الدعم عن باقي السلع الأساسية، كالخبز وزيوت الطهي، بهدف تقليص العجز في الموازنة العامة.
كما تواجه مصر مشكلة فيما يتعلق بأسعار الوقود التي تُحدَّد كل ثلاثة أشهر، وهي أن الأسعار الحالية حُدِّدت قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، ولكن الحرب قفزت بأسعار النفط بشكل كبير، وفقاً للآلية التي وضعتها الحكومة لتسعير الوقود فإن الزيادة كل ثلاثة أشهر يجب ألا تتخطى 10%، وهذا يعني أن الزيادة في أسعار الوقود المحلية قد لا تكفي لتغطية الزيادة الحقيقية في سعر النفط، وهو أمر قد يفاقم عجز الموازنة، وقد تضطر الحكومة إلى إدراج زيادات متتاليةٍ كل ثلاثة أشهر، إذا استمرت أسعار النفط مرتفعة، وهو ما قد يمثل عبئاً كبيراً على المواطنين، حيث ستصل أسعار الوقود في هذه الحالة لمستويات لم يعرفوها من قبل.
تخفيض عجز الموازنة
تستهدف مصر عجزاً بنسبة 6.6% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي للعام المالي الحالي 2021-2022، انخفاضاً من 8.1% في العام المالي السابق، ويطالب الصندوق بمزيد من خفض العجز، عن طريق تقليص الإنفاق العام من جهة، ورفع الإيرادات من جهة أخرى.
وتعتبر الحماية الاجتماعية من دعم وإعانات نقدية، أحد أبرز البنود التي يطالب صندوق النقد بتقليص الاتفاق عليها، ما يحرم ملايين الأسر المصرية من القدرة على مواجهة الأعباء المالية المتزايدة، نتيجة ارتفاع الأسعار وانخفاض سعر صرف العملة المحلية.
في هذا السياق أيضاً، يطالب صندوق النقد بتقليص فاتورة الرواتب، وتقليص القطاع العام عموماً، عبر طرح مزيد من الشركات الحكومية للخصخصة.
زيادة الإيرادات التي قد يشترطها صندوق النقد، تعني زيادة الضرائب القائمة، وربما فرض ضرائب جديدة، على غرار ما حصل تزامناً مع قرض الصندوق لمصر في عام 2016، حيث فرضت مصر ضريبة القيمة المضافة، وهي الآن مطالَبة برفعها.
ويخشى المصريون من إخضاع السلع والخدمات التي كانت مُعفاة سابقاً من هذه الضريبة، كالخبز والطحين وبعض أصناف المحروقات وخدمات الشحن.
الصندوق يركز على تقليص دور الجيش في الاقتصاد
وقال فاروق سوسة، الخبير الاقتصادي في بنك غولدمان ساكس إنترناشونال إنه يتوقع أن يركز صندوق النقد الدولي على نظام عملات أجنبية مرن، و"دور الجيش والدولة في الاقتصاد، وتوفير ساحة متكافئة للمنافسة".
ومنذ تولي عبد الفتاح السيسي، الرئيس والقائد العسكري السابق، السلطة عام 2014، زاد الجيش من حضوره في الاقتصاد، وفقاً لما يقوله البعض، وهو ما أثّر على القطاع الخاص الذي يخشى منافسة المؤسسة الأكثر نفوذاً في البلاد، حسب تقرير صحيفة Financial Times البريطانية.
ولكن اللافت أن التصريحات الرسمية أو شبه الرسمية تؤكد على ضرورة تعزيز دور القطاع الخاص، في مؤشر على إبداء القاهرة استعدادها لتقليل دور القطاع العام ومؤسسات الجيش في الاقتصاد.
وارتفع الدين الخارجي لمصر بنسبة تقترب من 150% في ست سنوات.
ففي نهاية عام 2016، تاريخ القرض الأول ضمن الجولة الأخيرة لمصر مع صندوق النقد، كان الدين العام الخارجي لمصر 56 مليار دولار، ارتفع في نهاية 2021 إلى نحو 137.9 مليار دولار.
وتضيف خدمة هذا الدين (أقساط وفوائد) أعباء كبيرة على الموازنة العامة، ما يضطر الحكومة إلى مزيد من ضغط الإنفاق من جهة، وزيادة الإيرادات من جهة.. كل هذه القضايا ترى شريحة من المصريين أنها هامة لإعادة مسار الإنفاق المحلي، وإعادة توجيه الدعم لمستحقيه، بينما آخرون يعتبرونها خطة جديدة للضغط على الشارع المحلي، الذي يواجه اليوم نسب تضخم مؤلفة من خانتين.