فرض الغرب قائمة لا نهائية من حزم العقوبات على روسيا منذ بداية الهجوم على أوكرانيا بهدف إضعاف الاقتصاد الروسي وإجبار فلاديمير بوتين على الانسحاب، لكن موسكو تمكنت من "التعايش" وتفادي الانهيار، فكيف فعلتها؟
الأزمة الأوكرانية بالأساس صراع جيوسياسي بين روسيا وحلف الناتو، بقيادة الولايات المتحدة، وهو ما يفسّر توحّد العواصم الغربية بصورة غير مسبوقة في رفضها لما تصفه بالغزو الروسي، وسارعت بفرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة، وتزويد أوكرانيا بأطنان من الأسلحة، وفتح باب التطوع للقتال في أوكرانيا، وهو ما لم يكن يتوقعه الرئيس الروسي، بحسب كثير من المحللين.
وبدأ فرض العقوبات الغربية على روسيا منذ أن أعلن الرئيس فلاديمير بوتين، الأحد 21 فبراير/شباط 2022، الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك في إقليم دونباس الأوكراني، وتصاعدت وتيرة تلك العقوبات وحدّتها وشمولها مع بدء الهجوم على أوكرانيا، الخميس 24 فبراير/شباط.
ماذا تريد روسيا تحقيقه؟
بدأت الموجة الأولى من العقوبات الغربية ضد روسيا منذ عام 2014، بعد أن ضمت موسكو شبه جزيرة القرم، ومعها بدأت استراتيجية الكرملين بزعامة بوتين الهادفة إلى تعزيز اعتمادها على نفسها، ورصد تقرير لمجلة POLITICO الأمريكية الثغرات التي تمكن روسيا حالياً من تفادي أثر العقوبات، تحت عنوان "أسرار المهربين: كيف يمكن لروسيا التغلب على عقوبات الاتحاد الأوروبي؟".
وبحسب تقرير المجلة الأمريكية، فإن روسيا، التي لا يبدو أنها قد تأثرت كما كان يأمل الغرب بالعقوبات بعد 4 أشهر من فرضها، سرعان ما ستشتاق إلى البضائع المحظورة الضرورية من أجل جيشها واقتصادها المحلي، بالتزامن مع اشتداد لسعة العقوبات على مدار الأشهر المقبلة. وسيرغب الكرملين في تجديد خزانة حربه أيضاً بإيرادات بيع المنتجات الخاضعة للعقوبات إلى المشترين الراغبين في الخارج، بدايةً من منتجات الفحم والنفط ووصولاً إلى الكافيار.
ما يعني أن موسكو ستنطلق عاجلاً أو آجلاً في رحلة خرق العقوبات. إذ إن روسيا ستحتاج إلى التقنيات والمعدات المصنوعة في الغرب بالتزامن مع تأثير العقوبات على الإمدادات. وتُعَدُّ هذه الأغراض حيويةً في الاستخدامات العسكرية والمدنية على حدٍّ سواء. فضلاً عن ضرورة الحفاظ على صادرات النفط والغاز إلى دولٍ مثل الهند، التي لا تحظر المنتجات الروسية.
إذ قال مسؤولٌ تجاري أوكراني سابق للمجلة الأمريكية: "تحتاج روسيا إلى الرقاقات الإلكترونية، ومكونات أشباه الموصلات، والعديد من المواد الخام الأساسية والضرورية مثل الليثيوم من أجل الاستمرار في تصنيع أنظمة الأسلحة والأدوات الكهربائية اللازمة للاستخدام العسكري. ويُمكن القول إن الصناعة العسكرية الروسية ستُصاب بالشلل فعلياً في غياب هذه الإمدادات المتطورة".
وتعتمد روسيا على الأجزاء الغربية في البنية التحتية للنفط والغاز أيضاً، ما يعني أن الحظر المفروض مؤخراً على تصدير معدات الغاز الطبيعي المسال تحديداً سيُمثّل مشكلةً بالنسبة لموسكو. وقالت ماريا شاغينا، الباحثة الزميلة في International Institute for Strategic Studies: "يعتبر معدل اعتماد روسيا على الأجزاء الغربية مرتفعاً للغاية".
من أين ستحصل روسيا على مرادها؟
من المرجح أن تحاول موسكو استيراد البضائع المحظورة عبر طرق تجارة جديدة، باستخدام أساليب مضنية، لتجنّب التدقيق الغربي أو الالتفاف عليه. وتتنوع قائمة الدول التي يُنظر إليها باعتبارها نقاط ضعف في فرض العقوبات والامتثال لها. وبالتالي سيعثر بوتين على شركاء راغبين في التعاون سواء داخل أوروبا أو خارجها.
وقال مسؤول عقوبات بارز سابق في وزارة الخزانة الأمريكية: "هناك بعض الدول التي أثبتت السوابق التاريخية تواجدها في الصفوف الأمامية لتفادي العقوبات الغربية".
وفي هذا السياق، يأتي دور جيران روسيا في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي يتألف من روسيا، وبيلاروسيا، وكازاخستان، وأرمينيا، وقيرغيزستان. وأفاد مسؤولون سابقون في الاستخبارات الغربية لمجلة POLITICO الأمريكية بأن التجارة العادية في المنطقة تشهد زيادةً شجّعت عليها كازاخستان علناً. لكن زيادة التجارة العادية قد تأتي مصحوبةً بتدفقٍ غير شرعي للبضائع الخاضعة للعقوبات أيضاً.
وكتب كيفن ليمونير، الأستاذ المشارك في المعهد الفرنسي للجغرافيا السياسية: "وصل الروس الذين يعملون في مجال تقنية المعلومات بأعدادٍ كبيرة إلى قيرغيزستان. وبعد تسكعي في حانات بيشكيك، أدركت أن الكثير منهم ليسوا هنا لأسبابٍ سياسية. إذ فرّ بعضهم بمباركة رئيس عمله للتحايل على العقوبات".
وتعتقد ماريا أن "كازاخستان تهتم بشأن سمعتها الدولية" لأنها لا تزال راغبة في جذب الشركات الصينية والغربية. لكن "إذا كانت هناك شركةٌ ما في قيرغيزستان لا تهمها" مسألة المنع من الأسواق الأمريكية بسبب العقوبات الثانوية، فسوف تدخل سوق تجنُّب العقوبات المربح مادياً بسهولة.
الثغرات في الاتحاد الأوروبي
ربما تبحث موسكو عن أخف ضوابط التصدير الموجودة داخل الاتحاد الأوروبي أيضاً. حيث تمتلك كل دولة داخل الكتلة الأوروبية جماركها الوطنية وآلياتها الخاصة في فرض العقوبات، لهذا تُعتبر بعض الدول أكثر تساهلاً من غيرها.
واستشهدت ماريا بإيطاليا على سبيل المثال، حيث رُصِدَت "الكثير من حالات" البضائع المحظورة التي أوشكت أن تُشحن إلى روسيا عقب فرض عقوبات عام 2014. وأردفت: "رست سفنٌ مرتبطة بألمانيا، وإيطاليا، واليونان، وبلغاريا" داخل موانئ القرم الخاضعة للعقوبات أيضاً.
وتُشير السوابق التاريخية إلى أن دول الاتحاد الأوروبي لم تكن صارمة بالدرجة الكافية في التعامل مع التهرب من العقوبات. إذ شحنت شركة Siemens مثلاً توربينات الغاز إلى روسيا عامي 2015 و2016، وانتهى بها المطاف في القرم. وفتح الادعاء تحقيقاً مع بعض موظفي الشركة بحسب التقارير، لكن لم تصدر أي تقارير علنية حول نتائج التحقيق.
وأوضحت آنا فوتيغا، المشرعة الأوروبية التي شغلت منصب وزيرة الخارجية البولندية من قبل: "لم نسمع شيئاً حتى الآن عن أي تداعيات قانونية ترتبت على خرق شركة Siemens للعقوبات".
التهريب عن طريق البحر
يُفترض بالعقوبات أن تؤدي إلى انكماش الأسواق الأوروبية التي تستضيف الصادرات الروسية، فضلاً عن قطع إمدادات المعدات الأجنبية الضرورية عن روسيا. وستحتاج موسكو إلى الاستمرار في تصدير سلعٍ مثل النفط، والفحم، والمعادن، والحبوب من أجل تغذية اقتصاد الحرب وتمويل هجومها على أوكرانيا. ويُحذر الخبراء من أن بوتين يستطيع العثور على أساليب ملتوية للاستمرار في بيع البنزين، أو غيره من السلع الخاضعة للعقوبات مثل الفحم، داخل الاتحاد الأوروبي.
ويُذكر أن دول الاتحاد الأوروبي وافقت في الثالث من يونيو/حزيران على حظر شحنات النفط الروسي إلى الاتحاد الأوروبي بنهاية العام الجاري، ما يعني أن الوقت المتاح أمام روسيا لإعادة تنظيم صادراتها النفطية قد أوشك على النفاد.
وتُوجد حيلةٌ شائعة تعتمد على استخدام عمليات النقل بين السفن، حيث تقوم بموجبها سفينةٌ روسية بإنزال حمولتها النفطية في المياه الدولية إلى ناقلة نفطٍ أخرى، حتى يتسنى للأخيرة أن ترسو في الموانئ الأوروبية وتضع بطاقات تعريفية على النفط باعتباره قادماً من دولة غير خاضعة للعقوبات. بينما تعتمد حيلةٌ أخرى على قيام السفن بإغلاق أجهزة تتبع الموقع من أجل إخفاق أنشطتها. وشهدت هذه الممارسة انتشاراً واسع النطاق بين ناقلات النفط الروسية بعد الهجوم على أوكرانيا، وهي ممارسةٌ قانونية بالمناسبة.
ويستطيع العلماء تحديد منشأ النفط بناءً على التحليل الجيوكيميائي بالطبع، لكن مسؤول العقوبات السابق قال: "إذا تمكنت من مزج الخام وإخفاء المنشأ، فستظهر مشكلة الإنكار المقبول. ولا عجب في التشابه الكبير بين النفط الكازاخستاني والنفط الروسي".
ماذا قد يفعل الاتحاد الأوروبي لسد الثغرات؟
وضع الاتحاد الأوروبي خططه لتحويل كسر العقوبات المفروضة ضد روسيا إلى جريمة يعاقب عليها القانون، حتى يُسهّل على حكومات الاتحاد الأوروبي مصادرة أصول الشركات والأفراد المتهربين من العقوبات.
وتوجد مبادرةٌ حديثة حالياً تحمل عنوان "العملية أوسكار Operation Oscar" للتنسيق بين أنظمة الجمارك في الكتلة الأوروبية. وتهدف المبادرة إلى تنسيق أعمال اليوروبول، والوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس)، ووكالة اليوروجست القضائية. لكن نجاح المبادرة سيعتمد على الجهود المبذولة من سلطات إنفاذ القانون في كل دولة بنهاية المطاف.
ويُشير الخبراء إلى المجر، وبلغاريا، ودول البلقان غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي -مثل صربيا- باعتبارها نقاط ضعفٍ فيما يتعلق بإنفاذ العقوبات.
ورغم الجهود المتجددة لردع التهرب من العقوبات، ستستمر بعض الحكومات والشركات المتواطئة أو الراضية في تزويد بوتين بما يحتاج إليه.
وفي هذا السياق، أظهرت بيانات رسمية أن الهند تقدم شهادات سلامة لعشرات السفن التي تديرها شركة تابعة لمجموعة الشحن الروسية الكبرى سوفكومفلوت، ما يسمح بتصدير النفط إلى الهند وأماكن أخرى بعد أن سحب مقدمو الشهادات الغربيون خدماتهم بسبب العقوبات الغربية ضد موسكو، بحسب رويترز.
وشهادة السجل الهندي للشحن (آي.آر كلاس)، وهي واحدة من أكبر شركات التصنيف في العالم، هي الحلقة الأخيرة في سلسلة الأعمال الورقية، بعد التغطية التأمينية، اللازمة للحفاظ على استمرار عمل أسطول ناقلات شركة سوفكومفلوت المملوكة للدولة وتوصيل النفط الخام الروسي إلى الأسواق الخارجية.
وتُظهر البيانات التي تم جمعها من موقع السجل الهندي للشحن أنها منحت شهادات لما يزيد على 80 سفينة تديرها "إس.سي.إف مانجمنت سرفيسز المحدودة"، وهي كيان مقره دبي مدرج كشركة تابعة على موقع سوفكومفلوت الإلكتروني.
وقال مصدر في قطاع الشحن الهندي، مطلع على عملية منح الشهادات، لرويترز إن معظم سفن سوفكومفلوت انتقلت إلى السجل الهندي للشحن عبر ذراع الشركة في دبي. وتفيد الشهادات بأن السفن آمنة وصالحة للإبحار، وهو أمر ضروري لضمان التأمين ودخول الموانئ.
لكن موسكو ستظل مضطرةً لدفع أموال طائلة في حال استمر استيرادها للبضائع المحظورة، وذلك من أجل العثور على سُبل مناسبة للالتفاف على العقوبات. ويقول فرانسيسكو غيميلي، خبير العقوبات في جامعة خرونينغن الهولندية، إن الدول التي تُسهّل التدفق التجاري لروسيا "تعرف طريقة إدارة أعمالها جيداً. وستضع سعراً باهظاً لمساعدتها"، بحسب تقرير مجلة POLITICO.