قصفت روسيا وحاصرت وسيطرت على إمكانات إنتاج الحبوب في أوكرانيا، التي تمثل عُشر صادرات القمح العالمية؛ وتعثرت خطوط الإمداد من الموانئ الأوكرانية، مما أدى إلى تنبؤات مرعبة بزيادة الجوع وارتفاع أسعار المواد الغذائية في جميع أنحاء العالم. وتحذر الولايات المتحدة الآن من أنَّ "الكرملين يحاول الاستفادة من هذا النهب، من خلال بيع القمح المسروق إلى البلدان المنكوبة بالجفاف في إفريقيا، التي يواجه بعضها مجاعة محتملة". فما مصير هذه الصادرات؟
الحبوب الأوكرانية.. روسيا تبحث عن مشترين
في منتصف مايو/أيار المنصرم، أرسلت الولايات المتحدة تنبيهاً إلى 14 دولة، معظمها في إفريقيا، بأنَّ سفن الشحن الروسية كانت تغادر الموانئ القريبة من أوكرانيا محملة بما وصفته برقية وزارة الخارجية الأمريكية بأنها "حبوب أوكرانية مسروقة". وحدّدت البرقية بالاسم ثلاث سفن شحن روسية اشتبهت في أنها تنقل هذه الحبوب.
وتقول صحيفة The New York Times الأمريكية، إن التحذير الأمريكي بشأن الحبوب الأوكرانية أدى إلى تفاقم معضلة البلدان الإفريقية، حيث يشعر الكثيرون بالفعل بأنهم محاصرون بين الشرق والغرب، ومن المحتمل أن يواجهوا خياراً صعباً بين الاستفادة من جرائم الحرب المحتملة وإغضاب حليف غربي قوي، من ناحية. ومن ناحية أخرى، رفض الطعام الرخيص في وقت ترتفع فيه أسعار القمح ويتضور مئات الآلاف من الناس جوعاً.
واشنطن تتهم موسكو بسرقة 500 ألف طن من الحبوب الأوكرانية
وعزّز الإنذار الذي دقته واشنطن اتهامات الحكومة الأوكرانية بأنَّ روسيا سرقت ما يصل إلى 500 ألف طن من القمح الأوكراني، بقيمة 100 مليون دولار، منذ الهجوم الروسي في فبراير/شباط. ويقول مسؤولون أوكرانيون إنَّ الكثير منها نُقِل بالشاحنات إلى موانئ في شبه جزيرة القرم التي تسيطر عليها روسيا، ثم نُقِلَت إلى سفن، بما في ذلك بعض السفن التي تخضع لعقوبات غربية.
والتقى رئيس السنغال ماكي سال، الذي يتولى رئاسة الاتحاد الإفريقي، في روسيا بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ في محاولة لتأمين إمدادات الحبوب من البلاد.
وقال منتقدون إنَّ الرحلة، التي أشار خلالها سال إلى "صديقه العزيز فلاديمير"، أسهمت بدور مباشر في مصلحة بوتين من خلال تقديمه أداة أخرى للاستفادة من الانقسامات في الرد الدولي على هجومه الوحشي على أوكرانيا.
وتورد روسيا وأوكرانيا عادةً نحو 40% من احتياجات القمح في إفريقيا، حيث ارتفعت أسعار الحبوب بنسبة 23% العام الماضي، حسبما تقول الأمم المتحدة. وفي منطقة القرن الإفريقي، تسبب الجفاف المدمر في جوع 17 مليون شخص، معظمهم في أجزاء من الصومال وإثيوبيا وكينيا، وفقاً للأمم المتحدة. وأكثر من 200000 شخص في الصومال على شفا المجاعة.
قال حسن خانينجي، مدير معهد HORN الدولي للدراسات الاستراتيجية، في كينيا، إنه في مواجهة هذه الحاجة الملحة، من المستبعد أن تتردد العديد من الدول الإفريقية قبل شراء الحبوب التي تقدمها روسيا، بغض النظر عن مصدرها. وأضاف خانيجي: "إنَّ الحاجة إلى الطعام شديدة للغاية؛ لذا فهي ليست شيئاً يحتاجون إلى مناقشته".
بين مطرقة الجوع وسندان شراء "الحبوب المنهوبة"
يقول مسؤولون أوكرانيون إنَّ حل مشكلة الغذاء في إفريقيا هو زيادة الضغط العالمي لإنهاء الحرب، وليس شراء الحبوب المنهوبة. وقال تاراس فيسوتسكي، نائب وزير الزراعة الأوكراني، إنَّ هناك "إجابة بسيطة عن ذلك وهي: أوقفوا القتال".
ويتهم فيسوتسكي ووزراء أوكرانيون آخرون روسيا منذ شهور بسرقة الحبوب من الأراضي التي تحتلها في جنوب البلاد التي تعتبر سلة خبز الدولة، التي وصفها أحدهم بأنها "سرقة صريحة". وقد أُخِذ الكثير منها من الأجزاء المحتلة في مناطق زاباروجيا وخيرسون ودونيتسك ولوهانسك، كما يقولون.
وظهرت التقارير الأولى عن نهب الحبوب في منتصف مارس/آذار. ومنذ ذلك الحين، تفاخر المعلقون في محطات التلفزيون الحكومية الروسية علانية بمصادرة هذه الحبوب، قائلين إنَّ روسيا تعتزم الاستمرار فيها.
ووفقاً لمسؤولين أوكرانيين، ينتهي المطاف بمعظم الحبوب المنهوبة في موانئ مثل سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم، التي سيطرت عليها روسيا منذ عام 2014.
أين ذهبت صادرات الحبوب الأوكرانية التي سيطرت عليها روسيا؟
في الشهر الماضي، سافرت السفن الروسية الثلاث التي حددتها برقية وزارة الخارجية الأمريكية على أنها ناقلات مشتبه بها في نقل حبوب أوكرانية مسروقة- وهي: ماتروس كوشكا، وماتروس بوزينيتش وميخائيل نيناشيف- بين مضيق كيرتش، الذي يقسم القرم وروسيا، وموانئ مختلفة في شرق البحر المتوسط.
ووفقاً للمواقع الإلكترونية التي تتعقب حركة المرور البحرية، رست هذه السفن أحياناً في تركيا أو سوريا؛ وفي أوقات أخرى، أوقفت تشغيل أجهزة الإرسال والاستقبال الخاصة بها أثناء عبور البحر المتوسط، ربما لإخفاء وجهتها النهائية.
وأكد مسؤولان أمريكيان محتويات البرقية، التي أُرسِلَت في 16 مايو/أيار إلى 14 دولة، معظمها في شمال وشرق إفريقيا، بالإضافة إلى باكستان وبنغلاديش وسريلانكا.
وقال مسؤول أمريكي إنَّ تحديد مصدر شحنة الحبوب ليس بالأمر السهل، لكن قد يكون أحد المؤشرات على ما إذا كانت روسيا تبيعها بخصم كبير.
وفي رسالة بالبريد الإلكتروني، رفض متحدث باسم وزارة الخارجية التعليق على محتويات البرقية، لكنه أشار إلى التقارير الأوكرانية عن سرقة الحبوب بالجملة، بالإضافة إلى "شهادات عديدة من مزارعين أوكرانيين وأدلة وثائقية تظهر سرقة روسيا للحبوب الأوكرانية". وقال المتحدث: "تعمل الولايات المتحدة مع دول أخرى لمنع بيع الحبوب التي من المحتمل أن تكون مسروقة من أوكرانيا".
وتقول صحيفة نيويورك تايمز إن تركيا تقع في محور جهود تعقب الحبوب الأوكرانية المسروقة لأنَّ السفن الروسية التي تغادر شبه جزيرة القرم تمر عادة عبر المياه التركية. ودعا سفير أوكرانيا لدى تركيا، يوم الجمعة 3 يونيو/حزيران، السلطات إلى التحقيق في مصدر الحبوب التي تنقلها روسيا.
20 مليون طن تنتظر تصديرها
يُذكر أن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، زار تركيا في إطار زيارة عمل يومي 7 و8 يونيو/حزيران الجاري، والتقى نظيره التركي تشاووش أوغلو، وبحثا مسائل عدة من بينها فتح ممر تجاري آمن عبر موانئ البحر الأسود يشمل مرور الحبوب.
علاوة على ذلك، منع حصار بحري روسي أوكرانيا من تصدير القمح الذي ما زالت تملكه. يقول المسؤولون الأوكرانيون إنَّ نحو 20 مليون طن من الحبوب تنتظر تصديرها في ميناء أوديسا الذي تسيطر عليه أوكرانيا.
وقدّم مجلس الأمن القومي الأمريكي خريطة، بعد رفع السرية عنها، تُظهِر مجموعات من السفن الحربية الروسية في البحر الأسود جنوب أوديسا تمنع سفن الشحن الأوكرانية من المغادرة.
طوال الأزمة الأوكرانية، شعرت العديد من الدول الإفريقية بأنها تُعامَل على أنها ثانوية، وبأنها عالقة بين القوى الأجنبية المنخرطة في جولة جديدة من التنافس على غرار الحرب الباردة. خلال عطلة نهاية الأسبوع، رفض العديد منها مناقشة التحذير الأمريكي بشأن الحبوب الأوكرانية المسروقة.
ونفى ماتشاريا كاماو، السكرتير الأول في وزارة الخارجية الكينية، تلقي بلاده أية رسالة في هذا الشأن. وكتب يقول: "لماذا يحتاجون إلى تحذيرنا من الأساس؟ لماذا قد يشتري أي شخص شيئاً منهوباً؟ هذا يبدو وكأنها حيلة دعائية". وقالت ميندي كاسيغا، المتحدثة باسم وزارة الخارجية التنزانية، إنَّ موقف بلادها "كان دوماً محايداً".
ويُرجِّح المحلل خانينجي أنَّ أي ضغط غربي بشأن الحبوب التي توفرها روسيا على معظم دول إفريقيا سيأتي بنتائج عكسية، ما لم يقدم الغرب وسيلة لسد النقص في القمح. وقال: "إذا كان الغرب قادراً على توفير بدائل، فستستمع الدول إلى ذلك. لكن إذا تعاملت بهستيريا في هذا الأمر، فلن يؤدي إلا إلى دفع هذه الدول أكثر إلى أحضان روسيا".