وجَّه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحذيراً بأنه سيقصف "أهدافاً لم نبدأ في قصفها بعد"، إذا سلمت أمريكا لأوكرانيا صواريخ بعيدة المدى، فأين تقع تلك الأهداف الجديدة؟ داخل أوكرانيا أم خارجها؟
تحذير بوتين، أو بمعنى أكثر دقة تهديده، تزامن مع مرور 100 يوم على بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي يصفه الرئيس الروسي بأنه "عملية عسكرية هدفها منع عسكرة أوكرانيا"، بينما تصف أوكرانيا والغرب ذلك بأنه عدوان روسي هدفه الغزو الشامل للأراضي الأوكرانية وإسقاط الحكومة، وتنصيب حكومة مطيعة لموسكو.
ماذا قال بوتين في "رسالته" لأمريكا؟
وجََّه بوتين تحذيره "الغامض" إلى الولايات المتحدة خلال مقابلة بثها التلفزيون الرسمي الروسي، الأحد 5 يونيو/حزيران الجاري، مهدداً بأن روسيا ستقصف أهدافاً جديدة إذا زود الغرب أوكرانيا بصواريخ ذات مدى أطول لاستخدامها في أنظمة الصواريخ المتنقلة عالية الدقة.
والحديث عن الصواريخ طويلة المدى مصدره واشنطن ويرجع إلى أسابيع مضت، من خلال تقارير إعلامية أمريكية نقلاً عن مسؤولين في إدارة الرئيس جو بايدن، رغم أن بايدن نفسه خرج قبل أيام، نافياً نية إدارته تزويد كييف بأسلحة بعيدة المدى يمكنها أن تصيب أهدافاً داخل الأراضي الروسية.
ومنذ اللحظة الأولى لبداية الهجوم الروسي على أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط الماضي، استبعدت الولايات المتحدة إرسال قوات أمريكية أو من حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى أوكرانيا، لكن واشنطن وحلفاءها الأوروبيين زودوا كييف بأسلحة مثل الطائرات المسيرة ومدفعية هاوتزر الثقيلة وصواريخ ستينغر المضادة للطائرات وصواريخ جافلين المضادة للدبابات. وقال بايدن، الأسبوع الماضي، إن واشنطن ستزود أوكرانيا بأنظمة صواريخ هيمارس بعد أن تلقى تأكيدات من كييف بأنها لن تُستخدم لاستهداف روسيا.
وتعليقاً على ذلك، قال بوتين إن شحنات الأسلحة (التي يتحدث عنها بايدن) "ليست جديدة" ولم تغير شيئاً، لكن الرئيس الروسي حذّر من أنه سيكون هناك رد إذا قدمت الولايات المتحدة قذائف بعيدة المدى لأنظمة هيمارس التي يصل أقصى مدى لها إلى 300 كيلومتر أو أكثر، بحسب تقرير لـ"رويترز".
وقال بوتين في مقابلة مع محطة روسيا-1 التلفزيونية الرسمية، إنه في حال تقديم مثل هذه الصواريخ "سنقصف تلك الأهداف التي لم نبدأ في ضربها بعد"، وأضاف أن نطاق أنظمة هيمارس التي تصنّعها شركة لوكهيد مارتن، يعتمد على القذائف التي يتم تزويدها بها، وأن المدى الذي أعلنته الولايات المتحدة كان تقريباً مثل أنظمة الصواريخ السوفييتية الصنع التي تمتلكها أوكرانيا بالفعل.
ويرى بوتين بالتالي أن "هذا ليس بجديد. إنه لا يغير أي شيء بشكل أساسي". وأضاف أن هذه الأسلحة حلت فقط محل الأسلحة التي دمرتها روسيا.
ماذا يقصد بوتين بـ"الأهداف الجديدة"؟
تهديد بوتين جاء "غامضاً"، إذ لم يحدد الأهداف التي تعتزم روسيا قصفها، رغم تقليله مما وصفها بـ"الضجة" المتعلقة بتزويد أوكرانيا بأسلحة غربية، مضيفاً أن الهدف الوحيد من تلك الأسلحة والضجة المثارة بشأنها هو إطالة أمد الصراع.
والأزمة الأوكرانية هي أزمة جيوسياسية في طبيعتها، وفي جوهرها هي صراع بين روسيا والولايات المتحدة، ولهذا يصف بوتين "العملية العسكرية التي تشنها بلاده على أوكرانيا" بأنها نقطة تحول في التاريخ الروسي وتمرد موسكو ضد الولايات المتحدة التي يقول إنها أذلت روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفبيتي عام 1991.
ويرى كثير من المحللين أن بوتين قد سقط في "فخ" غربي يستهدف الأمريكيين منه استنزاف قدرات روسيا، على غرار ما واجهه الاتحاد السوفييتي في أفغانستان قبل عقود وكان سبباً مباشراً في انهياره. وعبّر وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن نفسه عن هذا المعنى بقوله إن هدف واشنطن وحلفائها هو "إضعاف روسيا للأبد" ومنعها من إعادة بناء قوتها العسكرية مرة أخرى.
وفي هذا السياق، من الصعب تفسير ما قصده بوتين في تهديده الأخير باستهداف "أهداف لم تقصف بعد"، فالجملة تحتمل أن يكون التهديد قاصراً على ساحة الحرب المستعرة حالياً، أي الأراضي الأوكرانية، كما تحتمل أيضاً أن يكون "الهدف" ساحة جديدة خارج تلك الحدود.
ففي ساعة مبكرة من صباح الإثنين 6 يونيو/حزيران، أي بعد ساعات من بث رسالة بوتين، قصفت روسيا العاصمة الأوكرانية كييف بالصواريخ في ساعة مبكرة، للمرة الأولى منذ ما يزيد على شهر.
وشوهدت أعمدة الدخان تتصاعد من على بعد أميال بعد الهجوم على منطقتين نائيتين من كييف. وقالت أوكرانيا إن القصف أصاب ورشة لإصلاح عربات القطار، بينما قالت موسكو إنها دمرت عتاداً جرى إرساله إلى أوكرانيا من دول في أوروبا الشرقية.
ونُقل شخص واحد على الأقل إلى المستشفى، لكن لم ترد تقارير عن سقوط قتلى في هذه الضربة، التي تمثل تذكيراً مفاجئاً بأجواء الحرب في العاصمة الأوكرانية، التي عادت الحياة الطبيعية إليها إلى حد كبير منذ أن انسحبت القوات الروسية من ضواحيها في مارس/آذار الماضي. كانت روسيا في ذلك الوقت قد أعلنت عن نهاية المرحلة الأولى من "العملية العسكرية"، والتي كان هدفها تدمير البنية العسكرية لكييف ومنع عسكرتها.
ومنذ ذلك الوقت، أعادت القوات الروسية تمركزها في مناطق شرق وجنوب أوكرانيا، وسيطرت بشكل كامل على مدينة ماريوبول الساحلية الاستراتيجية ومدينة خيرسون في الجنوب، وتشدد الآن من هجماتها في إقليم دونباس، حيث منطقتا لوغانسك ودونيتسك الانفصاليتان اللتان تسيطر عليهما قوات تدعمها روسيا.
هل قصف كييف تفسير لرسالة بوتين؟
قالت أوكرانيا إن روسيا نفذت الضربة الصاروخية التي استهدفت كييف باستخدام صواريخ بعيدة المدى تطلق من قاذفات ثقيلة على مسافات بعيدة مثل بحر قزوين، وقالت الشركة المسؤولة عن الطاقة النووية الأوكرانية إن صاروخ كروز روسيّاً انطلق على مستوى "منخفض جدا" فوق ثاني أكبر محطة للطاقة النووية في البلاد.
هذا هو أول هجوم كبير على كييف منذ أواخر أبريل/نيسان، بعد أن شهدت الأسابيع الماضية تركيز روسيا قدرتها التدميرية بشكل أساسي على خطوط المواجهة في شرق وجنوب أوكرانيا، على الرغم من أن موسكو توجه من حين إلى آخر، ضربات بأماكن أخرى في ما تسميه حملة لتقويض البنية التحتية العسكرية الأوكرانية ومنع شحنات الأسلحة الغربية.
لكن في كل الأحوال، يرى فريق من المحللين أنّ قصف كييف ليس جديداً، وبالتالي قد لا يكون هذا ما قصده بوتين من الأساس.
ونشرت صحيفة Metro البريطانية تقريراً عنوانه "روسيا تهدد بقصف الغرب إذا هاجمتها أوكرانيا بصواريخ أمريكية"، رصدت فيه تفسير أحد المقربين من بوتين لتهديد الرئيس الروسي.
تقرير الصحيفة البريطانية نقل تصريحات ديمتري ميدفيديف، رئيس وزراء روسيا الأسبق ورئيس مجلس الأمن القومي الروسي الحالي، التي فسر فيها تهديد بوتين، بقوله إنه ستكون هناك "عواقب" إذا أصابت صواريخ أمريكية يطلقها الأوكرانيون أراضي روسية.
"إذا، لا قدر الله، استخدمت تلك الأسلحة لاستهداف الأراضي الروسية فلن يكون هناك خيار أمام قواتنا المسلحة سوى استهداف مراكز صنع القرار"، بحسب ما قاله ميدفيديف لقناة الجزيرة. "بطبيعة الحال من المهم أن يكون مفهوماً هنا أن مراكز صنع القرار في هذه الحالة تقع خارج العاصمة الأوكرانية كييف".
ماذا لو أصاب صاروخ أمريكي العمق الروسي؟
تصريحات بوتين وتفسير ميدفيديف لها قد لا تكون جديدة بطبيعة الحال، فمنذ الأيام الأولى للحرب أو الغزو أو العملية العسكرية، بحسب من يطلق التوصيف، يعيش العالم، حرفياً وليس مجازياً، "على حافة الهاوية" ولا توجد أي ضمانات بأن تلك المواجهة ستظل محصورة داخل الأراضي الأوكرانية مهما حدث.
وقد كان بوتين حريصاً على تأكيد ذلك بإصداره الأوامر لقواته بالاستعداد "النووي" بعد أيام قليلة فقط من العملية العسكرية، كردٍّ على العقوبات الغربية غير المسبوقة على روسيا والتي تصفها موسكو بأنها "قنبلة نووية اقتصادية". ويمكن القول إن "رسالة بوتين النووية" وقتها نجحت في تحجيم الغرب ولو قليلاً، إذ رفضت واشنطن تزويد كييف بطائرات الميغ التي عرضتها بولندا- رغم الموافقة السابقة لإدارة بايدن- وكذلك رفضت واشنطن فرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا رغم إلحاح حليفها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
نعم، تواصل إدارة بايدن وحلفاؤها الغربيون تزويد كييف بأطنان من الأسلحة مكنت الجيش الأوكراني، الأقل عدداً وعدة بكثير من نظيره الروسي، من الصمود وعدم الانهيار في مواجهة الهجوم الروسي الشرس، لكن في الوقت نفسه يمكن القول إنه بعد 100 يوم من الحرب لا تزال روسيا في طريقها لتحقيق أهدافها الاستراتيجية المتمثلة في السيطرة على إقليم دونباس والشرق الأوكراني بشكل عام، إضافة إلى تحييد القدرات العسكرية الأوكرانية بشكل كبير.
لكن في الوقت نفسه تتعرض موسكو لخسائر كبيرة بسبب المساعدات العسكرية الغربية، وليس فقط العقوبات العسكرية، وتعرض الهجوم الروسي في الشرق إلى ما يمكن وصفه بالانتكاسة بعد أن شنت أوكرانيا، الأحد، هجوماً مضاداً على القوات الروسية في مدينة سيفيرودونيتسك الصناعية في دونباس، تقول كييف إنه فاجأ الروس. وقال سيرهي جايداي حاكم منطقة لوغانسك التي تقع بها سيفيرودونيتسك، إن القوات الأوكرانية، بعد استعادة جزء من المدينة، تسيطر الآن على نصفها وتواصل دفع الروس للتقهقر.
وعلى الرغم من عدم التأكد من رواية كييف، يظل احتمال سقوط صواريخ من أوكرانيا على الأراضي الروسية وارداً، في ظل تركيز القتال بالإقليم الشرقي القريب من الحدود الروسية، وهو ما يطرح تساؤلات بشأن ما قد يحدث في حالة إطلاق القوات الأوكرانية صاروخاً أمريكياً على الأراضي الروسية؟
الاحتمال، بحسب الخبراء العسكريين، يظل وارداً بقوة، وهو ما يفتح الباب أمام سيناريوهات مفزعة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. إذ لم يستبعد ميدفيديف الخيار النووي وحذّر من أن "نهاية العالم نووياً قد تكون أقرب مما يتخيلون". نعم، استبعدت واشنطن إرسال ذخائر طويلة المدى وتقول إن كييف تعهدت بعدم ضرب أهداف داخل روسيا، لكن ماذا لو حدث ذلك ولو بطريق الخطأ لقرب المسافة؟