أصبحت أزمة القمح واحدة من أكبر التحديات التي تواجه مصر، بعد تضررها بشدة من الهجوم الروسي على أوكرانيا، ويبدو أن الخيارات أمام القاهرة كلها مريرة لمعالجة هذه الأزمة
وأدت الأزمة الروسية الأوكرانية إلى تعطّيل إمدادات القمح من البلدين إلى مصر، التي تُعَدّ أكبر مستوردٍ للقمح في العالم. إذ وفّرت روسيا وأوكرانيا في السابق أكثر من 80% من واردات القمح المصرية.
وتشكل احتمالية نقص الخبز واحدةً من التحديات الأمنية الأكثر خطورة التي تواجهها الدولة المصرية منذ الإطاحة بحكم الرئيس المنتخب محمد مرسي عام 2013، وتنصيب عبد الفتاح السيسي على رأس السلطة عام 2014، في بلدٍ يأتي السخط السياسي داخله عقب ارتفاع أسعار الغذاء عادةً، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
يُباع رغيف الخبز المدعم في مصر بخمسة قروش، وتُخصص البلاد خمسة أرغفة لكل فرد مؤهل للحصول على التموين، وتستخدم أموال الخزانة العامة لتعويض أصحاب المخابز عن خسائرهم.
ويقول محمد سليمان، الباحث المصري في مؤسسة Middle East Institute بواشنطن: "تشعر الحكومة بالقلق الشديد. وقد دخلوا في وضعٍ يُشبه مكافحة الحرائق".
إذ يُعَدُّ الخبز، أو العيش كما يُسميه المصريون، أحد أجزاء العقد الاجتماعي في مصر، حيث يتعين على الحكومة توفير الغذاء، والوقود، والكهرباء بأسعارٍ معقولة. ويأكل المصريون خبزاً أكثر من أي شعبٍ آخر في العالم بمقدار نحو 150 كغم للفرد سنوياً في المتوسط، أي ثلاثة أضعاف الرقم العالمي تقريباً.
أزمة القمح الروسي والأوكراني تدفع مصر للبحث عن بدائل
ونتيجةً لتفاقم أزمة القمح العالمية، تسعى الحكومة المصرية لبناء شبكةٍ عالمية جديدة لواردات القمح تمتد من الباراغواي وحتى الهند.
وأمرت الحكومة كذلك مزارعي البلاد بحصاد المحاصيل في وقتٍ أبكر من المعتاد العام الجاري، حيث تستهدف شراء الحبوب محلياً بنسبة أكبر من العام الماضي بمقدار 57% وفقاً لحسابات صحيفة Wall Street Journal الأمريكية المبنية على البيانات الرسمية.
وقد سعت مصر للحصول على قروض واستثمارات بمليارات الدولارات من الحكومات المجاورة وصندوق النقد الدولي لمساعدتها في سداد تكلفة الخدمات الاجتماعية مثل برنامج الخبز المدعم، الذي يوفر الخبز "البلدي" وغيره من السلع الأساسية بشكلٍ شبه مجاني لـ72 مليون مصري من أصل 103 ملايين نسمة.
وفرضت قيوداً على أسعار الخبز
بينما حددت السلطات الأسعار التي يمكن للمخابز تقاضيها عن الخبز البلدي غير المدعم والخبز الفينو، الذي يمثل أحد السلع الأساسية الشهيرة في أوساط الطبقة العاملة المصرية.
وأدّت هذه الإجراءات إلى الضغط على الأسواق المفتوحة التي يتوجه إليها العديد من المصريين لشراء احتياجاتهم الأساسية. ويقول باعة الخبز إن المخابز تتكلف أسعاراً مرتفعة، لكن الحكومة لا تسمح لها بتمرير تلك الأسعار إلى العملاء بالكامل. حيث تدفع المخابز المزيد من أجل الحصول على الدقيق والسكر، ما يدفعها لتقليل الإنتاج ويتسبب في أزمات نقصٍ متقطعة.
ويقول محمود ممدوح (35 عاماً)، الذي يملك مخبزاً لبيع الخبز الفينو غير المدعم: "نتعرض لضغطٍ كبير".
ويشعر ممدوح بالإحباط من المسؤولين في وزارة التموين والتجارة الداخلية تحديداً، الذين زاروا متجره لفرض قيود الأسعار على الفينو. إذ علّقوا لافتةً تُظهر أسعار الرغيف الجديدة بالقرب من مدخل متجره قبل عطلة العيد، في مطلع مايو/أيار.
وعلى بعد بضع بنايات سكنية، وقف بائع الخبز البلدي صبحي محمد (40 عاماً) لينتقد الحكومة قائلاً: "لا أمانع تحديد الأسعار، ولكن يجب تعويضنا بالدعم".
ويُغلق أصحاب المتاجر أبوابهم في نهاية اليوم بمكاسب أقل، لكن أحداً لا يجرؤ على الاحتجاج. إذ أصبحت المعارضة المنظمة أمراً نادر الحدوث منذ قمع السيسي للخطاب العام على مدار نحو عقدٍ من الزمن، وألقى بالمعارضين والصحفيين في غياهب السجون، حسب وصف الصحيفة الأمريكية.
وقد تسابقت حكومات العالم، من تركيا إلى إندونيسيا والصومال ولبنان، من أجل العثور على موردين جدد والتكيف مع ارتفاع الأسعار منذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا. لكن المخاطر تُعَدُّ أكبر في مصر على نحوٍ خاص لأنها أكثر دول المنطقة تكدساً بالسكان، فضلاً عن أن اقتصادها كان يُعاني بشدة قبل اندلاع الحرب.
الخبز كان سبباً لانتفاضة السبعينيات وثورة يناير
ولا شك أن ارتفاع أسعار الخبز سيمثل ضربةً موجعة لبلدٍ يعيش نحو 30% من سكانه على أقل من دولارين في اليوم، وفقاً للإحصاءات الرسمية المصرية. ويصل سعر رغيف البلدي غير المدعم حالياً إلى نحو 7 سنتات، بينما لا يتجاوز سعر الرغيف المدعم السنت الواحد.
ويُذكر أن الرئيس الأسبق أنور السادات حاول قطع الدعم عن السلع الغذائية وبعض أنواع الخبز في أواخر السبعينيات، لكن الاحتجاجات اندلعت في المدن الكبرى على مدار يومين وخلّفت عشرات القتلى. ما دفع السادات إلى إلغاء خططه سريعاً.
وفي عام 2011، تضافر ارتفاع أسعار الخبز مع مصادر الاستياء الأخرى مثل عنف الشرطة وفساد الحكومة والفقر والبطالة ليساعدوا في الإطاحة بالرئيس الأسبق حسني مبارك، ضمن سلسلة احتجاجات ضربت المنطقة وتُعرف باسم الربيع العربي.
وقد ارتفعت تكلفة توفير الخبز الرخيص والسلع الغذائية الأخرى بشكلٍ حاد على الحكومة المصرية في السنوات الأخيرة. وتُقدّر هذه الفاتورة بنحو 4.9 مليار دولار للسنة المالية 2023، مقارنةً بـ4.7 في السنة السابقة بحسب الإحصاءات الرسمية.
ووفرت السلطات في أبريل/نيسان 350 ألف طن قمح من فرنسا، وبلغاريا، وروسيا. كما تقول السلطات إنها بانتظار شحنات أخرى من الهند، رغم أن محاصيل البلاد تعاني من موجة حرارة، ولكن نيودلهي وعدت القاهرة باستثنائها من حظر تصدير القمح الذي فرضته الهند بسبب ارتفاع الأسعار لديها محلياً.
وكان يُفترض أن يصل نحو 300 ألف طن من القمح الأوكراني إلى الموانئ المصرية، لكن تلك الشحنة لا تزال عالقةً في أوكرانيا بحسب التجار.
الحكومة تستثنى القمح من تخفيض الدعم وترفض زراعة بديل له
من ناحيته خفض السيسي الدعم عن بعض السلع الغذائية ومصادر الطاقة امتثالاً للشروط التي فرضها صندوق النقد الدولي منذ 2016 من أجل إمداده بمليارات الدولارات، لكنه لم يقترب من برنامج الخبز المدعم مطلقاً، رغم تفاقم أزمة القمحن وعجزت السلطات عن إجراء أي تغييرات بخلاف تقليل حجم الأرغفة، رغم أن السيسي دعا ذات مرة لإنهاء دعم الخبز.
ولا تمتلك مصر الكثير من الحلول لتوفير المزيد من القمح. إذ تشكل الصحاري نحو 98% من إجمالي مساحتها، كما تتفاقم مشكلاتها في الوصول إلى المياه مع تفاقم أزمة سد النهضة، بينما رفضت السلطات دعوات التحول لزراعة حبوبٍ أخرى، مثل الذرة العويجة والشعير التي تستهلك كميات مياه أقل، بسبب الشعبية الجارفة للقمح في البلاد.
وربما تمتلك البلاد نهر النيل الذي يعد أحد أعظم الموارد المائية في العالم، لكن حقوقها فيها محدودةٌ بموجب اتفاقية تقاسم مياه النيل مع السودان لعام 1959.
وهناك محاولة لإحياء مشروع توشكي الذي فشل أيام مبارك
وفي أواخر أبريل/نيسان، تفقّد السيسي مجموعةً من الأراضي الزراعية في الجنوب الغربي إيذاناً ببدء موسم حصاد القمح المحلي. وتقع منطقة توشكى في منخفضٍ طبيعي، وتعتبر جزءاً من مبادرة مشروع لم يكتمل منذ التسعينيات، وقد قرر السيسي إعادة إحيائها في محاولةٍ لاستزراع مئات الآلاف من الأفدنة، علماً بأن المشروع لم يحقق نجاحاً في عهد مبارك، وجُوبه بانتقادات شديدة في عصره.
وتهدف السلطات إلى خفض نسبة القمح المستورد إلى 25%، بدلاً من نسبة 62% تقريباً المسجلة حالياً.
ويشكو مزارعو القمح في مصر من أن الحكومة تجبرهم على توريد المحصول بأسعار مجحفة، وتفرض عقوبات في حال التزامهم بالتوريد.
في ما يجلس رئيس شعبة المخابز بالغرفة التجارية للقاهرة، عطية حماد، داخل مكتبه في أحد أحياء شمال القاهرة المتداعية. وقد انشغل حماد في الأسابيع الأخيرة بمحاولة ضمان عدم خروج الأسعار عن السيطرة في كل خطوة من خطوات عملية إنتاج الخبز.
وأوضح حماد أن الحكومة ستُبقي القيود المفروضة على أسعار الخبز غير المدعم طالما دعت الحاجة لذلك، كما ستحافظ على أسعار الخبز المدعم عند المستويات الحالية.
وأردف أن السلطات قد تستبعد حوالي 20 مليون شخص من بطاقة التموين الخاصة بدعم الغذاء، واللازمة من أجل الحصول على حصة الخبز المدعم.
إذ تُراجع وزارة التموين قواعد بياناتها حالياً للتأكد من أن المستفيدين بالدعم يستوفون المعايير المفروضة، ومنها ألا يتخطى أجر الفرد 2,500 جنيه/شهر (135 دولاراً)، وألا يمتلك سيارة، وألا يكون أطفاله قد التحقوا بإحدى المدارس الدولية باهظة الرسوم وفقاً لحماد.
هل يرفع السيسي أسعار الخبز؟
وكان السيسي قد لوّح بفكرة رفع أسعار الخبز المدعم العام الماضي. إذ قال في أغسطس/آب: "لا أستطيع توفير 20 رغيف خبز بسعر سيجارة واحدة"، ليصبح بذلك أول رئيس مصري يطرح احتمالية رفع أسعار الخبز منذ انتفاضة الخبز عام 1977.
وقد انفجر المصريون احتجاجاً على الشبكات الاجتماعية عقب ذلك التصريح، لدرجة أن أنصار السيسي قالوا إن الخبز هو الخط الأحمر الذي لا يجب المساس به. حيث أصدر عضو البرلمان فريدي البياضي خطاباً مفتوحاً للسيسي يطالبه فيه بإعادة النظر في الفكرة.
وكتب البياضي: "رغيف العيش أمن قومي، وهو الغذاء الأساسي وقد يكون الوحيد لملايين المواطنين".
أما في العام الجاري، فلم يتحدث السيسي علناً عن خططه للخبز المدعم على الإطلاق، رغم وصول أزمة القمح إلى مستوى غير مسبوق، ولكن قال وزير التموين مصيلحي إن بإمكان الحكومة تقليص حجم البرنامج ليغطي احتياجات الفئات الأفقر فقط -أقل من 25 مليون مواطن- والتي ستكون مستحقةً للخبز المدعم دون غيرها. وبالتالي لن تتغيّر الأسعار بالنسبة لهؤلاء.
وتقليدياً تنصح الأجهزة الأمنية المصرية النظام بعدم رفع أسعار الخبز، وقد يكون البديل بالنسبة للنظام، هو تقليص حجم المستفيدين من منظومة دعم الخبز، بدلاً من القرار المثير للجدل بإلغائها أو رفع سعر الرغيف المدعم الذي تحول إلى خط أحمر لدى كثير من المصريين.