قضى المسؤولون الأمريكيون قرابة عقد كامل في ترقب حذر لشبكة سرية من المرتزقة الروس المرتبطين بالكرملين، بينما تعيث فساداً في إفريقيا والشرق الأوسط وأوكرانيا مؤخراً. ويقول عدد منهم الآن لموقع Salon الأمريكي إنهم يتمنون لو كانت الولايات المتحدة قد فعلت المزيد لإيقافهم.
إذ أوضح مسؤولون وخبراء أمن قومي أمريكيون أن الرئيس فلاديمير بوتين اعتمد بشكلٍ متزايد على مجموعة فاغنر باعتبارها جيشاً خاصاً بعيداً عن المساءلة، حتى يُمكِّن روسيا من تحقيق أهداف سياستها الخارجية بأقل تكلفة ودون التداعيات السياسية التي تنتُج عن التدخلات العسكرية الأجنبية.
كيف عانت أمريكا من أجل إيقاف نمو المرتزقة الروس؟
يقول موقع Salon، إن الولايات المتحدة كانت بطيئةً في الاستجابة لهذا الخطر، وتجد نفسها الآن تكافح من أجل تقييد استخدام المرتزقة حول العالم، وفقاً لمقابلات أُجريت مع أكثر من 15 من المسؤولين الدبلوماسيين، والعسكريين، والاستخباراتيين الحاليين والسابقين. ولم تحقق العقوبات الأحادية الكثير على صعيد ردع المجموعة، كما تعثرت المحاولات الدبلوماسية.
و"لم تكن هناك سياسةٌ أمريكية موحدة أو ممنهجة للتعامل مع المجموعة"، بحسب تيبور ناجي الذي خدم في عدة مناصب بوزارة الخارجية على مدار نحو 3 عقود، وكان آخرها منصب مساعد وزير الخارجية للشئون الإفريقية حتى عام 2021.
وقال الخبراء إن مرتزقة فاغنر انتشروا حول العالم، وخاصةً في إفريقيا؛ لأن المجموعة تقدم حزمةً مغرية لزعماء الدول التي تشهد نزاعات.
بينما قال مسؤولون أمريكيون إنهم شعروا بضعف الجاهزية في محاولاتهم لمنع غارات المرتزقة. وقال البعض كذلك إن الولايات المتحدة كانت بطيئةً في تقدير مدى خطورة تهديد فاغنر، حتى تحولت المجموعة إلى سلاحٍ مرعب في ترسانة الكرملين.
وأوضح المسؤولون أن الجهود الأمريكية لإقناع الحكومات الإفريقية بعدم التعاون مع فاغنر كانت متأخرةً وغير فعالة بشكلٍ عام. إذ يفاجأ الدبلوماسيون الأمريكيون بوصول مجموعة فاغنر إلى إحدى الدول المتعثرة، فيجدون أنفسهم يسابقون الزمن من أجل مكافحة نفوذ المجموعة معتمدين على موارد وحوافز محدودة.
فشل أمريكي كبير في إفريقيا استغلته روسيا
تمخضت السياسة الأمريكية لاحتواء انتشار الشيوعية السوفيتية إبان الحرب الباردة عن تخصيص استثمارات هائلة لاستمالة الزعماء الأفارقة، بتقديم معونات التنمية وبرامج التبادل الجامعي وحتى الحفلات الموسيقية، لكن سقوط جدار برلين أطاح معه باهتمام الحكومة الأمريكية بالقارة الإفريقية، وفقاً لما أفاد به المسؤولون لموقع ProPublica الأمريكي. فتقلصت أعداد موظفي السفارات وضعف تمويل البرامج.
وتحدث أحد المسؤولين البارزين بوزارة الخارجية عن الجهود المبذولة لإبعاد المسؤولين الأجانب عن مجموعة فاغنر، قائلاً: "ليس هناك الكثير من الوقت المتاح أمام موظفي السفارات، محدودي العدد، لتطوير الخبرات اللازمة أو إقامة العلاقات الضرورية من أجل امتلاك أو وضع استراتيجية تفاعل قوية".
وتجلت أكثر الجهود الأمريكية وضوحاً لإبعاد مرتزقة فاغنر عن دولةٍ بعينها في مالي، حيث وصل المرتزقة هناك في ديسمبر/كانون الأول الماضي للقتال ضد الجهاديين المنتشرين في الشمال.
لكن الجنرال ستيفن تاونسند، قائد قيادة إفريقيا في الجيش الأمريكي، سافر إلى مالي قبل وصول مرتزقة فاغنر، وعقد لقاءً مع رئيس مالي أسيمي غويتا. وأفاد تاونسند أمام الكونغرس في مارس/آذار قائلاً: "أوضحت له قناعتي بأن دعوة مجموعة فاغنر كانت فكرةً سيئة".
ومع ذلك لم تُكلّل توسلات تاونسند وغيره من المسؤولين الأمريكيين بالنجاح؛ إذ يقول دبلوماسيون سابقون إن هذه الجهود مثّلت عينةً من النمط المقلق الذي يشهد وصول المسؤولين الأمريكيين متأخرين إلى المواقف المعقدة، دون أن يكونوا مجهزين بأي شيء سوى النقاط الحوارية.
حيث قال بيتر فام، الذي خدم كأول مبعوث أمريكي خاص لمنطقة الساحل حتى العام الماضي، إنّ الأمريكيين كانوا يطلبون من الماليين ألا يتعاونوا مع مجموعة فاغنر دون أن يعرض أية بدائل منطقية.
وأردف فام: "إما أن تذهب ومعك برامج مساعدة ملموسة، أو تعتمد على علاقاتك الشخصية ورصيدك الدبلوماسي الذي بنيته على مدار السنوات. لكن العديد من المسؤولين الأمريكيين الذين يجري تكليفهم بالمهام، وخاصةً من ذوي المناصب المتوسطة، يفتقرون إلى الميزتين".
مرتزقة فاغنر تنتشر حول العالم
جذبت مجموعة فاغنر اهتمام الرأي العام للمرة الأولى إبان الحرب الروسية في شرقي أوكرانيا عام 2014. حيث حارب مرتزقة فاغنر إلى جانب قوات روسيا الاتحادية، وهاجموا القوات الأوكرانية في منطقة دونباس المتنازع عليها حتى الآن.
وشعر غاري موتسيك، نائب وكيل وزارة الدفاع الأمريكية آنذاك، بالقلق إزاء ظهور ما بدا وكأنه فصيلٌ جديد من المرتزقة الروس.
قال موتسيك في مقابلته مع موقع ProPublica إن البنتاغون كان على علمٍ بتجاهل المقاولين العسكريين الروس للقانون الدولي منذ سنوات، لكن نشاطهم ظل مقتصراً بشكل كبير على تأمين ناقلات النفط والأصول الروسية الأخرى. لكن مجموعة فاغنر الجديدة كانت تشارك في العمليات القتالية مثلها مثل الجيوش الخاصة.
وأردف موتسيك: "سنلاحظ، من النظر إلى تاريخ نمو مجموعة فاغنر، أننا فوتنا فرصتنا بين عامي 2008 و2010 تقريباً؛ إذ كان ينبغي منح المسألة أولويةً على قائمتنا آنذاك".
وقاد موتسيك في تلك الفترة مكتب البنتاغون المنوط بالمساعدة في وضع المعايير الدولية للمقاولين العسكريين الخاصين. وأوضح أن مكتبه ركز على الامتثال الطوعي والشركات النشطة في مناطق الحرب الأمريكية، لكنه لم يطلع على أي جهود للتصدي للروس بعد أن اختاروا عدم الامتثال لتلك المعايير.
وقال موتسيك، في مقابلته مع الموقع الأمريكي: "كان هذا خطئي أنا أكثر من أي شخصٍ آخر على الأرجح، لأنني كنت الوحيد الذي يعمل على هذه المسألة بصفةٍ شبه يومية. لكننا لم نقل أبداً: "لنتحكم في هؤلاء المرتزقة؛ إذ لم أكُن مفوضاً للقيام بذلك، وأعتقد أنني كنت أفتقر للرؤية أيضاً".
جيش الظل الروسي الخاص
يقول الخبراء إن مرتزقة فاغنر يتقاضون أجورهم، على ما يبدو، من عائدات الموارد الطبيعية مثل النفط، والذهب، والماس، داخل الدول التي يحاربون فيها. ويستخدمهم الكرملين بديلاً رخيصاً للقوات المسلحة الروسية.
فيما قال شون ماكفيت، أستاذ جامعة الدفاع الوطني الأمريكية: "دشّنت روسيا عملياتها العسكرية داخل قارتين مختلفتين للمرة الأولى منذ الثمانينيات. وتمثل مجموعة فاغنر رأس حربتها".
حيث أرسلت روسيا جيشها في عام 2015 للقتال في الحرب السورية نيابةً عن بشار الأسد، فيما يُعتبر أول تدخلٍ عسكري مسلح للكرملين خارج الأراضي السوفيتية السابقة منذ نهاية الحرب الباردة. وسرعان ما نجحت قوات روسيا الاتحادية في قلب موازين الحرب لصالح بشار، بالتعاون مع مقاتلي فاغنر وغيرهم من المرتزقة.
بينما يقول جوزيف سيغل، مدير الأبحاث في مؤسسة Africa Center for Strategic Studies البحثية، إنّ النجاحات العسكرية الروسية في الحرب السورية مثّلت "نقطة تحوّلٍ لروسيا؛ إذ شهدوا مدى سرعة اكتسابهم للنفوذ داخل منطقةٍ كان نفوذهم فيها محدوداً نسبياً في السابق".
ورقة قوة بين بوتين
وبدأت مجموعة فاغنر مشاركتها في الحرب الليبية عام 2019، من خلال دعم حملة خليفة حفتر للإطاحة بحكومة البلاد المعترف بها دولياً. وكان حفتر قد بدأ يتعثر، لكنه شن هجوماً جديداً بمساعدة فاغنر والمتمردين حتى وصل إلى مشارف طرابلس.
وهنا بدأت أجراس الإنذار تدق داخل أروقة وكالات السياسة الخارجية الأمريكية.
قال ديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، لموقع ProPublica: "كنا نراقب المجموعة وهي تقلب موازين الحرب". لكن محاولة حفتر لاستعادة طرابلس باءت بالفشل في النهاية بعد تدخل تركيا على الجانب الآخر".
أردف شينكر: "لقد ضغطت بقوةٍ من أجل تصنيف المجموعة بواسطة الاتحاد الأوروبي، لكن الأمور كانت معقدةً بسبب عادة روسيا المتمثلة في اغتيال المعارضين داخل الدول الأجنبية، لهذا لم يرغب الناس في إثارة غضب بوتين، الذي يشبه اللورد فولدمورت في عيونهم".
لم يفرض الاتحاد الأوروبي عقوباته على مجموعة فاغنر حتى ديسمبر/كانون الأول عام 2021. ويتوقع الخبراء أن تلعب المجموعة دوراً متزايد الأهمية في السياسية الخارجية الروسية، مع استمرار الصراع في أوكرانيا وزيادة عزلة الكرملين عن الاقتصاد العالمي؛ إذ يُمكن لتوسع المجموعة أن يساعد روسيا على تجنب تأثير العقوبات، وإغراء الحكومات بدعمها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتأمين مواقع استراتيجية تفيدها في معركتها ضد حلف الناتو.
أما على الناحية الاقتصادية، فيُمكن القول إن الاقتصاد الروسي هزيلٌ عند مقارنته ببعض القوى العظمى مثل الصين والولايات المتحدة. لكن أحد المسؤولين قال إن روسيا وجدت في مجموعة فاغنر أداةً رخيصة وجديدة للسياسة الخارجية، بينما لم تعثر الولايات المتحدة على وسيلةٍ للتصدي لها حتى الآن. فيما تتحمل الحكومات العميلة الشطر الأعظم من تكلفة المجموعة.
حيث قال ناجي: "لا يمتلك الروس دفتر شيكات مفتوحة، بل يلعبون أوراقهم الضعيفة ببراعةٍ شديدة للغاية".