نزاعات بريطانيا الخارجية تحولت إلى محور سياسات رئيس الوزراء بوريس جونسون، بشكل جعل منتقديه يرونه أنه يستغلها لإبعاد النظر عن فضائحه الداخلية، ويخشون أن ينتهي الأمر بأن تصبح بريطانيا منبوذة دولياً.
فلقد أمضى رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، وحكومته معظم هذا الأسبوع في منازعة الاتحاد الأوروبي بشأن الاتفاق مع أيرلندا، ومجادلة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، والعمل في الوقت نفسه على التهوين من شأن الاتهامات بأن حكومته تنتهك القانون الدولي، والزعم بأن أفعاله مرجعها رغبات ناخبيه وقاعدة المؤيدين لحزبه.
يريد أن يسن قانوناً يشرع التراجع عن اتفاقه مع الاتحاد الأوروبي بشأن أيرلندا
وكشفت وزيرة الخارجية في حكومة جونسون، ليز تروس، يوم الإثنين 13 يونيو/حزيران، عن مشروع قانون لتعديل بعض بنود "بروتوكول أيرلندا الشمالية" الذي أقرته بريطانيا في اتفاقها مع الاتحاد الأوروبي عند الخروج منه.
والمفترض أنه في حال أقر البرلمان البريطاني هذا التعديل، فإن الحكومة يصبح من المسموح لها بأن تتراجع عن بنود من الاتفاق الموقَّع مع الاتحاد الأوروبي، دون شرط الحصول على موافقة الاتحاد.
ردَّ الاتحاد الأوروبي بعد يومين بإعلانه الشروع في اتخاذ إجراءات قانونية ضد بريطانيا لامتناعها عن تنفيذ بنود معينة من البروتوكول حتى الآن. وقال ماروش شيفوفيتش، نائب رئيس المفوضية الأوروبية، إنه "لا يوجد أي مسوغ قانوني أو سياسي يُجيز تغيير اتفاقية دولية من جانب واحد.. دعونا ننعت الأشياء بأوصافها الحقيقية: هذا أمر مخالف للقانون".
أصرَّ مسؤولون في الحكومة البريطانية إصراراً محمَّلاً بالغضب على أن مشروع القانون، في حال إقراره، سيكون قانونياً بلا شائبة شك. وظهرت سويلا برافرمان، المدعية العامة، للدفاع عن التشريع المقترح على شاشة التلفزيون، ووصفته بأنه قانوني.
يريد وضع قانون يجيز مخالفة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بعدما أوقفت ترحيل اللاجئين
جاء يوم الثلاثاء 14 يونيو/حزيران، فدخلت حكومة جونسون في جدال مع مؤسسة أوروبية أخرى، هي "المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان" (ECHR)، بعد أن أصدرت المحكمة حكماً أجبر الحكومة على إيقاف رحلة كانت مقررة لنقل طالبي لجوء إلى رواندا.
كانت الحكومة البريطانية أعلنت في أبريل/نيسان عن اتفاق مع رواندا يتضمن السماح بإعادة توطين طالبي اللجوء القادمين إلى بريطانيا ومنحهم حق اللجوء في رواندا. لكن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين حذَّرت بريطانيا من أن هذه السياسة قد تنطوي على انتهاك للقانون الدولي، لأنها تعرض هؤلاء اللاجئين لانتهاك حقوقهم الإنسانية في رواندا.
وانتقدت كثير من منظمات حقوق الإنسان خطة الحكومة، بل نجح بعضها في استخراج طعون قانونية على عمليات ترحيل أفراد معينين، إلا أنها لم تنجح في إصدار أمر قضائي بإيقاف الرحلة المقررة إلى رواندا. بيد أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تدخلت مساء الثلاثاء 14 يونيو/حزيران، وحكمت بأن بعض طالبي اللجوء على متن الطائرة لم يستنفدوا الخيارات القانونية المتاحة لهم في بريطانيا، فاضطرت الحكومة إلى تأجيل الرحلة.
أصرَّت الحكومة البريطانية مرة أخرى على أن خطتها لنقل طالبي اللجوء إلى رواندا قانونية. وقال دومينيك راب، نائب رئيس الوزراء، إنه يجب على بريطانيا أن تقر قوانين جديدة تسمح للحكومة البريطانية بتجاهل الأحكام التي تصدرها المحكمة الأوروبية.
هكذا أدت خلافاته السابقة مع الاتحاد الأوروبي لزيادة شعبيته
إذا نظرنا في التاريخ القريب، يتضح لنا أن إقبال جونسون على التنازع مع المؤسسات الدولية الكبرى ليس بالأمر الذي يتعذر فهمه أو يُستبعد وقوعه، حسبما ورد في تقرير لشبكة CNN International الأمريكية.
فقد سبق أن دخل كل من جونسون، وسلفه تيريزا ماي في مشادات، مع القضاء والاتحاد الأوروبي خلال المفاوضات المريرة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ويزعم بعض الناس أن هذه الصولات والجولات هي التي أعطت جونسون دفعة بين جمهور مؤيديه لمهاجمة المؤسسات الدولية التي يصفها بأنها نخبوية وتقطع الطريق على إرادة الشعب.
وها هو الآن يعاني من فضائح داخلية
من جهة أخرى، يرى بعض المتابعين أن هذا التصعيد من الحكومة في نزاعها مع المؤسسات الدولية إنما هو محاولة من جونسون لصرف الأنظار عن الفضائح التي تطارده، وما تشهده البلاد من تراجع عام في معدلات تأييده، علاوة على اقتراع حزبه لسحب الثقة منه.
اضطر جونسون مؤخراً إلى القتال داخل حزبه لمقاومة التصويت على إقالته من منصب زعيم الحزب، وآلت الأمور إلى استقالة مستشاره لشؤون السلوك الوزاري، اللورد كريستوفر غيدت، بعد أن قال إن حكومة جونسون أوقعته في "موقف عصيب وبغيض".
لذا فإن تأجيج الحكومة البريطانية لصراعاتها مع "نخب" الاتحاد الأوروبي حول قضايا الخروج من الاتحاد ومشكلات الهجرة، هو خير ما يحتاجه جونسون الآن لحشد مؤيديه الذين أخذوا في الانصراف عنه، وأيسر سبيل يتصدى به لخصومه.
هل يسير على خطى دونالد ترامب؟
ومع ذلك، فإن النزاعات التي تدخلها حكومة جونسون لها تداعيات على صورة بريطانيا في الخارج. وقد نقلت شبكة CNN الأمريكية عن عدة مصادر دبلوماسية غربية قولهم إن تصرفات حكومة جونسون ألقت بظلال قاتمة على صورة بريطانيا ومكانتها لديهم.
وقال مسؤول غربي بارز ممن عملوا عن قرب مع الحكومة فيما يتعلق بأزمة أوكرانيا، إن حلفاء بريطانيا بات يهيمن عليهم شعور عام بالقلق من التضارب في مواقف جونسون، وصعوبة توقع تصرفاته. وقال دبلوماسي غربي عن ذلك: "إنه ليس دونالد ترامب، لكن تصرفاته يتعذر التنبؤ بها على نحوٍ يجعل من السهل على حلفاء بريطانيا مشابهته بدونالد ترامب".
وأشار دبلوماسي أوروبي لشبكة CNN، إلى أن "الضرر الذي لحق [بالعلاقات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي] كبير. فقد تزعزعت الثقة". واستشهد الدبلوماسي بالخلاف حول بروتوكول أيرلندا الشمالية، قائلاً: "من جانبنا، كنا نعلم أن هناك حلولاً لتسوية الخلاف بشأن البروتوكول. لكن تلك الحلول تعتمد على الثقة. أما الآن، فكيف نثق بأنه لن يعود عن أي اتفاق جديد في المستقبل؟".
وزعم الدبلوماسي الغربي أن كثيراً من المسؤولين الغربيين استبشروا بموقف بريطانيا في بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، وظن بعضهم أن جونسون في سبيل التحول إلى زعيم "متزن ويمكن التنبؤ بتصرفاته"، على حد تعبير الدبلوماسي. لكن ذلك الاستبشار سرعان ما تلاشى وحل محلَّه الاستياء بعد أن شبَّه جونسون كفاح أوكرانيا من أجل الحرية بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ومخاوف من أن نزاعات بريطانيا الخارجية قد تتسبب في نبذها
وتتباين آراء المنتمين إلى حزب المحافظين، الذي يتزعمه جونسون، حول مدى سوء الأمور في الآونة الأخيرة. إذ يتخوف بعضهم من أن فضائح جونسون وتصريحاته العدائية أخذت تجعل بريطانيا دولة منبوذة. وحذَّر آخرون من أن تحايل دولة مثل بريطانيا على القانون الدولي والتعامل معه بتهاون، إنما هي سابقة مروعة قد تحاكيها دول أخرى، لا سيما في وقت تتعرض فيه الديمقراطية للتهديد في كثير من مناطق العالم.
على خلاف ذلك، يرى بعض نواب البرلمان من المحافظين أن معارضي جونسون منشغلون بأمور لا يهتم بها الناس العاديون. ويقولون إن بريطانيا دولة من دول مجموعة السبع وعضو في الناتو وصاحبة مقعد دائم بمجلس الأمن، ومن ثم لا يُعقل أن تكون على وشك التخلي عن حلفائها.
مع ذلك، يمكن التهوين من شأن تصرفات جونسون والاختلاف النظري بشأنها إذا كنت نائباً في البرلمان أو مسؤولاً في الحكومة. لكن الواقع يشهد بأن قرارات جونسون ونزاعاته لها تداعيات جسيمة على حياة الناس العاديين، وهم لا يرون أن هذه الأمور تحتمل اللهو أو الاستخفاف بها، لا سيما أن بريطانيا تمر حالياً بأزمة ارتفاع في الأسعار لم تشهد البلاد مثيلاً لها منذ عقود.
يتعين على جونسون أن ينتظر إلى الانتخابات العامة القادمة لمعرفة إن كان رهانه على النزاع مع الاتحاد الأوروبي واستثارة قضايا الهجرة قد آتى أكله بين الجمهور أم لا، وذلك إن لم يُزَح عن منصبه قبل موعد الانتخابات. ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن ينكر أن هناك كثيرين يرونه مناضلاً قاتل من أجل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ويستمر الآن في الدفاع عنها أمام خصومها الذين يسعون إلى القضاء عليها.
لكن تقرير الشبكة الأمريكية يقول إن الذي لا شك فيه أن في بريطانيا عدداً هائلاً من الناس ممن يرون أن الأجدر بجونسون أن ينصرف عن منازعة الاتحاد الأوروبي ومجادلة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وأن يصب اهتمامه وتركيزه على النظر فيما تحتاجه البلاد من تدابير لتحسين معيشتهم ومواجهة أزمتهم.