“الغلبة لمن يقصف أكثر”.. كيف تصنع المنظومات الصاروخية الحديثة فارقاً في المعركة بأوكرانيا؟

تم النشر: 2022/06/30 الساعة 13:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/30 الساعة 13:23 بتوقيت غرينتش
مدافع هاوتزر القيصر.. فخر الجيش الفرنسي الذي أعطته فرنسا لأوكرانيا/ Getty

تبدو المعركة الروسية شرق أوكرانيا أشبه بمبارزة بالمدفعية، وهي تشبه بشكل كبير معركة واترلو بين دوق ولينغتون آرثر ويلزلي من جهة، ونابليون وجيوشه الغازية من جهة أخرى، حيث مُني الأخير بهزيمة ساحقة أنهت مسيرته بواسطة سلاح المدفعية البريطاني، الذي حصد الآلاف من جنوده.

وترتكز حرب المدفعية المتبادلة بين روسيا وأوكرانيا في إقليم دونباس ومحيطه، في شرق أوكرانيا، ومن المحتمل أن من يفوز بهذه المبارزة المدفعية سيفوز بالحرب، كما يقول الباحث الأمريكي فيليب كاربر، الذي يقود مؤسسة بوتوماك للبحوث، مشيراً إلى أن قذائف المدفعية الروسية مسؤولة الآن عن حوالي 80% من الضحايا الأوكرانيين، وأن الأرقام على الجانب الآخر متشابهة بلا شك، بحسب وصفه.

حرب المدافع في أوكرانيا.. الغلبة لمن يقصف أكثر

تُعلق أوكرانيا الكثير من آمالها للقيام بذلك على الأسلحة والذخيرة المتطورة التي تتلقاها من الداعمين في الغرب. ويتصدر القائمة في الوقت الحالي نظام المدفعية الفرنسي الصنع، المسمى بـ"القيصر"، الذي صنعته شركة Nexter، وهي شركة في فرساي. يمكن أن يقذف سلاح المدفعية هذا بمسافة 40 كيلومتراً، وهو ما يزيد بمقدار 16 كيلومتراً عن طراز الشركة السابق، TRF1.

وحتى الآن، قدمت فرنسا خمسة أو ستة مدافع من أصل اثني عشر مدفعاً من طراز قيصر، ما مكّن الأطقم الأوكرانية من تحطيم أهداف أبعد بنسبة 50% مما كان بإمكانهم رصدها قبل أسابيع قليلة فقط.

ويقول تقرير لمجلة economist البريطانية، إن سر نطاق مدافع قيصر البعيد هو غرفة التفجير، التي تأتي بسعة 23 لتراً، وبالتالي يمكن تعبئتها بحوالي 30 كجم من الوقود الدافع. ولاحتواء انفجار هذا الوقود الدافع تم تصنيع الحجرة من سبيكة فولاذية أقوى مما هو مستخدم في نظام مدفعية TRF1، وهناك حيل أخرى لزيادة مدى قذائف هذا النظام المدفعي.

القيصر وهيمارس وغيرها.. منظومات صواريخ غربية تعتمد عليها أوكرانيا بقوة

في 31 مايو/أيار 2022، أعلنت أمريكا أنها سترسل أنظمة صواريخ موجهة إلى أوكرانيا بالغة الدقة، من طراز هيمارس M142 HIMARS. وتحمل الراجمة الواحدة من منظومة HIMARS ستة صواريخ موجهة من خلال نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، حيث تبلغ دقتها مسافات تصل إلى 70-84 كم، أي حوالي ثلاثة أضعاف مدى مدافع الهاوتزر التي قدمتها أمريكا لكييف حتى الآن.

وتقول التقارير إن ألمانيا وبريطانيا من المحتمل أن تزودا كييف بنسخ أقدم من HIMARS، تحديداً منظومة (M270 (MLRS، الذي يطلق نفس العائلة من الصواريخ.

وسوف يوضع نظام هيمارس على بُعد 80 كيلومتراً خارج نطاق المدفعية الروسية، بينما يعرِّض المدفعية الروسية للخطر. ويمكن للنظام أن يهدِّد مستودعات الإمداد الروسية، في ظل اعتقاد غربي بأن القوات الروسية تعاني من مشكلاتٍ لوجستية. 

وستتلقى أوكرانيا صواريخ أمريكية الصنع من طراز GMLRS أقصر مدى من هيمارس والقيصر، التي تكلف القذيفة الواحدة منها حوالي 160 ألف دولار، وتحمل رأساً حربياً يزن 91 كيلوغراماً، في مركبة متحركة على بعد أكثر من 70 كيلومتراً. 

كما تقدم المدفعية الصاروخية الروسية Smerch وUragan المستخدمة على نطاق واسع في أوكرانيا دقة أقل، ولكن مزيداً من الضربات، حيث تطلق هذه الأنظمة رؤوساً حربية بوزن 280 كغم.

في غضون ذلك، ترسل بريطانيا نظاماً مشابهاً، يدعى MLRS وهي منظومة صواريخ أرض- أرض، إلى أوكرانيا، أمريكية الصنع. وبحسب الإيكونومست سيستغرق تدريب الجنود الأوكرانيين على استخدام هذا النوع من الصواريخ أسابيع فقط. 

قوة نارية مخيفة تُحدِث فارقاً على أرض المعركة

وإذا اجتمعت هذه الأنظمة وبشكل وفير في الجيش الأوكراني، فستكون هذه قوة نارية مخيفة يواجهون بها جيش بوتين، ولكن لكي تكون فعالة يجب أن يتجنب طاقم المدفعية نيران العدو، الذي يعتمد على طائرات مراقبة بدون طيار لتحديد مصادر إطلاق النيران.

ثم هناك مسألة الرادارات المضادة للصواريخ، حيث تعمل هذه الأنظمة المثبتة على الشاحنات على تحديد مكان إطلاق القذائف الواردة من الجانب الأوكراني. وأحد هذه الأنظمة التي تستخدمها روسيا ضد أوكرانيا يدعى Zoopark-1 m الذي يمكنه تحديد أصول عشرات القذائف من عيار 155 ملم القادمة من مسافة تصل إلى 12 كم. لكن الكوبرا، وهو رادار مضاد للصواريخ، وهو أوروبي الصنع زودت به ألمانيا أوكرانيا، يمكنه أن يفعل الشيء نفسه لما يصل إلى 40 قذيفة مدفعية على بعد حوالي 100 كيلومتر.

وسمحت هذه التكنولوجيا للوحدات الروسية بإطلاق النار على مواقع المدفعية الأوكرانية بعد أربع دقائق فقط من إطلاقها رصاصة افتتاحية. ربما لا عجب إذن أن يكون تقنيو المدفعية مهووسين بتقصير الوقت الذي تستغرقه الراجمات في إطلاق الصواريخ.

هذه السرعات التشغيلية أصبحت ممكنة جزئياً بواسطة اللوادر الآلية الهيدروليكية. وخير مثال على ذلك للمدفع الألماني PzH 2000، والذي قالت ألمانيا إنها ترسل منه عشرات القطع إلى أوكرانيا. 

وكان التقدم الآخر هو التحول من المدافع المقطوعة إلى المدافع ذاتية الدفع المثبتة على هيكل بعجلات أو مجنزرة، ومن الأمثلة الجيدة على ذلك نظاما Caesar الفرنسي وPanzerhaubitze 2000 الألماني. وتستغرق المدفعية التي يتم سحبها وقتاً أطول للتحرك، خاصةً على الطرق الوعرة. 

وهناك أنواع أخرى من المنظومات الصاروخية، لا تحتاج إلى الليزر "لرسم" وجهتها. أحدها هو smart 155 الذي أنتجته شركتا Diehl و Rheinmetall الألمانيتان. أثناء النزول إلى منطقة بها أهداف محتملة تقذف الراجمة smart 155 قذيفة، يبلغ وزنها 47 كغم، يحتوي كل منها على أداة لإبقاء الصاروخ عالياً لأطول فترة ممكنة، وجهاز استشعار بالأشعة تحت الحمراء ورادار يقومان معاً بمسح للأهداف المحتملة. 

لماذا لا تستطيع أوكرانيا قلب المعركة على الجيش الروسي بهذه الأسلحة؟

رغم ذلك يزعم الأوكرانيون أن هذه الأسلحة غير كافية، ويتأسف جنرال أوكراني، طلب عدم ذكر اسمه لمجلة "إيكونوميست"، لأن بلاده لا تزال "في وضع الانتظار لهذه الأنظمة الغربية المتطورة". ويوافقه الرأي أندرو ميلبورن، مؤسس مجموعة موزارت، التي تدرب الجنود في أوكرانيا. 

ويعتقد ميلبورن، الذي كان حتى عام 2019 عقيداً في سلاح مشاة البحرية الأمريكية، والذي قاد العمليات الخاصة في الشرق الأوسط، أنه لم يتم إرسال ما يكفي من المدفعية الغربية عالية التقنية لمنح الأوكرانيين ميزة أمام الروس.

ومع ذلك، ربما يتغير ميزان القوى على أي حال، فوفقاً لـMolfar، وهي شركة استخبارات أوكرانية تضم محللين يجمعون بيانات عن طلقات المدفعية الروسية، فإن دقة الضربات المدفعية الروسية آخذة في الانخفاض على نطاق واسع، وبالتالي من المحتمل أن تتضاءل مخزونات روسيا من القذائف الدقيقة.

تحديد الهدف هو صعوبة أخرى، إذ يقول ميلبورن إن أوكرانيا تعاني من نقص بائس في طائرات الاستطلاع بعيدة المدى مثل ScanEagle، وهي منتج لشركة Insitu التابعة لشركة Boeing الأمريكية. ويقول إن هناك حاجة إلى المزيد من هذه الطائرات بدون طيار، لنقل إحداثيات الأهداف الروسية إلى مراكز توجيه النيران الصاروخية، لكن يبدو أن روسيا تكافح أيضاً لجمع بيانات جيدة عن الأهداف الأوكرانية.

ويقول أولجا خميل، أحد محللي الاستخبارات في شركة مولفار، إن روسيا تستخدم الآن قنوات جماعية في تطبيقات المراسلة مثل Telegram لتوجيه مدفعيتها بشكل أفضل. 

ويتظاهر روس بأنهم أوكرانيون على هذه القنوات بالخوف من القصف من أجل الحصول على معلومات حول البنية التحتية التي تعرضت والتي لم تتعرض للقصف. في 24 مايو/أيار، كشفت مولفار عن نهج أكثر مراوغة لمثل هذا التجسس، فقد اكتشفت أن المخابرات الروسية كانت تستخدم ألعاب الهواتف الذكية لحث الشباب على التقاط وتحميل صور ذات علامات جغرافية للبنية التحتية الحيوية والعسكرية والمدنية. في المقابل، يتلقى اللاعبون جوائز افتراضية لا قيمة لها خارج عالم ألعاب الفيديو، وستدمر روسيا بلادهم.

الروس مولعون بسلاح المدفعية

في السياق، يقول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية، إن روسيا قد قررت العودة إلى ممارسة مألوفة في العقيدة الروسية العسكرية لقرون، إنها حروب المدفعية الثقيلة، فعلى النقيض من العقيدة الأمريكية، التي تؤكد على المناورة بالقوات لاختراق صفوف العدو، والتركيز على القوة الجوية مع الاستخدام الدقيق نسبياً للمتفجرات شديدة الانفجار، تؤكد العقيدة الروسية على قوة النيران الجماعية، ولديها أكبر سلاح مدفعية في العالم من حيث العدد، حيث تمتلك 6540 مدفعاً ذاتي الحركة، و4465 مدفعاً ميدانياً، و3860 راجمة صواريخ.

ولأجيال كانت المدفعية الروسية مبدعة من الناحية التكنولوجية ومثيرة للاهتمام من الناحية الفكرية، وذلك منذ أوائل القرن الثامن عشر، عندما طور المارشال الروسي بيتر إيفانوفيتش شوفالوف عدة أشكال تجريبية من المدافع، فيما أصبح إرثاً من الناحية النظرية والفكرية والتطور الإبداعي لاستخدام المدفعية. وحافظ الجيش الإمبراطوري الروسي على تركيزه على التميز التكنولوجي والنظري خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. 

يجادل المؤرخ العسكري أنتوني بيفور بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ينظر لحرب أوكرانيا كأنها امتداد للحرب العالمية الثانية، ولهذا يكرر اتهام الأوكرانيين القوميين بالنازية، فبالنسبة لأنصار بوتين تعني كلمة "نازي" خصم روسيا.

ويشير بيفور إلى استخدام المدفعية الثقيلة والصواريخ كدليل على هيمنة منظور الحرب العالمية الثانية على التفكير الروسي، ويدعي أنهم يكررون أنماط القتال السابقة. 

يقول إنه عندما قصف الجيش الروسي حلب في عام 2016، وغروزني في عام 1999، أظهرت هذه الإجراءات "مدى ضآلة تطور عقيدة الجيش الروسي على عكس ما يحدث للجيوش الغربية، منذ الحرب العالمية الثانية".

لكن السلاح "غير الدقيق" لا يعني بالضرورة أنه "قديم". ولا تعني كلمة "عفى عليها الزمن" بالضرورة أنه "غير سليم عسكرياً"، إذ نجحت روسيا بين عامي 2000 و2016، في استخدام المدفعية كمركز لنهجها التكتيكي والعملياتي في حروب الشيشان، والحرب في سوريا، وحروب 2014 في أوكرانيا. 

خلال هذه الحروب، طوّر المنظرون العسكريون الروس وصقلوا أفكارهم، لكنهم فعلوا ذلك في اتجاه أكثر تركيزاً على المدفعية من الجيوش الغربية.

كما تظهر الحرب الحالية في أوكرانيا أنه يجب على الجيش غير القادر أو غير الراغب في الاستثمار في قوته البشرية أن يعوض ذلك بشيء آخر. كان هذا أحد أسباب تركيز الجيوش القيصرية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على القوة النارية، اتخذ الجيش الروسي اليوم قراراً مشابهاً.

تستخدم العقيدة الروسية نيراناً حاشدة أكثر من الذخائر الدقيقة؛ لأن القذيفة التقليدية رخيصة الثمن، ولا يمكن التشويش عليها، ولكن أيضاً لأن منظري المدفعية يعتقدون أن النيران الجماعية تحمل احتمالاً رياضياً للقتل يمكن من خلاله توقع النجاح التكتيكي إحصائياً، دون رؤية الهدف مطلقاً، يقلل ذلك الحاجة من تكلفة التجسس والاستطلاع التي تركز عليها الجيوش الغربية.

تحميل المزيد