تكثف إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن العمل على إنشاء ما يوصف بأنه "ناتو الشرق الأوسط"، الذي يجمع دولاً عربية وخليجية مع إسرائيل لمواجهة "التهديدات الإيرانية"، وذلك قبيل زيارة بايدن للمنطقة في منتصف يوليو/تموز، لكن على الرغم من كثرة الحديث العربي عن "التدخلات الإيرانية"، ووجوب ردع أنشطة طهران في المنطقة، يشكك محللون بقدرة هذا التحالف -الذي يجمع دولاً تحظى بحساسيات فيما بينها، ناهيك عن أن وجود تل أبيب معها- على النجاح أو الصمود، فيما تذهب صحيفة The Washington Post الأمريكية إلى القول إن ما يسمى بـ"ناتو الشرق الأوسط" ضرب من الأماني التي لن تتحقق!
"ناتو الشرق الأوسط".. هل تعزِّزه المخاوف من التهديدات الإيرانية؟
ظلّت الصبغة الرسمية، طيلة السنوات الماضية، هي المحدد الأساس لعلاقات معظم الدول العربية بطهران، مع تخوّف حذر مما تصفه بـ"التدخل الإيراني" في شؤونها الداخلية. واستمرت المخاوف من "التدخلات الإيرانية" عنواناً رئيسياً في نتائج القمم العربية السابقة، في ظل مواقف دولية تتشدد في منع طهران امتلاك سلاح نووي، وسط تحذيرات من قبل دول الخليج وإسرائيل على قدرة طهران على إيذائها وإلحاق الضرر بمصالحها.
أما الأردن، الذي سيكون عضواً أساسياً في هذا "الناتو الشرقي"، فيجاور أبرز مناطق الصراع والأزمات في منطقة الشرق الأوسط، ورغم ذلك استطاعت المملكة أن تحافظ على استقرارها، متجنبة شررها المتطاير في كل الجهات، لكنها بات أخيراً تظهر قلقاً واضحاً من تداعيات ما يجري في جارتها الشمالية سوريا، وسط حديث عن وجود قوات إيرانية قريبة من حدودها.
وقال العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، في لقاء مع شبكة CNBC الأسبوع الماضي، إنه يدعم فكرة تكوين تحالف عسكري في الشرق الأوسط على غرار حلف شمال الأطلسي (الناتو)، قبل أن يستدرك بالتشديد على أن "مهمة هذا التحالف يجب أن تكون واضحة جداً جداً، وإلا فإنه سيربك الجميع".
وفي يوليو/ تموز الماضي، كشف العاهل الأردني الملك عبد الله في مقابلة مع شبكة "سن إن إن" الإخبارية الأمريكية، عن تعرض بلاده لهجوم بمسيّرات إيرانية الصنع. وبسؤاله عن تحذيره السابق مما أسماه "الهلال الشيعي"، قال الملك: "أود أن أوضح هنا أنني عندما تحدثت عن الهلال الشيعي، قصدت الهلال الإيراني من وجهة نظر سياسية". وعام 2004، حذّر العاهل الأردني خلال حديثه مع إحدى الصحف الأمريكية من خطر تشكل "الهلال الشيعي".
وفي تصريحات أدلى بها مؤخراً، اعتبر الملك عبدالله الوجود الروسي السابق جنوبي سوريا مصدرا للتهدئة، مبينا أن "هذا الفراغ سيملؤه الآن الإيرانيون ووكلاؤهم، وللأسف أمامنا هنا تصعيد محتمل للمشكلات على حدودنا".
إسرائيل أكبر المتحمسين للتحالف الشرق أوسطي ضد إيران
مع ذلك، وحتى إن كانت الحجج التي تستند إليها فكرة إنشاء (ناتو) في الشرق الأوسط تُوهم بأنها متماسكة المنطق، فإن الحقائق السياسية والعسكرية للمنطقة تُسفر عن كونها فكرةً شديدة السخف. لقد شقَّ على الدول التي تنوي إنشاء هذا التحالف أن تجتمع على أهداف أمنية مشتركة، فما بالك بالاجتماع على خصوم مشتركين.
ومعظم هذه الدول صُمِّمت جيوشها لحماية أنظمتها مما تراه مخاطر في الداخل، وليس لمجابهة أعداء الخارج. لذلك، فإنها قد تبدي براعة في قمع نشطاء الديمقراطية العزل، لكن براعتها هذه لا تلبث أن تستحيل إلى ضعف تاريخي عند الحديث عن الصراعات العسكرية، كما تقول صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية.
والإسرائيليون من جانبهم، مولعون بتحالف من هذا النوع، والأغلب أن توافق إدارة بايدن على إنشائه، فأقل ما فيه أن يدفع عن بايدن بعض اتهامات النواب الجمهوريين في الكونغرس بأنه متهاون مع إيران.
وأوشكت إيران على حيازة القدرات التقنية لصناعة الأسلحة النووية، فقد نجحت في بناء مخزون كبير من اليورانيوم المخصَّب على نحو يتجاوز أي استخدام للأغراض المدنية. وترى إدارة بايدن أن إحياء الاتفاق النووي لعام 2015 كفيلٌ بالتخفيف من وتيرة التهديد الإيراني. لكن الاتفاق النووي ينطوي، من جهة أخرى، على إزالة العقوبات الاقتصادية المفروضة على طهران، ومن ثم فإن عودة الاتفاق تمكِّنها من ضخ مئات المليارات من الدولارات لمعاودة بناء كل من قوتها التقليدية، وشبكتها من الميليشيات في جميع أنحاء المنطقة.
وقد تظن أن هذا سبب كافٍ للدول التي تهددها إيران لكي تحزم أمرها وتجد في عزمها على إنشاء تحالف عسكري إقليمي. لكن الواقع يشهد بخلاف ذلك بحسب صحيفة واشنطن بوست، فمع أن الإسرائيليين ودول التطبيع بات يجمعهم تعاون وثيق في القضايا الأمنية، فإن تصورات الطرفين عن طبيعة الخطر الإيراني ما زالت متفاوتة، والآراء حول سبل التعامل مع إيران ما انفكت متباينة. وهذا يعكِّر بطبيعة الحال أي آمال في مهمة "واضحة جداً" للناتو المزعوم، على النحو الذي يرجوه الملك عبد الله.
"فكرة شديدة التضليل تُوهم بشيء كبير"
وتقول الصحيفة الأمريكية إن فكرة التحالف الجديد الذي يتم الحديث عنه، فكرة شديدة التضليل تُوهم بشيء كبير، مع أنها فارغة من داخلها: تحالف أمني إقليمي ضد أعداء مشتركين. وهي ليست بالفكرة الجديدة، لكنها عاودت الظهور قبيل زيارة الرئيس الأمريكي المزمعة إلى جدة الشهر المقبل، مستندة إلى تقارير متداولة عن توثيق التعاون الأمني بين الولايات المتحدة، وإسرائيل، ودول الخليج العربية ضد تهديد إيران.
وترى "واشنطن بوست" أن عوامل عدة أحبطت محاولات سابقة لبناء تحالفات عسكرية في المنطقة. وشهدت السنوات السبع الماضية محاولتين مُجهضتين في هذا السياق: خطة جامعة الدول العربية لعام 2015 لإنشاء قوة مشتركة لمكافحة الإرهاب، واقتراح تقدمت به السعودية عام 2017 لإنشاء تحالف أمني إستراتيجي للشرق الأوسط (MESA)، وأيَّده الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تأييداً كاملاً. (وبطبيعة الحال كان يطلق عليه أيضاً "الناتو العربي").
وتتمتع كل من قطر وعمان بعلاقات حسنة مع إيران. ويغلب التحفظ على علاقات الكويت مع طهران. أما السعودية والإمارات، فالحذر هو الغالب، وبعد أن سالت الدماء غزيرةً في الصراع مع الميليشيات الموالية لإيران في اليمن، أصبح البلدان أحرص على التفاهم من المواجهة. وتُجري الرياض وأبوظبي حالياً مفاوضات مفتوحة مع النظام في طهران.
تميل البحرين إلى موافقة السعودية في قضايا الأمن والسياسة الخارجية. ويشهد اليمن حرباً أهلية بين المتمردين الحوثيين، المدعومين من إيران، والحكومة المعترف بها دولياً، والتي يدعمها تحالف عربي تقوده السعودية.
وتملك دول الخليج العربي بالفعل ما يشبه القوة العسكرية المشتركة: القوة المعروفة باسم "درع الجزيرة"، وهي قوة يبلغ قوامها 40 ألف جندي، وقد أُحسن تجهيزها، بفضل دولارات النفط، لكنها لا تملك أي خبرات قتالية يعتدُّ بها.
أما في منطقة الشام، فقد أصبحت سوريا أشبه بولاية إيرانية، ويبدو أن لبنان والعراق يسيران في الاتجاه نفسه. وقد حذَّر الملك الأردني مراراً من تنامي نفوذ إيران في المنطقة، لكن قوته العسكرية الصغيرة لا تتيح له إلا مشاركة يسيرة في أي تحالف، كما حدث في التحالف المناهض للحوثيين.
أما قوات الأمن العربية الكبرى، فمعظمها ينتمي إلى دول شمال إفريقيا، وهي دول يتفاوت موقفها من الخطر الإيراني، لكنه أقل شأناً، بطبيعة الحال، لبعد المسافة. وكانت مصر، أكبر دول شمال إفريقيا في عدد السكان، أول من انسحب من مشروع "تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي" المجهَض.
الخلاصة من كل ذلك أن مهمة كبح إيران، مهما كانت النتيجة التي تؤول إليها المفاوضات النووية، ستقع في المقام الأول على عاتق الولايات المتحدة وإسرائيل، وأن أي فكرة تتحدث عن إنشاء حلف عسكري على غرار "الناتو" في الشرق الأوسط ليست إلا حبراً على ورق.
"التحالف سيؤدي إلى تقسيم المنطقة"
من جانبه، يجزم الخبير العسكري الأردني، مأمون أبو نوار، بفشل فكرة التحالف العسكري العربي. وقال أبو نوار لوكالة الأناضول التركية: "التحالف لن يفيد الأردن، وسيفشل". وأضاف: "لكنه ربما ينجح في مسألة واحدة، هي الربط المناطقي عبر الأجهزة من خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية".
وتابع: "لا بد للدول التي قد تتشارك في هذا التحالف من تحديد عدوِّها، ولو افترضنا أنه إيران، فإن ذلك سيؤدي إلى تقسيم المنطقة إلى شيعة عرب، وسنّة عرب".
مشيراً إلى أنه "لا توجد أي قيمة استراتيجية لهذا الناتو العربي، لعدم وجود أرضية مشتركة بين الدول العربية، وسيكون هنالك خلافات كبيرة باستخدام القوة العسكرية". وأوضح أن "الأمن العربي مسؤولية عربية بموجب اتفاقية الدفاع المشترك المنصوص عليها في جامعة الدول العربية، لكنه غير مفعل".
كما اعتبر أبو نوار أن الرفض الشعبي العربي حجر عثرة أمام فكرة "الناتو شرق الأوسطي". وقال: "حتى لو وافقت الأنظمة والحكومات العربية على هذا التحالف وإنشاء ناتو شرق أوسطي، فإنه بالتأكيد لن يلقى قبولاً شعبياً، لأن دخول إسرائيل لأي دولة من تلك الدول سيكون بمثابة احتلال، ما يجعل قيام التحالف أمراً غير ممكن، خاصة مع وجود تضارب بالمصالح والرؤى".
من جهته، اعتبر البرلماني والقانوني الأردني، صالح العرموطي، أن فكرة التحالف العسكري العربي ستكون مرفوضة للأردن. وقال العرموطي للأناضول: "هذا التحالف مرفوض بالنسبة للأردن جملة وتفصيلاً، لأنه يضم دول الشرق الأوسط، وهذا أمر يتعلق بمشاركة الكيان الصهيوني بهذا الحلف، ومن شأنه كما قال الرئيس الأمريكي جو بايدن أن يخدم الأمن الصهيوني (الإسرائيلي) ويخدم مشروعهم بالمنطقة".
وقال العرموطي: "هذا التحالف سيشرعن وجود قواعد أمريكية على الساحة الأردنية، في ظل اتفاقية مع واشنطن تسمح لها بدخول تحالفات مع أي جهة كانت، بما فيها العدو الصهيوني، وهي اتفاقية غير دستورية، ولم تُعرض على مجلس الأمة وتمثل اعتداء على سيادتنا وقانوننا".
ويرى البرلماني الأردني أنه "يجب إعادة تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك الموقعة في جامعة الدول العربية". وأضاف: "لذلك أنا أدق ناقوس الخطر لمجرد الحديث عنه؛ إذ لا يجوز للأردن أن يدخل أي تحالفات ضد دول عربية أو إسلامية".