عندما أقلعت طائرة جو بايدن من واشنطن إلى أوروبا في ثاني زيارة له في وقت الحرب، حمل الرئيس معه "أهدافاً" يسعى لتحقيقها خلال قمم مجموعة السبع والناتو، فما هي؟ وما فرص تحقيق تلك الأهداف؟
وصل بايدن إلى ألمانيا حيث حضر قمة مجموعة السبع ومنها توجه إلى إسبانيا لحضور قمة حلف الناتو، والعنوان الأبرز لتلك الزيارة هو كيفية التصدي لروسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، لكنه ليس العنوان الوحيد، فهناك أيضاً كيفية مواجهة الصين، بحسب تحليل لموقع Vox الأمريكي بعنوان "ما يريد بايدن تحقيقه في أوروبا وهل يمكنه تحقيقه".
زيارة بايدن السابقة إلى أوروبا جاءت في الأسبوع الأخير من مارس/آذار الماضي، أي بعد شهر تقريباً من بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، وعقدت خلال تلك الزيارة قمة لمجموعة السبع- الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا واليابان وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي- ثم قمة لأعضاء حلف الناتو، ركزت بشكل كامل على تشديد العقوبات على روسيا وزيادة المساعدات العسكرية لأوكرانيا بهدف إلحاق الهزيمة ببوتين، ودعا بايدن علناً خلال تلك الزيارة للإطاحة بالرئيس الروسي.
رسالة بايدن قبل زيارته الثانية لأوروبا خلال الحرب
لكن زيارة بايدن هذه المرة تأتي في ظروف مغايرة تماماً وهو ما انعكس بشكل لافت في عدد من المؤشرات، ربما يكون أبرزها ما عبر عنه الرئيس الأمريكي نفسه، من خلال مقال كتبه ونشرته مؤخراً صحيفة نيويورك تايمز، حيث أوضح ساكن البيت الأبيض: "ما لن تفعله أمريكا والناتو بشأن الغزو الروسي لأوكرانيا".
وبينما يصف الغرب الحرب الأوكرانية بأنها "غزو روسي غير مبرر"، تصف موسكو تلك الحرب بأنها "عملية عسكرية خاصة"، وبين هذا وذاك تظل الحقيقة الثابتة هي أن الحرب نتجت بالأساس عن أزمة جيوسياسية بين روسيا من جهة وحلف الناتو من جهة أخرى، حيث تتهم روسيا الحلف العسكري الغربي بالتمدد شرقاً بالقرب من حدودها، في مخالفة لما تم الاتفاق عليه عند نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي قبل أكثر من ثلاثة عقود.
وفي مقاله، حدد بايدن بشكل واضح "ما لن تفعله الولايات المتحدة في أوكرانيا على النحو التالي: لن تسعى لتغيير النظام في روسيا وستتجنب تورط الناتو في تلك الحرب بشكل مباشر". وكان لافتاً أن الرئيس الأمريكي ختم مقاله بسؤال هو: ما هي أهداف الناتو والولايات المتحدة الاستراتيجية في أوكرانيا؟
فهل لا يعرف بايدن حقاً أهداف بلاده الاستراتيجية في أوكرانيا؟ قد تبدو الإجابة صادمة، لكن الحقيقة هي أن واشنطن بالفعل لا تمتلك رؤية واضحة بشأن ما يجب أن تفعله في تلك الحرب؛ لأن كثيراً مما يحدث يعتمد على ما تريده أوكرانيا، بحسب دوغلاس لوته، السفير الأمريكي لدى الناتو خلال إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما: "هدفنا النهائي في أوكرانيا لا يزال قيد الصياغة بشكل عام، ونحاول أن نوازن أهدافنا مع ما تريده أوكرانيا وهذا يسبب كثيراً من التعقيدات"، كما قال لموقع Vox.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تمتلك بعد أهدافاً استراتيجية محددة وواضحة في أوكرانيا، إلا أنها تواصل إرسال أسلحة قيمتها بالمليارات، إضافة إلى فرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا، وبعد أربعة أشهر من الحرب، يدفع العالم كله، ومعه أمريكا بطبيعة الحال ثمناً باهظاً لتلك الحرب.
نقطة نظام.. كيف تعامل بايدن مع أزمة أوكرانيا؟
حتى تتضح الصورة أكثر بشأن المأزق الذي يواجهه بايدن خلال زيارته الثانية لأوروبا منذ اندلاع الحرب، من المهم العودة قليلاً للوراء لرؤية الأمور بالطريقة التي رآها بها أكبر رؤساء أمريكا سناً. فالرجل البالغ من العمر 79 عاماً، سيكمل عامه الثمانين في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، يريد أن "تعود أمريكا لقيادة العالم"، وهي العبارة التي لا يمل من تكرارها منذ دخل البيت الأبيض رئيساً في يناير/كانون الثاني 2021.
وهذه النقطة هامة للغاية عند محاولة استقراء ما يريد بايدن تحقيقه خلال هذه الزيارة، ولماذا قد لا تكون إجابة هذا السؤال بدقة موجودة لدى الرئيس نفسه وكبار مسؤوليه. أعاد بايدن بلاده إلى المنظمات والهيئات والاتفاقات الدولية التي كان سلفه دونالد ترامب قد انسحب منها، وسعى إلى طمأنة الحلفاء حول العالم أن واشنطن قد تخلصت من سياسة ترامب الانعزالية.
لكن الانسحاب من أفغانستان، أو بمعنى أدق طريقة الانسحاب الفوضوية وما تزامن معها من العودة السريعة لطالبان إلى حكم البلاد، تسبب في اهتزاز عنيف لصورة الولايات المتحدة كقوة عظمى، أضيف إلى الاهتزاز الذي كانت أحداث اقتحام الكونغرس الأمريكي قد تسببت فيه. لكن قد يكون انفراد إدارة بايدن بقرار الانسحاب وعدم إطلاع حلفائها في الناتو والاتحاد الأوروبي على تفاصيله قد تسبب في شرخ عميق في جدار الثقة بين الحلفاء.
وفي هذه الأجواء، بدأت الأزمة الأوكرانية تطل برأسها من جديد مع استقبال بايدن لنظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في البيت الأبيض والحديث عن مساعي كييف للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، فالأزمة أساساً كانت مشتعلة منذ عام 2014 لكنها كانت في حالة استقرار نسبي خلال رئاسة ترامب وتراجع الحديث عن انضمام كييف للناتو.
ويمكن القول هنا إنه منذ ديسمبر/كانون الأول 2021، رأى بايدن في الأزمة الأوكرانية متنفساً من المأزق الداخلي الذي يواجهه بعد عودة شبح ترامب بقوة من خلال انتخابات ولايات في نوفمبر/تشرين الثاني حقق فيها الجمهوريون انتصارات غير متوقعة وبات بايدن في مرمى نيران الديمقراطيين قبل الجمهوريين.
وفي وسط الانقسامات الحزبية والاجتماعية العنيفة وارتفاع الأسعار وتدني شعبية بايدن، وجد الرئيس في أزمة أوكرانيا الجيوسياسية مع روسيا ضالته، وهذا بالتحديد ما كانت مجلةPolitico الأمريكية قد رصدته في تقرير لها، منتصف مارس/آذار الماضي، بعنوان "رئاسة بايدن لم تكن أبداً محمومة كما هي الآن، لكنه لم يكن أكثر ارتياحاً".
تقرير المجلة رصد أداء بايدن فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، منذ ما قبل بدء الهجوم الروسي، وهو الأداء الذي اتسم بالثقة والوضوح والحسم والقدرة على المناورة، وهو ما أدى إلى ارتفاع ولو طفيفاً في شعبية الرئيس، التي كانت قد وصلت لمستويات قياسية في التدني منذ صيف العام الماضي.
وبهذا الأداء القوي والرؤية الواضحة، توجه بايدن في زيارته الأولى إلى أوروبا حاملاً معه أهدافاً واضحة ومحددة تتمثل في تقوية الصف الغربي وإقناع الأوروبيين بحتمية تعرض بوتين للهزيمة والقضاء تماماً على أية فرصة أمام روسيا لتكرار ذلك "العدوان"، بغض النظر بطبيعة الحال عن كون الدافع من الأساس من إشعال الأزمة هو الهروب من الملفات الداخلية المتأزمة.
ما الذي اختلف في زيارة بايدن هذه المرة؟
مرت ثلاثة شهور جرت خلالها في النهر مياه كثيرة. في الولايات المتحدة، أدى الارتفاع القياسي لأسعار النفط إلى ارتفاعات غير مسبوقة لأسعار مشتقاته ويتحمل المواطن الأمريكي تلك الزيادة، ليس فقط في أسعار البنزين ولكن في أسعار جميع السلع الأساسية، وبلغت مستويات التضخم نسباً لم يعِشها الاقتصاد الأمريكي منذ عقود، اضطر معها الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأمريكي) لرفع أسعار الفائدة بصورة لم تحدث منذ أكثر من أربعين عاماً.
هذا التضخم بات الهم الأوحد لأغلب الأمريكيين وفشلت محاولات بايدن المتكررة لإلقاء اللوم على بوتين وحرب أوكرانيا في وقف نزيف شعبية الرئيس، والتي تدنت إلى مستويات غير مسبوقة، مما يهدد الديمقراطيين بخسارة أغلبيتهم الهشة في الكونغرس لصالح الجمهوريين خلال انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، أي بعد أقل من 5 أشهر فقط.
وإذا كان بايدن يواجه مأزقاً داخلياً ضخماً، فالأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة لكثير من حلفائه. فبوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا، يواجه عاصفة من الفضائح ومطالبات بالاستقالة، والرئيس الفرنسي ماكرون خسر لتوه أغلبيته البرلمانية ويواجه سيناريو يجعل منه "بطة عرجاء"، والمستشار الألماني، أولاف شولتس، يواجه أزمة اقتصادية طاحنة سببها المباشر تقليص روسيا صادرات الغاز لبرلين.
ويواجه العالم أجمع أزمة حادة في الأمن الغذائي، إضافة إلى شبح الركود الذي بات على الأبواب، بخلاف أزمات التغير المناخي والتهديدات النووية من كوريا الشمالية وعدم التوصل لاتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي وغيرها من الأزمات التي تضرب العالم. وفي هذا السياق، تأتي زيارة بايدن الثانية إلى أوروبا وحضوره قمة مجموعة السبع بألمانيا ثم قمة الناتو بإسبانيا، لتغلف الزيارة أجواء أكثر كآبة عن تلك التي صاحبت الزيارة الأولى قبل ثلاثة أشهر فقط، فماذا يحمل بايدن في جعبته من أهداف يريد تحقيقها؟
بايدن يريد تكتلاً غربياً ضد الصين وروسيا!
فيما يتعلق بأوكرانيا، يبدو أن إلحاق هزيمة عسكرية ببوتين هناك قد أصبح أمراً شبه مستحيل، بل تشير تقارير أمريكية متزامنة مع الزيارة إلى أن المسؤولين في إدارة بايدن يتناقشون كيفية إقناع زيلينسكي بالاستعداد لقبول التنازل عن جزء من أراضي بلاده لصالح روسيا كسبيل وحيد لإنهاء الحرب، مما يعني أن الاعتراف بانتصار روسي قد يكون مسألة وقت.
وتفرض الوقائع على الأرض نفسها بطبيعة الحال، فبعد أن كانت إطالة أمد الحرب واستنزاف روسيا هدفاً لبايدن قبل ثلاثة أشهر، أدى التضخم وشبح الركود وأزمات الغذاء الحادة إلى دفع الانقسامات الداخلية في أمريكا لحافة الهاوية، وأغلب دول وشعوب العالم تلقي باللوم على الولايات المتحدة فيما تواجهه من كوارث اقتصادية ومجاعات تتهدد كثيراً من تلك الدول، وبالتالي بات إنهاء الحرب هدفاً لبايدن نفسه ولأغلب حلفائه إن لم يكن أجمعهم.
أما بالنسبة للصين، فقد ذهب بايدن إلى أوروبا هذه المرة عاقداً العزم على توحيد صف الناتو والاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع في مواجهة ما يراه "تهديداً" قد يكون أخطر من روسيا ذاتها، وهي مهمة لا توجد مؤشرات على نجاحه فيها من الأساس، لأسباب كثيرة ترتبط بعلاقات الصين مع تلك الدول من جهة وبعدم قدرة الولايات المتحدة على توحيد المعسكر الغربي كاملاً، خلفها كما كانت الأوضاع خلال الحرب الباردة وما تلاها، حتى بضع سنوات مضت.
فالصين الآن شريك تجاري رئيسي للاتحاد الأوروبي ولأغلب حلفاء الولايات المتحدة حول العالم، بل يمثل الاقتصاد الصيني ركناً هاماً بالنسبة للاقتصاد الأمريكي نفسه ولكبريات الشركات الأمريكية، فكيف يمكن أن يقنع بايدن كل أصحاب المصلحة بمعاداة الصين وقطع التعاملات التجارية معها؟ وحتى اتفاق مجموعة السبع على رصد 600 مليار دولار استثمارات للاقتصادات الناشئة والدول النامية بغرض تقليل اعتمادهم على الصين ليس كافياً لإحداث تغيير حقيقي في المعادلات القائمة، بحسب الخبراء.
الخلاصة هنا هي أن بايدن توجه إلى أوروبا في زيارته الثانية دون أن تكون لديه رؤية واضحة وأهداف محددة يريد تحقيقها، سواء فيما يتعلق بالمشكلة الحالية، أي الحرب في أوكرانيا، أو في المشكلة الأخرى المؤجلة، أي الصين، وهو ما يعني ببساطة أن توحيد الصف الغربي في مواجهة روسيا والصين أمر مستبعد، نظراً لأن أغلب الدول الأعضاء في مجموعة السبع والناتو والاتحاد الأوروبي لم تعد تثق ثقة عمياء في قيادة الولايات المتحدة، وهو ما يبدو أن بايدن لم يستوعبه بعد أو ربما لا يريد أن يستوعبه لرغبة منه في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.