يبدو أن طريق أوروبا إلى الغاز العربي ليس سهلاً، حيث تصطدم مساعي الأوروبيين لإيجاد بدائل للغاز الروسي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعقبات، مع تعقد المحادثات مع كبرى الدول المنتجة له مثل قطر والجزائر وليبيا.
وأعلنت ألمانيا بدء عمليات بناء أول محطة عائمة للغاز الطبيعي المسال، مطلع هذا الشهر في مدينة فيلهيمسهافن، التي تقع في ولاية ساكسونيا، في شمال غرب البلاد، وتعد هذه الخطوة من أولى الخطوات الألمانية للتحرر من الغاز الروسي في ظل حرب الكرملين على أوكرانيا.
"الطريق لغاز العرب ليس سهلاً"
ولكن هناك مشكلات تعيق المفاوضات للحصول على الغاز من الدول العربية كبديل للإمدادات الروسية التي تجعل الاتحاد الأوروبي أكبر ممول لما يصفه بحرب بوتين على أوكرانيا.
وتبدأ هذه المشكلات من أسعار الغاز القطري والاستقرار في ليبيا وتنتهي بالمشكلات السياسية المحيطة بالصحراء الغربية، المنطقة المتنازع عليها في شمال إفريقيا، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية.
ورغم أن فكرة خط غاز شرق المتوسط عادت للحياة، بسبب الغزو الروسي، ولكن هناك تساؤلات بشأن إمكانية تنفيذه.
وهذه العقبات تمثل مؤشراً آخر على الصعوبة الكبيرة التي ستلاقيها أوروبا في استبدال إمدادات الغاز القادمة من روسيا، التي تزود القارة بنسبة 38% من الغاز الطبيعي، استبدالاً كاملاً.
أوروبا تعلق آمالها على قطر لاستبدال الغاز الروسي
كانت الدول الأوروبية التي تعتمد على الغاز الروسي قد علقت آمالاً كبرى على قطر في بحثها عن بدائل للغاز الروسي.
إذ تعد الإمارة الخليجية واحدة من أكبر منتجي الغاز الطبيعي المسال في العالم وأطلقت مشروعاً بقيمة 29 مليار دولار يهدف إلى توسيع قدرتها على إنتاج الغاز بنسبة 40%.
ووقّع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في رحلتيه الأخيرتين إلى المملكة المتحدة وألمانيا اتفاقيات يتعهد فيها بزيادة التعاون في مجال الطاقة مع هذين البلدين. وقال مسؤولون قطريون وأوروبيون إن الجزء الصعب هو التفاوض على العقود. وقالوا إنه من الوارد جداً أن تتضمن أي اتفاقات تنازلات كبيرة من جميع الأطراف خلال المحادثات التي قد تستمر لأشهر.
ولكن ألمانيا تريد بيع الغاز لطرف ثالث
وقال مسؤولو الطاقة القطريون إن من بين النقاط المختلف عليها السماح لألمانيا- وهي مركز رئيسي للغاز الأوروبي- بإعادة بيع الغاز القطري لدول أخرى، وفقاً لما يقوله أشخاص مطلعون على المحادثات. على أن القطريين يرفضون هذا المقترح لأنه قد يقوض من قوتهم في السوق.
كانت القيود التي تفرضها قطر على إعادة بيع الغاز موضوع تحقيق مكافحة احتكار أجراه الاتحاد الأوروبي لمعرفة إن كان هذا البند يقيّد التجارة عبر الحدود بشكل غير قانوني.
وأسقط الاتحاد الأوروبي هذا التحقيق في مارس/آذار وبرّأ قطر من ارتكاب أي مخالفات، وهي خطوة قد تشجع الإمارة على التواصل مع المشترين الأوروبيين من جديد.
ودفعت أزمة الغاز الأوروبية التي اندلعت الشتاء الماضي، والأزمة الأوكرانية، الولايات المتحدة إلى أن تطلب من قطر أن تلبي احتياجات أوروبا من الغاز لتقليل اعتماد القارة على الغاز الروسي الذي يقدر أنه يوفر أكثر من ثلث الإمدادات لدول الاتحاد الأوروبي قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، فيما كانت تصل نسبة اغتماد ألمانيا على الإمدادات الروسية لنحو 55 % من احتياجاتها.
وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد أعلن في فبراير/شباط 2022 بالتزامن مع تحضيرات روسيا لغزو أوكرانيا اعتزامه تصنيف قطر حليفاً رئيسياً من خارج حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ومنحها مكانة خاصة كحليف رئيسي في الشرق الأوسط، ليمثل ذلك نقلة نوعية في العلاقات الأمريكية القطرية.
وجاء هذا التصريح عند استقبال بايدن لأمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض، في أول لقاء يعقده الرئيس الأمريكي مع زعيم خليجي والثاني مع حاكم عربي بعد لقائه بالملك الأردني عبد الله بن الحسين.
الدوحة تشترط توقيع عقود طويلة الأمد
ومن المشكلات الأخرى أمام هذه الصفقة، أن القطريين يصرون على إبرام عقود توريد تستمر لأكثر من عقد، خاصة أنهم أبرموا صفقات طويلة الأمد مع الزبائن الآسيويين، وفقاً لأشخاص مطلعين على المحادثات. لكن المملكة المتحدة وألمانيا ترغبان في إبرام صفقات قريبة من فترة خمس سنوات؛ لتتمكن من تحقيق أهداف الاتحاد الأوروبي في التحول عن الوقود الأحفوري.
إذ تتطلع ألمانيا لخفض انبعاثات الكربون بنسبة 65% بحلول عام 2030 فيما تخطط المملكة المتحدة لخفض الانبعاثات بنسبة 78% بحلول عام 2035. وقد تؤدي زيادة استهلاك الغاز الطبيعي إلى إعاقة قدرتهما على تحقيق هذين الهدفين.
ومن المشكلات الرئيسية الأخرى سعر الغاز الطبيعي المسال القطري، الذي لا بد من نقله لمسافات طويلة وهو أغلى من الغاز الروسي الذي يُنقل عبر خطوط الأنابيب.
وقال أشخاص مطلعون إن قطر ربما توافق على عقود أقصر مقابل أسعار أعلى ومكاسب دبلوماسية. وفي إشارة إلى أن محادثات الغاز الطبيعي قد تكون جزءاً من شراكة أكبر مع لندن، قالت قطر إنها ستستثمر 10 مليارات جنيه إسترليني، أي ما يعادل 12.6 مليار دولار، في المملكة المتحدة، وهذه الاستثمارات ستشمل مصادر الطاقة المتجددة. وتروّج قطر للغاز الطبيعي المسال على أنه خيار يُعتَمد عليه أكثر من مصادر الطاقة المتجددة وبديل أنظف للفحم.
وقال مسؤولون في الحكومة الألمانية والبريطانية إن المفاوضات جارية بخصوص إمدادات الغاز الطبيعي المسال من قطر، لكنهم رفضوا الإدلاء بأي تصريحات أخرى. ورفضت شركتا الغاز الطبيعي الألمانيتان Uniper SE وRWE AG التعليق، حسب صحيفة The Wall Street Journal.
الجزائر تزيد إمداداتها لإيطاليا وتقللها لإسبانيا بسبب الصحراء
أما دول جنوب أوروبا فعلقت بعض الأمل على زيادة إمداداتها من الغاز من الجزائر وليبيا، وهما منتجان رئيسيان للغاز ولهما خطوط أنابيب في أوروبا. على أن الإمدادات من كلا البلدين عرضة لمخاطر سياسية كبيرة.
وكانت إسبانيا قد بدأت محادثات مع الجزائر قبل الهجوم الروسي لزيادة إمدادات الغاز الطبيعي الجزائرية عبر خط أنابيب يمر بالمغرب تحت البحر المتوسط إلى إسبانيا. لكن الجزائر منعت الإمدادات وهدَّدت بوقف بيع الغاز لإسبانيا تماماً، لأنها اعترفت بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، كما غضبت من احتمال تزويد إسبانيا للمغرب بالغاز بعد قطع الغاز الجزائري عن الرباط بسبب الخلافات بين البلدين.
وفي أبريل/نيسان، تراجعت إمدادات الغاز الجزائرية إلى إسبانيا بنسبة 35%. وكانت الجزائر تمثل يوماً ما يقرب من نصف واردات إسبانيا من الغاز الطبيعي؛ والآن لا تمثل سوى 22%، وفقاً لشركة Enagas، المالك والمشغل لشبكة الغاز الإسبانية. وتستورد إسبانيا الغاز الطبيعي المسال الأمريكي الأعلى تكلفةً لتعويض هذا النقص.
في المقابل، توصلت شركة الطاقة الإيطالية Eni SpA إلى اتفاق مع الجزائر لزيادة كميات الغاز إلى روما بما يصل إلى 9 مليارات متر مكعب سنوياً حتى عام 2024.
الاضطرابات تعرقل الإمدادات من ليبيا
وتخطط الشركة الإيطالية أيضاً للاستثمار في ليبيا بهدف زيادة الصادرات إلى إيطاليا.
لكن من المشكلات الأخرى أمام توفير إمدادات من الغاز العربي لأوروبا، أن إنتاج الطاقة الليبي يتعرض لانقطاعات متكررة بسبب الخلافات الناشئة بين الفصائل التي أعقبت إطاحة الرئيس معمر القذافي عام 2011.
ويوم الثلاثاء 24 مايو/أيار، قالت شركة النفط الوطنية الليبية إنها أوقفت عمليات التنقيب في جميع الحقول والموانئ إثر تأخيرات في السداد مرتبطة بهذا الخلاف السياسي، خاصة بعد تفاقم الأزمة في البلاد إثر تشكيل الوزير السابق فتحي باشا آغا لحكومة منافسة لحكومة عبد الحميد الدبيبة المقيمة في طرابلس والمعترف بها دولياً.
إسرائيل تحاول إغراء أوروبا بالرهان على مصر
وتقترح إسرائيل بناء قدرات لوجستية لتصديرغازها الطبيعي إلى أوروبا، بعد أن أثار الغزو الروسي لأوكرانيا اهتماماً جديداً بالإمدادات من البحر الأبيض المتوسط، ولكنه يبدو حلاً بعيد الأمد حتى الآن.
وقال جوناثان ميلر، المبعوث الخاص للطاقة في وزارة الخارجية الإسرائيلية، في مقابلة مع وكالة بلومبرغ الأمريكية الشهر الماضي، إن: "إسرائيل مستعدة لبذل أقصى ما في وسعها لدعم تحديات الطاقة الأوروبية. ولكن يبقى السؤال الكبير هو كيفية وصول هذا الغاز إلى أوروبا، وهو الأمر الذي لا يزال يمثل أحد التحديات".
ويُرجح أن تعتمد أي خطوة إسرائيلية قصيرة الأجل لبيع الغاز إلى الاتحاد الأوروبي على التعاون مع مصر، التي لديها محطتان للغاز الطبيعي المسال.
وقال ميلر إن إسرائيل غير قادرة على إضافة سعة كبيرة للغاز الطبيعي المسال على ساحلها المكتظ بالسكان، مضيفاً أن تل أبيب "تحدثت مع المصريين بشأن إمكانية زيادة كمية الغاز الوارد من مصر لبيع الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا".
وكانت وكالة "بلومبيرغ" كشفت، قبل أيام، عن ترتيبات الاتحاد الأوروبي لصفقة لاستيراد الغاز الإسرائيلي عبر القاهرة، موضحة أن الصفقة تتضمن تحويل الوقود إلى غاز طبيعي مسال في مصانع المعالجة في مصر قبل شحنه إلى الاتحاد الأوروبي، وأضافت أن الأخير سيوسع تعاونه مع إسرائيل ومصر في مشروعات الطاقة النظيفة.
ولكن إتمام أية صفقة لا يزال يتطلب دعم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
من جانبه، قال رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي إن القاهرة وضعت خطة لترشيد استخدام الغاز الطبيعي على المستوى المحلي، وإعطاء الفرصة لتصدير أكبر كمية بداية من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لتحقيق نوع من التوازن في فاتورة استيراد النفط. وأضاف، في تصريحات إعلامية على هامش زيارته إلى دبي، أن مصر أصبحت مركزاً لإنتاج وتداول الغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط، ولدينا البنية الأساسية لأعمال الإسالة ونقل الغاز لجيراننا وقارة أوروبا، كما نعمل مع الإماراتيين للتوسع في حقول الغاز الطبيعي وشبكات النقل والإسالة.
ولكن هذه المشروعات لن تؤدي إلى تصدير كميات كبيرة
وقال جوناثان ميلر، المبعوث الخاص للطاقة في وزارة الخارجية الإسرائيلية، إن الاتحاد الأوروبي على اتصال بإسرائيل بشأن احتمال إمداد المنطقة بالغاز، مشيراً إلى أن الخطط ستكون للمدى الطويل "أما على المدى القصير، فهذه ليست أرقاماً كبيرة لأنه يتعين علينا الاعتماد على البنية التحتية الحالية، لكنني أعتقد أنه وقت مهم لأوروبا وإسرائيل ومصر والشركاء للبحث عن حلول متوسطة وطويلة الأجل حول كيفية إيصال الغاز إلى السوق الأوروبية".
يمكن أن تشمل الحلول طويلة المدى خط أنابيب الغاز لشرق المتوسط، أو شرق البحر المتوسط، والذي لا يزال في مرحلة تقييم الجدوى.
لكن ميلر قال إن شرق البحر المتوسط يجب أن يُنظر إليه في الوقت الحالي "على أنه مجال للتعاون الدولي أكثر من كونه حلاً ملموساً".
وأضاف أن التعاون المستقبلي يمكن أن يركز على الغاز الطبيعي المسال وزيادة القدرة التصديرية لمصر وبناء خطوط أنابيب أرخص من إسرائيل، إضافة إلى مصانع الغاز الطبيعي المسال المستقبلية ومنصات الغاز الطبيعي المسال العائمة.
وحذر المبعوث الإسرائيلي من أن "المشاريع طويلة الأمد يصعب حسابها؛ لأننا لا نعرف إلى متى سيبقى سعر الغاز الحالي عند هذا المستوى".
القاهرة تفضل الصين
سجلت مصر أكبر نمو على مدار العام في الصادرات في شرق أفريقيا: 1.4 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال في الربع الثاني من العام، مقارنة مع عدم وجود صادرات للغاز الطبيعي المسال في نفس الفترة من العام السابق، وفقاً لتقرير صادر عن منظمة الدول العربية المصدرة للنفط (أوابك) نشر في مارس/آذار 2022.
والغاز الطبيعي المسال هو الغاز الوحيد الذي تصدّره مصر حالياً، حيث إن البلاد ليست مرتبطة بعد بشبكة خطوط أنابيب أوروبية.
وبلغت مصر حالياً الحد الأقصى من إنتاج وتصدير الغاز المسال. كما أن مصر تفضّل التعامل الاقتصادي مع الصين التي عرضت عليها عقوداً طويلة الأجل بشروط جيدة، ومن الأفضل الآن لمصر أن تستمر في أن تكون مورّداً موثوقاً به وتحافظ على حصتها في السوق الصينية، حسب تقرير لموقع دويتش فيله الألماني.
في المقابل، قال مسؤولون في تركيا وإسرائيل إن الجانبين يبحثان خلف الكواليس إقامة خط لأنابيب الغاز باعتباره أحد البدائل الأوروبية عن إمدادات الطاقة الروسية، لكن هذه المسألة ستواجه الكثير من العراقيل قبل إمكانية التوصل إلى أي اتفاق.
وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مارس/آذار الماضي إن التعاون في مجال الغاز هو "إحدى أهم الخطوات التي يمكن أن نتخذها سوياً في العلاقات الثنائية". وأضاف للصحفيين أنه مستعد لإرسال عدد من كبار الوزراء إلى إسرائيل لإحياء فكرة خط الأنابيب القائمة منذ سنوات.
وقال مسؤول تركي كبير لرويترز إن المحادثات جرت بين الجانبين منذ أن زار الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتزوغ أنقرة في وقت سابق في مارس/آذار 2022 وإن الأشهر المقبلة قد تشهد "قرارات ملموسة" بشأن المسار المقترح والكيانات المشاركة.
لكن المسؤولين في قطاع الطاقة يتخذون نهجاً متحفظاً إزاء المشروع، ويقولون إن القيود المتعلقة بالإنتاج والجغرافيا السياسية عوامل قد تؤدي إلى عدم خروج الخطة إلى النور.
ويبدو أن تحفظ الاتحاد الأوروبي على تمويل بعيد المدى لعملية استيراد الغاز يمثل عائقاً سواء مشروعات الغاز المسال أو أمام فكرة مد غاز من شرق المتوسط إلى القارة.
إذ تريد أوروبا غازاً رخيصاً وبسرعة، وبكميات كبيرة، وبدون إلزام نفسها بعقود طويلة الأمد، وهي أمور يبدو الجمع بينها صعباً
كما أن مد خط غاز من الشرق المتوسط لأوروبا يحتاج إلى حسم الخلافات السياسية والحدودية بين دول المنطقة، وبينما يبدو أن هناك مؤشرات على حلحلة الأزمات بين تركيا ومصر وتركيا وإسرائيل، فإن الخلاف اليوناني التركي أكثر صعوبة؛ خاصة في ظل الدعم الأوروبي بلا قيود لأثينا وحرص الأخيرة على الإضرار بأنقرة حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بها هي نفسها وبمجمل القارة الأوروبية.