"نحن جبهة الدفاع الأولى عن أوروبا"، هكذا يفضل الأوكرانيون، خاصة رئيسهم فولوديمير زيلينسكي، تقديم أنفسهم، فهم يؤكدون أن حرب أوكرانيا بمثابة تمهيد لغزو روسي واسع لأوروبا، ولكن هل لدى موسكو فعلاً مخططات تستهدف بقية أوروبا، وهل يريد الروس العودة لحدود الإمبراطورية القيصرية؟
بينما يصور الأوكرانيون الغزو الروسي لبلادهم بأنه بداية لحرب مستقبلية ضد أوروبا، أو على الأقل أوروبا الشرقية والوسطى، يبرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حربه بأنها الوسيلة الوحيدة لمنع ما يعتبره تهديداً من قِبل الناتو لموسكو، عبر احتمال ضمّ الحلف لكييف، إضافة إلى سعي موسكو لحماية الأقليات الروسية في أوكرانيا.
ولكن بعيداً عن دعاية بوتين وزيلينسكي، فإن الحرب الروسية الأوكرانية لا يجب أن تُفهم في سياق أنها محاولة إعادة بناء الإمبراطورية الروسية، بل على العكس فإنها إحدى الحروب الناتجة عن انهيار الاتحاد السوفييتي، حسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
فإذا كانت الإمبراطوريات تنشأ عبر الحروب فإن انهيارها يتسبب كذلك في وقوع حروب قد تكون أصغر، ولكنها غالباً ما تكون أطول في المدة، وتشهد عنفاً أوسع بين المدنيين، نتيجة اختلاف تطلعات الشعوب التي ورثت هذه الإمبراطوريات، وهذا ما ينطبق على حرب أوكرانيا.
حرب أوكرانيا جزء من سلسلة طويلة من الحروب
ويشيع وصف الاتحاد السوفييتي في الغرب بـ"الإمبراطورية السوفييتية"، أو حتى "الإمبراطورية الروسية"، وقد كان الاتحاد السوفييتي إمبراطورية بالفعل من عدة جوانب.
فخلال الحرب الباردة احتلت موسكو وسيطرت على مجموعة من الدول في محيطها، وتاريخ توسع روسيا بالغزو والاستعمار واضح وضوح الشمس.
ولكن ما يتم تجاهله في الغرب، سواء في الصحافة أو في الأوساط الأكاديمية أنه إذا كان الاتحاد السوفييتي إمبراطورية منهارة، فإنه يجب فهم الحروب في فضاء الاتحاد السوفييتي سابقاً، في سياق الحروب التي تحدث عندما تسقط الإمبراطوريات.
تقول المجلة الأمريكية إنه رغم الحرب الوحشية الدائرة في أوكرانيا والقمع الوحشي المماثل للثورة الشيشانية، لم تكن النزاعات والحروب التي أعقبت الانهيار السوفييتي هي الأسوأ في تاريخ الإمبراطوريات، وحتى الإمبراطوريات الحديثة نسبياً.
ففي كل حالة من حالات انهيار الإمبراطوريات دون استثناء، اشتعلت أعمال عنف واسعة النطاق. وفي بعض الحالات اشتعل هذا العنف أثناء وبعد انهيار الإمبراطورية مباشرة. وفي حالات أخرى، اشتعل بعد مرور عدة عقود على انهيارها. ففي أيرلندا، والشرق الأوسط، وجنوب آسيا، وأوروبا الشرقية، والبلقان، لا تزال تبعات انهيار إمبراطورية هابسبورغ والإمبراطورية العثمانية والبريطانية- وطبيعة تفكك كل منها- تفصح عن نفسها حتى اليوم.
لماذا يؤدي انهيار الإمبراطوريات إلى اندلاع الحروب؟
ومن المعروف أن الإمبراطوريات تُسهم في تجميد النزاعات أو تولدها وتحتضنها. وهذا لأن الحكم الإمبراطوري يعلق النزاعات السابقة أحياناً، كما في حالة الهندوس والمسلمين في الهند البريطانية أو الأرمن والأذريين إبان خضوعهم لروسيا القيصرية والسوفييتية. وأحياناً يكون منشأ الصراع أن هذه الإمبراطوريات شكلت دولاً جديدة تماماً أو دولاً بحدود جديدة- مثل العراق في الشرق الأوسط- تجمع بين أعراق مختلفة لم يحكمها نظام واحد من قبل، أو تقسم شعباً بين دول متجاورة، أو تجبر أعداء قدامى على العيش تحت سماء واحدة، كما في يوغوسلافيا سابقاً والعديد من الدول الإفريقية. وهذا لا يؤدي إلى حروب أهلية فحسب، بل يؤدي أحياناً إلى حروب بين الدول التي تخلُفها- كما هو الحال في كشمير ويوغوسلافيا سابقاً وأوكرانيا- إذ تتقاتل هذه الدول لإعادة ترسيم الحدود وفقاً لما تراه مشروعاً لعرقها وديانتها.
وينشأ الاستياء المرير أحياناً عن الهجرة الجماعية التي تطلقها التنمية الاقتصادية الإمبريالية أو الاستعمار الذي يحركه هدف معين: هجرة الإنجليز والاسكتلنديين إلى أيرلندا، والصينيين إلى جزر الهند الشرقية، والهنود إلى فيجي وجزر الهند الغربية، والتاميل، إلى ما يعرف الآن بسريلانكا، والجورجيين إلى أبخازيا والروس إلى جمهوريات البلطيق وأجزاء من أوكرانيا. ولم تخلُ هذه الهجرات من التوترات الخطيرة في أي مكان.
وأفضل ما قد نتوقعه حدوث ترتيبات رسمية أو غير رسمية مثل تلك الموجودة في ماليزيا ودول البلطيق، حيث يحتكر السكان الأصليون السيطرة على الحكومة وقوات الأمن، بينما يسيطر أحفاد المهاجرين الصينيين والروس على معظم الاقتصاد أو جزء منه. أما أسوأ التبعات فتتمثل في المذابح المروعة مثل قتل الصينيين الذي صاحب الانقلاب الإندونيسي عام 1965 أو التوترات العنيفة مثل الحرب الجورجية الأبخازية بين عامي 1992 و1993 التي بدأت بمذابح للأبخاز على يد الجورجيين، وانتهت بالتطهير العرقي لمعظم السكان الجورجيين على أيدي الأبخاز المنتصرين.
كيف أدت نظرية حق تقرير المصير إلى سلسلة من المذابح؟
ولا يقدم القانون الدولي ولا الديمقراطية حلولاً واضحة لأي من هذه الخلافات، وكانت نظرية تقرير المصير العرقي باسم الديمقراطية، التي تبناها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون نهاية الحرب العالمية الأولى، هي ما قدمت أساساً ليبرالياً ظاهرياً للفصل العنيف والتطهير العرقي في وسط وشرق وجنوب شرق أوروبا. وفي مناطق مثل كوسوفو ومرتفعات قره باغ حينما طرد الأرمن الأذربيجانيين، وكذلك شبه جزيرة القرم خلال أزمة 2014.
وغالباً ما تناقض مبادئ القانون الدولي والديمقراطية نفسها، ونتيجة لذلك تنتقى هذه الدول منها ما يخدم مصلحتها الخاصة.
وديمقراطية الأغلبية يُعرف بأنه مبدأ خطير في المجتمعات المنقسمة عرقياً ذات الولاءات الوطنية المختلفة، مثلما يتجلى بوضوح في تاريخ أيرلندا الشمالية من عشرينيات إلى تسعينيات القرن الماضي.
وأخيراً، لا يبدو معقولاً أن نتوقع أن يلتزم السكان المحليون وزعماؤهم بالقوانين الدولية التي لم يضعوها أو يوافقوا عليها يوماً.
فحين انهارت الإمبراطوريتان البريطانية والعثمانية وإمبراطورية هابسبورغ والإمبراطورية السوفييتية وتفككت يوغوسلافيا، كان من الطبيعي جداً أن تسعى الشعوب التي كانت تحكمها هذه الإمبراطوريات إلى تحقيق ما تراه أحلاماً قومية شرعية بالاستقلال أو الاندماج مع الأعراق التي ينتمون إليها في دولة مجاورة أو كليهما.
وهكذا حدثت أعداد هائلة من النزاعات جراء طموحات شعوب وطوائف مثل الكاثوليك الأيرلنديين الشماليين والأكراد، وألمان منطقة السوديت التشيكية، وألبان كوسوفو، ومسلمي كشمير والبنغال، ومسيحيي منطقة البيافران النيجيرية، والصرب، والكروات، والبوسنيين، والبشتون في باكستان وأفغانستان، والشيشانيون، وسكان أوسيتيا الجنوبية، وأرمن قره باغ وروس القرم.
وفي بعض الأحيان، كما هو الحال في أيرلندا وجنوب آسيا والسودان، كانت النتيجة (بعد الكثير من العنف) تقسيماً معترفاً به دولياً. وفي حالات كثيرة، تم التوصل إلى تسوية بمزيج من البراغماتية والقوة المتفوقة.
على أن ثمة اختلافاً واحداً كبيراً بين تداعيات انهيار الإمبراطوريات البحرية والبرية، فبإمكان القوى البحرية أن تعود إلى ديارها البعيدة بمئات أو آلاف الأميال من المياه، وتفصل نفسها عن الصراعات التي تركتها وراءها (وإن كان ذلك لا يحدث في كثير من الأحيان إلا بعد حروب استقلال مروعة، كما هو الحال في الهند الصينية، والجزائر، وكينيا).
ولكن في الإمبراطوريات البرية السابقة، تظل الدولة الاستعمارية القديمة قائمة على حدود مستعمرات إمبراطوريتها السابقة، وغالباً ما يعيش سكانها عبر تلك الحدود.
وتنطبق هذه الحالة على تركيا، التي تضم أعداداً ضخمة من الأكراد يتفاعلون مع الأقليات الكردية في سوريا والعراق وإيران، ولدى بعضهم تطلعات قومية. وواجهت ألمانيا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، بسبب الإمبراطورية الألمانية التي ورثتها ومتاخمتها للعديد من أراضي الإمبراطورية النمساوية السابقة هذه المشكلة في الاتجاه المعاكس، وهي أن أقليات ألمانية عرقية تعيش في الدول المجاورة كانت ترغب في إعادة التوحد مع ألمانيا. وعانت بلدان الاتحاد السوفييتي السابق المشكلتين ذاتهما.
هل تريد روسيا غزو أوروبا؟
"لا شيء من هذا يبرر الغزو الروسي لأوكرانيا، مثلما لا يبرر ما ارتكبته الدول الإمبريالية والدول التي أعقبت انهيار الإمبراطوريات من فظائع، لكنه في الواقع يشير إلى أن الحروب الروسية في أوكرانيا والقوقاز ليست جزءاً من خطة روسية شاملة للعدوان على الغرب".
فالحرب الروسية في أوكرانيا هدفها أوكرانيا دون غيرها، حسب المجلة الأمريكية.
كما أنه لا يجب تناسي أن الغرب شجّع القوميين الأوكرانيين المتركزين في غربي البلاد، وبصورة أقل في الوسط، على تجاهل المصالح السياسية للأوكرانيين المتحدثين بالروسية في جنوب وشرق البلاد، كما ظهر واضحاً في إسقاط الرئيس المنتخب فيكتور يانكوفيتش الموالي لروسيا عام 2014، وهو الأمر الذي أدى إلى احتجاجات في معاقله في شرق وجنوب روسيا.
والمفارقة أن استغلال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لهذه الاحتجاجات لضم القرم وتأسيس جمهوريتين انفصاليتين في دونباس عام 2014، كان السبب في تحول كثير من الأوكرانيين المتحدثين بالروسية، بعيداً عن موسكو، بعدما كانوا يرونها الشقيق السلافي الأكبر.
ومع ذلك، واصلت كييف إجراءاتها التمييزية ضد اللغة الروسية التي تتحدث بها نسبة كبيرة من الأوكرانيين، وسط تجاهل غربي لهذا البعد في الصراع، بل أحياناً تشجيعها على التمادي، علماً أن مراعاة توجهات الأوكرانيين المتحدثين بالروسية، ولاسيما في شرق وجنوب البلاد، ومراعاة حساسية موسكو تجاه توسع النفوذ الغربي في أوكرانيا كان من شأنه أن يمنع أزمة 2014، التي بدورها أفضت إلى الأزمة الحالية.
إن فهم الإطار العام لظاهرة انحلال الإمبراطوريات، بما في ذلك السياق العام لما يحدث بين روسيا وأوكرانيا، مهم للبحث عن حل عملي لهذه الحرب، دون خشية أن يدفع ذلك روسيا لتهديد الناتو والاتحاد الأوروبي.
وقد يستثنى من ذلك دول البلطيق، ليس فقط لأن موسكو تعتبر أنها كانت جزءاً من الإمبراطورية الروسية منذ عقود، كما أنها توجد بها أقليات روسية كبيرة، ولكن أيضاً لأن هذه الدولة تتمادى على صغر حجمها في استفزاز موسكو مستندة لعضويتها في الناتو، كما فعلت مؤخراً من خلال اتخاذ بعض الإجراءات العدوانية المتهورة ضد روسيا (على سبيل المثال، قطع الاتصالات عن المدينة الروسية المعزولة كالينينغراد).
وعلى عكس كثير مما يتداوله الإعلام الغربي، لم تظهر أدلة قوية على أي نوايا روسية ملموسة لغزو دول البلطيق، ناهيك عن فنلندا أو بولندا، حسب مجلة Foreign Policy.
وقال مسؤول روسي يوماً: "حكمنا بولندا لما يقرب من 200 عام، وكل ما جلبته لنا مشكلات لا تنتهي. فلماذا بحق السماء قد نرغب في العودة إليها من جديد؟".
وهكذا، من منظور المصالح الغربية الحيوية، لم يعد ضرورياً السعي دون توقف إلى تعطيل روسيا، حسب المجلة الأمريكية.
وترى المجلة أنه من الضروري البحث عن تسوية في أوكرانيا من منطلق الواقعية الأخلاقية، بهدف تحقيق سلام دائم يضمن استقلال أوكرانيا ومسار انضمامها المحتمل إلى الاتحاد الأوروبي، عوضاً عن النزعة القانونية المفرطة والأخلاقية المفرطة التي يصعب معها كثيراً تحقيق السلام.
وفي بعض الحالات الأخرى التي ذكرت لدول أعقبت انهيار الإمبراطوريات، نادراً ما كان النصر المطلق ممكناً لطرف أو آخر، ولو حدث فلا يكون إلا بعد حرب طويلة ومعاناة هائلة. وفي معظم الحالات التي تحقق فيها شكل من أشكال السلام، مهما كان ناقصاً، كان من خلال شكل من أشكال التسوية البراغماتية. وهذا هو أفضل ما يمكن العمل من أجله في حالة روسيا وأوكرانيا.
وتختم المجلة الأمريكية تقريرها بالقول إنه "من مفارقات الليبراليين الغربيين المعاصرين أنهم حتى حين يبدون علناً ندمهم وأسفهم على خطايا الاستعمار الغربي في الماضي، يواصلون ادعاء التفوق الأخلاقي على البلدان الأخرى التي ورثت بعض المشكلات نفسها وارتكبت بعض هذه الخطايا نفسها. وسلوك كهذا ليس أخلاقياً ولا مفيداً عملياً".