عادت مأساة التطهير العرقي الذي تعرّض له سكان مدينة تل رفعت السورية والمناطق المجاورة لها على أيدي القوات الكردية إلى الأضواء، في ظل مطالبات النازحين منهم في تركيا بالعودة إلى ديارهم.
وتعد عملية سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على مدينة تل رفعت، ذات الأغلبية العربية، عام 2016، نموذجاً فجاً للتعاون بين روسيا ونظام الأسد والمقاتلين الأكراد والميليشيات الشيعية الحليفة لإيران، في تنفيذ عمليات تطهير عرقي بحق العرب السنة، الذين يشكلون أغلبية في سوريا، في عملية تبدو مشابهة بشكل لافت لعمليات الطرد والتطهير العرقي التي نفذتها إسرائيل في فلسطين في نكبة 1948.
ومنذ عام 2016 تخضع منطقة "تل رفعت"، التابعة لمحافظة حلب، لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وهي القوات التي أسسها الأعضاء السوريون لحزب العمال الكردستاني، المصنف إرهابياً في تركيا وكل الدول الغربية، حسب تقارير مؤسسات غربية بحثية متخصصة.
ومؤخراً تظاهر سكان مدينة تل رفعت السورية، الذين هُجروا قسراً من أراضيهم ولجأوا قبل سنوات إلى تركيا، مطالبين بالعودة إلى أراضيهم، في وقت أعلنت فيه تركيا عزمها توسيع المنطقة الآمنة التي أسسها المقاتلون السوريون المتحالفون معها (يعرف باسم الجيش الوطني السوري)، وتوسيع برنامج إعادة اللاجئين السوريين إلى شمال البلاد.
ومازال التعاون بين النظام السوري والمقاتلين الأكراد قائماً، تشهد المنطقة توتراً، حيث نفذت القوات الروسية طلعات استطلاعية فوق منطقة "تل رفعت"، بريف محافظة حلب، فيما نشرت موسكو منظومة دفاع جوي في القامشلي، الخاضعتين لسيطرة ما يُعرف بـ"قوات سوريا الديمقراطية".
قصة مدينة تل رفعت التي هزمت داعش
كانت مدينة تل رفعت واحدة من أهم معاقل الثورة في شمال سوريا في بدايتها، وأسهم ثوارها في تحرير مدينة حلب من قوات النظام.
ولكن مع ظهور داعش بدأت الموازين تتغير في شمالي سوريا، حيث استهدف التنظيم في البداية الثوار السوريين، ولكن المدينة قاومت داعش، وهزمته، إلا أنها تعرضت للغدر من قبل حلفائها.
إذ تختلف قصة سيطرة ما يعرف بوحدات حماية الشعب الكردية على مدينة تل رفعت عن طريقة سيطرتهم على أغلب المناطق السورية الأخرى.
فبينما استولى الأكراد على معظم المناطق التي يسيطرون عليها في شمالي سوريا، عبر طرد داعش منها بدعم أمريكي، ثم ممارسة سلسلة من جرائم التطهير العرقي بحق سكانها العرب والتركمان، كما حدث في عام 2015، حيث اتهمت منظمة العفو الدولية وحدات مسلحة كردية في شمالي سوريا بهدم قرى عربية وتركمانية وتدمير منازل سكانها، وهي أفعال تقول إنها ترقى إلى جرائم حرب، حسب المنظمة.
ولكن الأمر كان مختلفاً في تل رفعت، فسكان المدينة العرب السنة وثوارها نجحوا في هزيمة داعش، ولكنهم تعرضوا لخديعة من الأكراد، الذين كانوا حتى ذلك الوقت حلفاءهم في الحرب ضد داعش.
فبعد أن تحالفت قوات المعارضة السورية، في تل رفعت، مع المقاتلين الأكراد لهزيمة داعش، انقلب المقاتلون الأكراد على قوات المعارضة، وتحالفوا فجأة مع النظام الروسي وقوات الأسد والميليشيات الإيرانية.
هجوم كردي روسي إيراني منسق
في فبراير/شباط 2016، شنّ الطيران الحربي التابع لروسيا والأسد هجوماً دموياً على المدينة والمناطق التابعة لها، متسبباً في تدمير مناطق واسعة وأهداف طبية، حسب منظمة العفو الدولية، وشكّل هذا الهجوم الجوي غطاءً لسيطرة الأكراد على المدينة.
وقال الدكتور "فرج" (تم حجب اسمه الحقيقي لأسباب أمنية)، الذي يدير المستشفى الميداني ومركز إعادة التأهيل وغسيل الكلى، لمنظمة العفو الدولية: بدأ الأكراد في السيطرة على بعض القرى في الجزء الشمالي من ريف حلب، في بداية فبراير/شباط 2016، وكانوا يتقدمون باتجاه تل رفعت، مع اقترابهم استهدفت القوات الروسية والسورية منشآت طبية، ونتيجة لذلك نُقل المدنيون المصابون من القصف العشوائي إلى الحدود السورية- التركية، لأن المستشفيات لم تعد تعمل.
وفي منتصف فبراير/شباط من عام 2016، دخلت وحدات حماية الشعب الكردية مدينة تل رفعت، ومطار منغ العسكري، وبعض القرى المحيطة بها، تحت غطاء جوي روسي، بينما كانت قوات المعارضة بالمدينة تحاول صد هجوم كبير شنته القوات الحكومية السورية، المدعومة من القوات الجوية الروسية والميليشيات المدعومة من إيران.
ثم طرد مقاتلو وحدات حماية الشعب الكردية العرب والتركمان من منازلهم وأحرقوا وثائقهم الشخصية، حسبما قال أحد اللاجئين لموقع "McClatchy" الأمريكي في ذلك الوقت.
وأردف قائلاً: "لقد أجبرونا على الخروج من قريتنا، وقالوا لنا هذه هي روج آفا". وروج آفا هو الاسم الذي يستخدمه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي للأراضي التي يطالب بها في شمالي سوريا، لتكون بمثابة دويلة كردية.
وكان هذا الهجوم جزءاً من عملية تطهير عرقي ممنهجة، ارتُكبت بحق العرب، في الجزء الأوسط من الشمال السوري تحديداً، حيث نفذت القوات الكردية العديد من الجرائم، بما في ذلك إحراق وتجريف منازل، ومصادرة ممتلكات وآلات زراعية"، حسبما نقل Middle East Monitor، عن هدى العلي، الباحثة في الشبكة السورية لحقوق الإنسان في ذلك الوقت.
حصلت الباحثة على هذه المعلومات من خلال مقابلة العائلات والشهود في المناطق والمحافظات المتضررة، وقالت إن القوات الكردية برّرت عملياتها بالانتقام من العائلات التي يُزعم أن أبنائها انضموا إلى داعش. وأضافت أن "كل عربي بات متهماً" بالتعاون "مع داعش".
وتفيد بعض التقديرات أن قوات سوريا الديمقراطية أجبرت ما يقرب من 250 ألف مدني على الهجرة أثناء احتلالها منطقة تل رفعت وحدها، وقد نزحوا إلى المناطق القريبة من الحدود التركية.
ويقول بشير أليتو، أحد سكان مدينة تل رفعت، الذي لجأ إلى تركيا: "فرّ اللاجئون من أكثر من 50 بلدة في المنطقة، خلال عشرة أيام فقط، بسبب القصف الجوي الروسي، والسيطرة المفاجئة لقوات سوريا الديمقراطية على المنطقة.
وأضاف أن المدنيين بالكاد كانوا ينقذون أرواحهم، مضطرين إلى ترك ديارهم وكافة ممتلكاتهم بسبب هجمات التنظيم الكردي، خلال سيطرته على تل رفعت، عام 2016، كما تحولت المنازل كافةً في تل رفعت إلى أنقاض غير صالحة للاستخدام، بسبب القصف الجوي وهجمات القوات الكردية، فاضطررنا نحن المدنيين للنزوح إلى المناطق المحاذية للحدود مع تركيا.
بينما نفى الأكراد أغلب هذه التقارير.
كانت هذه المعركة مقدمة لهزيمة الثوار في المنطقة، التي تعد أكبر انتكاسة فردية لهم في الحرب الأهلية السورية، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye.
ووقف المجتمع الدولي صامتاً أمام عملية التطهير العرقي للعرب والتركمان في شمالي سوريا، والتي بدأت في تل أبيض عام 2015، حسب اتهامات المعارضة السورية في ذلك الوقت، حيث أبدت فصائلها في ذلك الوقت استغرابها من موقف الأكراد، الذين يفترض أنهم شركاء في العقيدة وفي النضال ضد النظام.
بعض السكان حاولوا العودة، فمنعتهم القوات الكردية
ومنذ 6 سنوات يواصل النازحون من سكان تل رفعت العيش في خيام بدائية نصبوها بإمكانياتهم المتواضعة، في مناطق قرب الحدود التركية مثل أعزاز وما حولها.
حاول بعض سكان المدينة العودة إلى مدينتهم بعد أشهر من سيطرة الوحدات الكردية عليها، لكن حواجز الميليشيات الكردية رفضت إدخالهم، وقالت إن تل رفعت منطقة عسكرية لا يُسمَح للمدنيين بدخولها.
وتستخدم تل رفعت أحياناً من قِبل القوات الكردية منطلقاً لتنفيذ هجمات على المناطق الآمنة التي شكّلتها تركيا بالعمليات العسكرية التي نفذتها في سوريا.
تركيا تقول إن أمريكا وروسيا لم تُنفّذا ما اتُّفق عليه
تقول تركيا إن المنطقة تمثل خطراً على أمنها، وإن واشنطن وموسكو لم تنفذا تعهداتهما التي جرى الاتفاق عليها مع أنقرة.
كانت تركيا قد أطلقت، في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2019، عملية عسكرية سمّتها "نبع السلام" بشمالي سوريا، قالت إنها تستهدف حماية حدودها من قوات سوريا الديمقراطية.
وفي محاولة لإنهاء الأزمة بعد أن قوبل التحرك العسكري التركي بانتقاد غربي، زار تركيا في ذلك الوقت نائب الرئيس الأمريكي "مايك بنس"، وتعهّد بسحب القوات الكردية الحليفة لواشنطن مسافة 20 ميلاً (32 كيلومتراً) جنوباً.
كما تعهّدت روسيا، خلال العملية، بسحب عناصر التنظيم من مدينتي منبج وتل رفعت السوريتين، وسحب التنظيم 30 كيلومتراً من الحدود السورية التركية.
لكن هذه التعهدات الأمريكية الروسية لم تُنفذ بالرغم من مرور عامين ونصف العام عليها، وفقاً لما يقوله الجانب التركي.
وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في كلمة أمام الكتلة البرلمانية لحزبه "العدالة والتنمية" مؤخراً، إن تركيا بصدد الانتقال إلى مرحلة جديدة بشأن قرارها إنشاء منطقة آمنة على عمق 30 كيلومتراً شمالي سوريا، وتطهير منطقتي تل رفعت ومنبج من الإرهابيين.
لماذا يحرص الأكراد على السيطرة على تل رفعت رغم أغلبيتها العربية؟
لمنطقة تل رفعت أهمية خاصة، جعلت الروس والأكراد والنظام السوري حريصين على عدم بقائها في يد المعارضة السورية، وبالأخص الأكراد، الذين أصروا على السيطرة عليها رغم أغلبيتها العربية الواضحة.
إذ عبر هذه المدينة تحاول القوات الكردية توحيد مدينة عفرين ذات الأغلبية الكردية، التي استولت عليها وحدات حماية الشعب في عام 2012، بعد انسحاب قوات النظام منها، ومنطقة روجافا الكردية المتمتعة بالحكم الذاتي في شرقي سوريا، بهدف تشكيل كيان كردي انفصالي في سوريا، حسبما ورد في تقرير لموقع لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى الأمريكي.
وقد يكون موقع تل رفعت، الوسيط بين المنطقتين، وراء عمليات التطهير العرقي التي جرت بحق السكان العرب بالمدينة، والتي قد تكون من بين أسوأ عمليات التطهير التي نفذها الأكراد في سوريا.
ومنذ ذلك الوقت، بقيت تل رفعت ومنغ تحت سيطرة الوحدات الكردية، وبحماية روسية شبه رسمية، وحاولت تركيا وقوات المعارضة السورية الحليفة لها استعادتها، ولكن هناك ما يشبه تواطؤاً أمريكياً روسياً على منع ذلك.
فالغرب أصبح مندفعاً بلا رويّة لدعم الأكراد، بدعوى أنهم حلفاؤه ضد داعش، متناسياً أن كل قوى المنطقة حاربت داعش بدءاً من المعارضة السورية، مروراً بالحشد الشعبي والحرس الثوري والجيشين الروسي والتركي، وصولاً لنظام الأسد والجيش اللبناني.
كما يتم التركيز في الغرب على الجانب اليساري لدى الإدارة الكردية بدعوى أنهم مناضلون من أجل حقوق الأكراد، متجاهلين أن أن المنطقة الخاضعة للأكراد ذات أغلبية عربية، ويحكم الأكراد المنحدرون من حزب العمال الكردستاني المنطقة رغم أنف الأغلبية العربية، وبدون موافقة جزء كبير من السكان الأكراد غير الموالين لهم، حسب تقارير أعدها مختصون في مراكز أبحاث غربية مثل مركز كارنيغي الأمريكي.
وباتت الإدارة الكردية الذاتية أقرب لنظام أبارتهايد "التفرقة العنصرية" السابق في جنوب إفريقيا أو إسرائيل، حالياً، ورغم ذلك فإن التأييد الغربي لأكراد سوريا في الغرب أصبح لاعقلانياً بطريقة تفوق أحياناً تأييد الغرب لإسرائيل، ويتسم هذا التبني للرواية الكردية، بالرفض لأي رؤية مخالفة، مع تجاهل تام لمأساة عرب شمال سوريا، رغم تقارير العديد من المؤسسات الغربية البحثية المتخصصة التي تؤكد علاقة أكراد سوريا بحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً في تركيا والغرب، وممارسة القوى الكردية السورية للتمييز والهيمنة على الأغلبية العربية في المنطقة.
أما روسيا، فترى في سيطرة المقاتلين الأكراد على المنطقة ذات الأغلبية العربية السنية أداة لتقوية نفوذها وحماية حليفها نظام الأسد، باعتبار أن العرب السنة هم الحاضنة الأساسية للمعارضة، وكذلك وسيلة مساومة مع تركيا.
وفي الوقت ذاته ليس لدى نظام الأسد مشكلة كبيرة في بقاء تل رفعت في يد الأكراد، فمشكلة النظام الأساسية هي مع المعارضة السورية، والعرب السنة، وليس لديه حساسية مماثلة مع الأكراد، حيث كان في حالة تنسيق دائمة منذ بداية الثورة معهم، لأن نظام الأسد الذي تسيطر عليه مجموعة تنتمي للطائفة العلوية ينظر للأكراد باعتبارهم أقلية إثنية تمثل حليفاً طبيعياً للأقلية العلوية في مواجهة الأغلبية العربية السنية في البلاد.