حشدت الدول الغربية عقوباتها على روسيا وأثريائها بُعيد الحرب على أوكرانيا، وقد أعقب ذلك تداعيات شديدة على أسعار الطاقة والاقتصاد العالمي أفسحت المجال لعودة السعودية إلى دائرة الضوء، وهو ما تجلَّى في منتدى "دافوس" الاقتصادي الذي اختتم فعالياته منذ بضعة أيام.
السعودية ومنتدى دافوس.. خطوة إلى الأمام
على الرغم من سجل السعودية "المفزع" في انتهاكات حقوق الإنسان، فإنها تأمل أن يُشيح العالم بوجهه عن ذلك ويلتفت بتركيزه إلى أهميتها الاقتصادية، كما تقول صحيفة The Financial Times البريطانية، فهي أكبر مصدِّر للنفط في العالم، وإحدى الركائز القليلة التي حافظت على استقرارها في محيط من الاضطراب المهيمن على سفينة الاقتصاد العالمي، بعد أن عصفت بها الحرب على أوكرانيا، وأثقل ارتفاع التضخم حمولتها.
تعرضت السعودية لإدانةٍ عالمية بعد الاغتيال للصحفي السعودي جمال خاشقجي عام 2018، وأصبحت موضع نبذ وتجنبٍ من كثير من القادة الغربيين بعد ذلك.
لكن الآن، بعد أربع سنوات من اغتيال خاشقجي، عادت الثقة إلى المسؤولين السعوديين، فالمملكة ورفاقها من منتجي الطاقة في الخليج أخذوا يحصدون مكاسب ضخمة من الاضطرابات التي اجتاحت أسواق النفط والغاز، واستنفر التعسر الاقتصادي الذي تشهده الأسواق الأمريكية والأوروبية المصرفيين والممولين وألجأهم إلى استثمارات السعودية لمواجهته.
يقول مسؤول تنفيذي يعمل في شركة متعددة الجنسيات بالخليج، لفايننشال تايمز: "يشهد السوق السعودي الآن أكثر فتراته انتعاشاً. كانت الأمور تحسنت قبل أن نشهد الارتفاع في أسعار النفط، لكنها الآن تجاوزت مجرد التحسن بكثير، ونعتقد أن الحال ستكون كذلك على مدى خمس أو ست سنوات مقبلة".
ما الذي تعوّل عليه السعودية في جذب الاهتمام العالمي مجدداً؟
يعوِّل السعوديون على استمرار التدفق في السيولة النقدية، ويأملون أن توهِن أزمة الطاقة من الحملة الغربية على الاستثمار في الوقود الأحفوري، وأن تعزز مكانة المملكة ونفطها في العالم.
زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، المملكة في ديسمبر/كانون الأول، ثم تبعه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، هذا العام. أما الرئيس الأمريكي جو بايدن، فلا يزال متردداً في أن يحذو حذوهما في ظل حديث عن زيارة قريبة خلال هذا الشهر للمنطقة، حيث يقر مسؤولون أمريكيون بالحاجة العملية إلى التعاون مع الرياض في عدة قضايا.
حثَّت الولايات المتحدة وحلفاؤها السعوديةَ على زيادة إمدادات النفط لتخفيف الضغط على طلب النفط وتخفيض أسعاره، إلا أن قيادة المملكة ردَّت على ذلك بالقول إن إفراط الغرب في سياسات التحول الأخضر حدَّ من الاستثمار في قطاع النفط سنوات، ومن ثم ارتفعت أسعاره الآن مع نقص المعروض.
قال أمين الناصر، الرئيس التنفيذي لشركة أرامكو السعودية، لصحيفة The Financial Times، إن "العالم لا يأخذ على محمل الجد مسألة أمن الطاقة، والقدرة على تحمل تكاليفها، والعمل على توافرها".
مكاسب ضخمة حققتها الرياض من ارتفاع النفط
شهدت أروقة منتدى دافوس تنافساً بين مندوبي الحكومات المتعسرة مالياً، وسعياً إلى الفوز بحصةٍ من الاستثمارات التي أقبلت عليها صناديق الثروة السيادية لدول الخليج.
حصدت السعودية بالفعل مكاسب تفوق التوقعات من ارتفاع أسعار الطاقة، فقد بلغت عائدات بيع النفط في الربع الأول من هذا العام نحو 49 مليار دولار، بزيادة بلغت 58% على نظيرتها في الفترة نفسها من عام 2021. وتذهب توقعات شركة "جدوى" المتخصصة في مجال إدارة الاستثمار، إلى أن المملكة في طريقها لجني نحو 250 مليار دولار من عائدات النفط هذا العام.
وقال توماس غوتستين، الرئيس التنفيذي لبنك كريدي سويس: "إنه لا شك في أن الشرق الأوسط أقوى منطقة [قادرة على الاستثمار] في الوقت الحالي. دبي مزدهرة، لكن الدوحة والرياض تقدمان أيضاً فرصاً رائعة لمزيد من الاستثمار؛ فالحاجة كبيرة إلى مشروعات تمويل البنية التحتية والسياحة والرعاية الصحية، لا سيما مع بحث هذه الدول عن مزيد من التنويع لاقتصادها".
يرى بعض المصرفيين أن أزمة الطاقة الحالية تستدعي إلى الأذهان ذكريات الأيام الخوالي، حين ازدهرت استثمارات الدول الخليجية، على إثر الطفرة التي شهدتها أسعار النفط في السبعينيات، والتي أعقبت الحظر العربي على تصدير النفط عام 1973، عندما قطعت الدول العربية، بقيادة السعودية، إمدادات النفط عن الولايات المتحدة ودول أخرى، دعماً لمصر وسوريا في حربهما لتحرير الأراضي التي احتلتها إسرائيل.
مشروعات عملاقة تروج لها السعودية
كانت السعودية تشهد بالفعل فورة إنفاقٍ يقودها صندوق الاستثمارات السيادي السعودي "صندوق الاستثمارات العامة"، الذي تبلغ قيمته 620 مليار دولار، وعمدت الرياض منذ عدة سنوات إلى استغلال أموال النفط لفرض الإجراءات التحديثية التي شرع فيها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
وتعمل السعودية على تنفيذ مشروعات عملاقة، منها المشروع الطموح لإنشاء مدينة "نيوم" باستثمارات بلغت 500 مليار دولار، ومشروع مجمع "القدية" الرياضي المزمع إقامته على أطراف الرياض، بالإضافة إلى مشروع سياحي بقيمة 10 مليارات دولار على البحر الأحمر.
ومن الجدير بالذكر أن صندوق الاستثمارات العامة السعودي كان أحد أكثر صناديق الثروة السيادية نشاطاً في جميع أنحاء العالم، فقد استثمر في كل شيء، وشملت استثماراته شركات تجارية كبرى، وشركات تصنيع السيارات الكهربائية، وشركات تكنولوجيا الألعاب.
يُتوقع أن يتسارع الإنفاق مع استمرار الارتفاع في أسعار النفط. وقال الممول المقيم في دبي: "سيكون الخليج بؤرة الاستثمار العالمي في المستقبل المنظور. وستنطلق من المنطقة أكبر الصفقات وأبرزها، سواء كان الاستثمار في عقارات نيويورك أم في البنية التحتية أو أسهم الشركات الخاصة".
هذه الطفرة في أسعار النفط ستمنح محمد بن سلمان نفوذاً كبيراً في عالم متعطش للخلاص من الركود الاقتصادي. ومع ذلك حذَّر ممول مخضرم من تقلبات ولي العهد السعودي والعجز عن التنبؤ بتصرفاته، ويقول دبلوماسيون غربيون إن عواقب اغتيال خاشقجي وكوارث السياسة الخارجية في اليمن وكندا ولبنان، دفعت بن سلمان أخيراً إلى التراجع وتركيز العمل على تنفيذ خطته للإصلاح الاقتصادي، إلا أن ذلك لا يمنع أنه قد يأتي في أي وقت بتصرف يثير حفيظة الغرب مرة أخرى.
تقول صحيفة فايننشال تايمز إن ولي العهد السعودي مال مؤخراً إلى تجنب المواجهات على مستوى السياسة الخارجية، إلا أن ذلك لا ينتقص من كونه يترأس واحدة من أشد دول المنطقة استبداداً ومن أكثرها قمعاً لمواطنيها. وقد يفسر ذلك امتناع السعوديين عن إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، ووصفهم العقوبات الأمريكية على الأصول الأجنبية الروسية في البنك المركزي الأمريكي بالسابقة الخطيرة.
والخلاصة أن الوفد السعودي اجتذب الاهتمام في دافوس، إلا أن ذلك لا يكفي لإخماد المخاوف من أن المملكة قد تكون هي نفسها ذات يوم عرضة لغضب الغرب وعقوباته.