الحرب في أوكرانيا هي صراع بين روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة. هذه حقيقة عليها إجماع، فلماذا تراجع الرئيس جو بايدن عن إمداد كييف بصواريخ بعيدة المدى؟
وقبل الدخول إلى تفاصيل الإعلان الأمريكي الأخير بشأن "أنظمة إطلاق الصواريخ متعددة المدى"، من المهم التذكير بطبيعة الأزمة الأوكرانية وتطوراتها، وصولاً إلى المرحلة الحالية، التي دخلت فيها الحرب شهرها الرابع دون أن تلوح في الأفق نهاية وشيكة لها.
الأزمة الأوكرانية في الأصل أزمة جيوسياسية طرفاها روسيا وحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ترى موسكو في سعي حكومة كييف برئاسة فولوديمير زيلينسكي الانضمام للحلف العسكري الغربي؛ تهديداً لأمنها القومي.
وطلب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من نظيره الأمريكي جو بايدن ضمانات أمنية بأن أوكرانيا لن تنضم لحلف الناتو، بناءً على وعد يرجع تاريخه لنحو ثلاثة عقود قدمته واشنطن لموسكو بأن الحلف الغربي لن يتوسع شرقاً بوصة واحدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
الغرب بقيادة الولايات المتحدة في مواجهة روسيا
رفض بايدن تقديم ضمانات أمنية لروسيا وتمسك بوتين بموقفه، وعلى الرغم من أن زيلينسكي نفسه كان يدعو إلى عدم تصعيد الأمور، ووصف بلاده قبل بدء الهجوم الروسي بأقل من شهر بأنها "ليست تيتانيك"، إلا أن برميل البارود انفجر في نهاية المطاف واندلعت الحرب بالفعل يوم 24 فبراير/شباط الماضي.
ومنذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب، كان واضحاً أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة لن يدخر وسعاً في تقديم كل أشكال الدعم لأوكرانيا كي تصمد لأطول وقت ممكن أمام الدب الروسي، وجزء رئيسي من هذا الدعم يتمثل في الحرب النفسية ومحاصرة وسائل الإعلام الروسية للانفراد بالتأثير في الرأي العام العالمي. وهذه الحقيقة تتسبب في صعوبة معرفة حقيقة ما يجري على الأرض بشكل دقيق، فكل من روسيا وأوكرانيا تصدران بيانات تتعلق بسير القتال يمكن وصف أغلبها بأنها تحمل مبالغات هدفها إحباط الروح المعنوية لكل طرف.
وعلى المستوى الاقتصادي، فرض الغرب عقوبات على روسيا لم يسبق لها مثيل على الإطلاق، إذ لم تتوقف تلك العقوبات عند مجالات الاقتصاد والتعاملات المالية واستهداف ثروات أغنياء روسيا والدائرة المقربة من بوتين وبوتين نفسه، بل تخطتها إلى مجالات الرياضة والفن والعلوم وكل شيء آخر.
أما على المستوى العسكري، فقد وفر الغرب ولا يزال يوفر لأوكرانيا الأسلحة والعتاد من صواريخ مضادة للدروع لأنظمة دفاع جوي، إلى مدافع وأسلحة فتاكة ومتطورة، إضافة إلى فتح الباب أمام من يريد القتال لصالح أوكرانيا من مواطني تلك الدول، تلبية لدعوى زيلينسكي تشكيل "فيلق دولي للدفاع عن أوكرانيا".
كان زيلينسكي قد قال الأحد 27 فبراير/شباط، إن أوكرانيا ستنشئ فيلقاً "دولياً" أجنبياً للمتطوعين من الخارج، معتبراً أنه "سيكون الدليلَ الرئيسي على دعمكم لبلدنا"، في حديث وجهه إلى مواطني دول العالم الحريصين على "القيم الديمقراطية"، بحسب تعبيره.
وكانت دعوة زيلينسكي في اليوم الرابع لبدء الهجوم الروسي قد أثارت تساؤلات بشأن تجربة مشابهة لجأت إليها الدول الغربية لاستنزاف الاتحاد السوفييتي خلال غزو أفغانستان قبل أكثر من أربع عقود.
لكن بوتين لم يتأخر كثيراً وأعلن هو الآخر بعد أسبوعين من حديث نظيره الأوكراني أنه يجب الموافقة على "إعطاء الفرصة للمتطوعين الراغبين في القتال إلى جانب المدافعين عن الحرية في إقليم دونباس"، في إشارة إلى الانفصاليين الذين تدعمهم روسيا في لوغانسك ودونيتسك، ليرد وزير دفاعه شويغو بأن هناك بالفعل 16 ألف "متطوع" من الشرق الأوسط قد تقدموا بطلبات للتطوع بالفعل. وهكذا أصبحت الساحة الأوكرانية مسرحاً لمواجهة مفتوحة ليس فقط بين الجيوش النظامية، ولكن أيضاً بين "المرتزقة" من الجانبين.
كيف يساعد الغرب أوكرانيا ويتفادى التصعيد؟
نعم، الحرب في أوكرانيا هي مواجهة بين روسيا وحلف الناتو، لكن هذه الحقيقة تظل بمثابة السيناريو الرهيب الذي يسعى الطرفان لتفاديه قدر المستطاع. فالمواجهة بين روسيا وأوكرانيا تعتبر محسومة سلفاً من الناحية العسكرية بسبب الفارق الضخم بين الجيشين من حيث العدد والعتاد، لكن يمكن للمساعدات العسكرية والاستخباراتية والاقتصادية والنفسية من الغرب أن تساعد كييف على الصمود "حتى أبعد مدى".
هذا ليس تحليلاً ولا تخمينات يمكن للمتابع العادي لأحداث تلك الأزمة التي أصبحت أكبر حرب تشهدها أوروبا والعالم منذ الحرب العالمية الثانية، بل هذا السيناريو حقيقة جاءت على لسان وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن نفسه.
وكان تقرير لصحيفة Wall Street Journal قد نقل عن أوستن قوله للصحفيين، خلال زيارة وزير الدفاع لكييف الإثنين 25 أبريل/نيسان: أن "القدرات العسكرية الروسية يجب أن تتدهور، وأنّ أمريكا تريد إضعاف روسيا إلى الدرجة التي لا يمكنها إعادة بناء جيشها".
وقرنت أمريكا القول بالفعل، إذ عقدت اجتماعاً الثلاثاء 26 أبريل/نيسان في قاعدة رامشتاين الجوية بألمانيا، مقر قيادة القوات الجوية الأمريكية في أوروبا، شهد مشاركة جميع أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي وعدد قليل من خارج الحلفين.
ورحب أوستن بالمسؤولين من أكثر من 40 دولة في القاعدة الأمريكية، وقال: "تقف الدول من أنحاء العالم متحدة في تصميمها على دعم أوكرانيا في حربها ضد العدوان الإمبريالي لروسيا"، وأضاف: "من الواضح أن أوكرانيا تثق في قدرتها على الانتصار، وكذلك الجميع هنا". بحسب رويترز.
كانت تلك تعد الاجتماعات بمثابة خطوة هائلة على طريق التصعيد من جانب حلف الناتو، بعد أن كان الحلف العسكري الغربي، بقيادة واشنطن بطبيعة الحال، يتفادى ذلك النوع من التصعيد في الأسابيع الأولى للحرب. وكانت قصة رفض واشنطن إرسال طائرات الميغ التي عرضتها بولندا إلى أوكرانيا أبرز دليل على السعي لتفادي التصعيد.
كان زيلينسكي، منذ بدأ الهجوم الروسي، يريد من الغرب فرض منطقة حظر طيران فوق بلاده وإرسال طائرات عسكرية إلى كييف لتعويض خسائرها الهائلة في بداية الهجوم، وتطوعت بولندا بتقديم أسطولها من طائرات ميغ سوفييتية الصنع، لأن الطيارين الأوكرانيين معتادون عليها بالفعل، ووافقت واشنطن في البداية، لكن إدارة بايدن تراجعت في نهاية المطاف؛ خوفاً من تورطها في مواجهة مباشرة مع موسكو.
كان بوتين، في بداية الهجوم على أوكرانيا، قد أمر وزارة الدفاع بوضع قوات الردع النووي الروسية في "حالة تأهب"، مبرراً تلك الخطوة بأنها رد على مسؤولي الغرب الذين "لم يكتفوا باتخاذ خطوات عدائية اقتصادية وحسب، بل أدلى مسؤولوهم بحلف الناتو بتصريحات عدوانية ضد روسيا". ولاحقاً قالت مصادر في الخارجية الروسية إن تصريحات وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس بشأن دعوة البريطانيين للتطوع للقتال في أوكرانيا وإشارة الوزيرة إلى أن حلف الناتو يمتلك أسلحة نووية كانت السبب المباشر لقرار بوتين. ومنذ ذلك الوقت بدا واضحاً للجميع أن احتمال اندلاع "حرب نووية" بات وارداً بالفعل، ما لم تتوخّ جميع الأطراف الحذر.
بايدن والحرب "طويلة الأمد" في أوكرانيا
لكن مع مرور الوقت، بدا أن الحرب الروسية في أوكرانيا قد لا تنتهي سريعاً بالفعل، وأصبح الغرب أكثر جرأة في تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، لدرجة أن ألمانيا غيرت سياستها بشكل كامل وقررت أواخر أبريل/نيسان تزويد كييف بدبابات مزودة بمدافع مضادة للطائرات.
وأقر الكونغرس حزمة مساعدات عسكرية لأوكرانيا قيمتها 40 مليار دولار، وتتدفق المساعدات العسكرية على كييف على مدار الساعة، حتى وصلت الأمور إلى الإعلان عن قرب تزويد أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى قادرة على ضرب أهداف في العمق الروسي.
وبحسب تقارير إعلامية أمريكية، سعى مسؤولون أوكرانيون للحصول على أنظمة بمدى أطول تعرف باسم أنظمة الصواريخ متعددة الإطلاق (إم.إل.آر.إس) التي يمكنها أن تطلق وابلاً من الصواريخ يقطع مئات الأميال.
وعلناً ناشدت الحكومة الأوكرانية الغرب على تزويدها بأسلحة أطول مدى حتى تتمكن من قلب موازين الحرب التي دخلت شهرها الرابع، وقال مسؤولون أمريكيون إنه يجري بحث إرسال مثل تلك الأسلحة.
وذكرت تقارير لشبكة CNN الأمريكية، نقلاً عن مسؤولين في إدارة بايدن الجمعة الماضية، أن الإدارة تفكر بالفعل في تزويد الجيش الأوكراني بأنظمة صواريخ متعددة الإطلاق (إم. إل. آر. إس.) يصل مدى بعضها إلى أكثر من 185 ميلاً، بينما هي قادرة أيضاً على إطلاق صواريخ وقذائف مدفعية مداها 20 و40 ميلاً.
لكن بايدن أعلن مساء الإثنين 30 مايو/أيار أن واشنطن لن ترسل أنظمة صواريخ لأوكرانيا يمكنها الوصول إلى روسيا. وقال بايدن للصحفيين بعد أن عاد للبيت الأبيض من قضاء عطلة نهاية الأسبوع في ديلاوير: "لن نرسل لأوكرانيا أنظمة صواريخ" يمكنها أن تصل إلى الداخل الروسي.
إعلان بايدن جاء بعد أن قالت موسكو إن أي استهداف لأراضيها بصواريخ بعيدة المدى تنطلق من الأراضي الأوكرانية سوف يقابل "برد صارم وحاسم" من الجانب الروسي، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
ووصف دميتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي قرار واشنطن عدم إرسال أنظمة صواريخ إلى أوكرانيا يمكنها أن تصل إلى روسيا بأنه "عقلاني".
لكن ذلك لا يعني أن بايدن قد تراجع عن إرسال أنظمة الصواريخ متعددة الإطلاق لأوكرانيا، بل سيرسل الأمريكيون تلك الأنظمة المتعددة لكن دون قذائف صاروخية بعيدة المدى، فالقلق من التصعيد أصبح من الماضي، وربما يكون ما أعلنه بايدن يندرج تحت "زلات اللسان" التي أصبحت ملازمة للرئيس الأمريكي منذ ما قبل انفجار الأزمة الأوكرانية.
الخلاصة هنا هي أن وصول صواريخ بعيدة المدى لأوكرانيا واستخدامها في استهداف الأراضي الروسية قد يعني خروج الحرب عن حدود أوكرانيا، أما كيف ومتى ومن فستظل أسئلة معلقة يترقب العالم أجمع إجاباتها طالما لم تتوقف الحرب في أوكرانيا.