أجرت البحرية الأمريكية مؤخراً أول اختبار في الماء لغواصتها المسيّرة والكبيرة "أوركا" (Orca)؛ مما يمثل خطوة كبيرة نحو مستقبل الحرب البحرية والحرب النووية، في الوقت الذي تتسابق فيه الدول الكبرى مثل روسيا والصين مع أمريكا لجعل الغواصات المسيرة لديها علامة فارقة في تطوير القدرات الحربية تحت سطح البحر.
أضخم غواصة مسيّرة تحت سطح البحر
خلال السنوات الأخيرة، نشطت أمريكا وروسيا والصين ودول أخرى في تصنيع وتطوير الغواصات المسيرة التي يمكنها العمل تحت الماء بدون قيادة بشرية، وذلك لجمع البيانات والرصد وإزالة الألغام البحرية وغيرها من المهام البسيطة.
لكن وجود غواصة مسيرة لها حجم هائل (50 طناً)، وقدرة حمولة صافية، واستقلالية مدفوعة بالذكاء الاصطناعي، هو ما يجعل غواصة مثل Orca الأمريكية مغيّراً لقواعد اللعبة.
في فبراير/شباط 2019، منحت البحرية الأمريكية عقوداً تبلغ قيمتها 274 مليون دولار لشركة "بوينج" لبناء 5 غواصات من طراز "أوركا" المسيرة، لتكون قادرة على العمل بشكل مستقل في مهام تصل مدتها إلى 3 أشهر.
وتتميز الغواصة الأمريكية المسيرة بشكل أساسي بضخامة الحجم بالنسبة للغواصات المسيرة؛ حيث يصل إجمالي طولها إلى 85 قدماً (26 متراً)، وبسعة لنقل الحمولة تصل إلى 8 أطنان، وبسرعة قصوى تصل إلى 8 عقدة (15 كم/ ساعة)؛ مما يمنح الغواصة المسيرة مدى يصل إلى 6500 ميل بحري (10.500 كم) مع قدرة على التحمل لعدة أشهر، حيث ستعمل بنظام هجين، الديزل والكهرباء.
وكان معهد الأبحاث البحرية الحربي الأمريكي قد أشار حينها إلى أن غواصة Orca ستكون قادرة المراقبة والقتال المغمور والسطحي والإلكتروني، وعلى تدمير الألغام البحرية، وتدمير الغواصات والسفن المعادية، كما ستجهز بمعدات خاصة للحرب الإلكترونية، فضلاً عن أنها ستكون قادرة على اكتشاف الغواصات ونقل البيانات التي تتعلق بها إلى الطائرات والسفن الحربية، وستسلح بطوربيدات من نوع Mk46 و Mk48.
ومن المرجح أن تؤثر هذه الغواصة عند دخولها في الخدمة على الحرب البحرية وتعيد تشكيلها، كما يقول تقرير لمجلة national interest الأمريكية.
وقد تبدو سمات هذه الروبوتات تحت الماء تكتيكية في البداية، لكن لديها القدرة على إعادة توجيه المعادلات الاستراتيجية عبر المحيطات. فيمكن أن تصبح هذه الغواصات مفيدة للغاية في سد نقاط الاختناق البحرية، أو إعاقة الاقتصاد البحري لبلد معين، أو فرض حصار بحري على غرار أزمة الصواريخ الكوبية. ويمكن أيضاً استخدام هذه الغواصات المسيرة لنشر ألغام Hammerhead المتقدمة للغاية في مياه العدو دون تعريض حياة أحد من جنود البحرية للخطر، الذين تكلف تدريباتهم الجيش الكثير.
الغواصات المسيرة قد تغير قواعد الحرب النووية
تعرف الغواصات بأنها العنصر الأكثر أهمية في الردع النووي بين الدول الكبرى، لأنها تسمح للدول المسلحة نووياً بالرد الفوري من البحر، إذا تعرضت لهجوم نووي أو تم تدمير جميع رؤوسها الحربية النووية الأرضية. وقد يكون من المُغري لبعض البلدان تسليح غواصات مسيرة تحت الماء مثل غواصة Orca برؤوس نووية في المستقبل.
تخيل معرفة أن الضربة النووية غير واردة لأن الغواصات المستقلة ذات القدرات النووية قد تكون كامنة في أقرب محيط، مما يقلل بشكل كبير من زمن الاستجابة الانتقامية. بالتالي فإن وجود غواصات مسيرة، سيكون فكرة جذابة بشكل خاص بالنسبة للبلدان التي تتعرض لتهديد وجودي مستمر؛ لأنها من الناحية النظرية، توفر طبقة إضافية من خيار الضربة الثانية "المضمونة".
ومع ذلك، فإن بعض القيود التقنية قد لا تجعل فكرة الغواصات النووية ذاتية التشغيل تتحول إلى حقيقة واقعة؛ إذ تقول المجلة الأمريكية، إن مجرد فكرة وجود غواصة روبوتية تعتمد على الذكاء الاصطناعي تتمتع بسلطة تقديرية لتحديد موعد إطلاق "َضربة مضمونة" هي فكرة مرعبة.
ويقول خبراء عسكريون إن فكرة استخدام الغواصات المسيرة في النزاعات النووية هي أمر غير سهل، ويجب ألا يترك هذا الأمر رهين نزوة إحدى منصات الذكاء الاصطناعي.
علاوة على ذلك، يتم تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي على مخابئ ضخمة لبيانات الحياة الواقعية ذات الصلة بالمجال الذي يتم تدريبهم عليه، والبيانات الفعلية للنزاع النووي غير موجودة عملياً. وبناءً على هذه المقدمات، يمكن القول بدرجة عالية من اليقين إنه لا يوجد فاعل دولي عاقل يمكنه الجمع بين منصة ذاتية القيادة تماماً مع رؤوس حربية نووية.
أحد العناصر الحاسمة لقدرة الضربة الثانية الآمنة هو التحذير المبكر من الصواريخ النووية القادمة ومنصات الإطلاق التي يتم توصيلها للرد. ومع ذلك، فإن الاتصال بسفينة مغمورة يعد أحد أكثر الجوانب صعوبة في الحرب تحت الماء. وميزة التخفي للغواصة قابلة للتطبيق فقط إذا كانت تحت الماء حيث تزداد احتمالية الكشف والاعتراض عندما تكون أقرب إلى السطح. ويتم التعامل مع هذا اللغز في الاتصال مع الحفاظ على التخفي إلى حد ما باستخدام التردد المنخفض للغاية من 3 هرتز إلى 30 هرتز.
ومع ذلك، في حالة الغواصات المسيرة التي تحمل أسلحة نووية، لا يمكن للمرء أبداً التأكد مما إذا كانت الرسالة المرسلة قد تم استلامها في الوقت المناسب وبالطريقة المقصودة؛ لذا فإن المخاطر والتكلفة، إذا ساءت الأمور، ستكون ببساطة عالية جداً بالنسبة للدولة.
سباق القوى الكبرى على الغواصات المسيرة
وصلت وسائل إعلام أمريكية إلى استنتاج مفاده أن روسيا ستدخل الغواصات النووية المسيرة إلى ترسانة أسلحتها قبل أي دولة أخرى. ويقول تقرير سابق لمجلة "فوربس" الأمريكية إن روسيا تستثمر بالفعل في إنشاء مفاعلات نووية آلية للغواصات المسيرة، مثل غواصة "بوسيدون" المسيرة مع محطة للطاقة النووية ورأس حربي.
وهكذا يمكن لروسيا أن تجمع بين مولدات ذرية وتكنولوجيا الغواصات المسيرة لإنشاء أول غواصة نووية في العالم وهي غواصة مزودة بمحطة نووية، بحسب المجلة الأمريكية.
ويتحدث التقرير أن فكرة عدم وجود طاقم يوفر مساحة أكثر للاستخدام وتقليل الحاجة إلى الكهرباء، لأنه كما يقول الخبراء، يذهب أكثر من 30% من الطاقة الكهربائية للغواصة للحفاظ على نظام دعم الحياة وإضاءة وتخزين الأغذية المجمدة، لكن هذا ليس لازماً للغواصة المسيرة.
وفي عام 2020، كشفت تقارير أجنبية، أن بكين نشرت أسطولاً من الغواصات الصينية المسيرة، صغيرة الحجم، تحت الماء في المحيط الهندي، لجمع البيانات وغيرها من المهمات. هذه الغواصات تدعى Sea Wing هي نوع من المركبات غير المأهولة التي تعمل تحت الماء (UUV) والتي يمكن أن تبحر لشهور متتالية، وهي من تصميم وتطوير وإنتاج معهد Shenyang للأتمتة التابع للأكاديمية الصينية للعلوم (CAS).
تتحرك Sea Wing للأمام في الماء، بمساعدة جناحيها وذيلها، من خلال الغوص المتكرر ثم الصعود مرة أخرى. وهي تقوم بهذه المناورات باستخدام نظام داخلي، وهو في الأساس بالون يتمدد وينكمش عندما يتحرك الزيت المضغوط داخل وخارج؛ مما يغير من قابليته للطفو. ويعتقد خبراء أن الصين استفادات من التصميمات الأمريكية للغواصات المسيرة، لصناعة غواصات Sea Wing.
في السياق، تمتلك كل من بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا غواصات مسيرة لأغراض استخباراتية وبحثية ولكسح الألغام البحرية وغيرها من المهام، فيما يستعد لاعبون آخرون لدخول هذا المجال، مثل تركيا، التي حظيت خلال وقت قصير بسمعة جيدة في صناعة الطائرات المسيرة خلال السنوات الأخيرة، وتقول إنها قادرة على المنافسة في سوق صناعة الغواصات المسيرة متعددة المهام.