كان "صندوق أبراهام"، المنبثق عن اتفاقيات التطبيع، الشيء الوحيد الملموس بشأن صفقة القرن، فأين ذهبت المليارات الموعودة؟ هذا ما قدمت صحيفة The New York Times الأمريكية الإجابة عنه في تقرير فضح دور صهر ترامب ووزير ماليته.
هل استغل صهر ترامب ووزير خزانته "صندوق أبراهام" لتمديد العمل مع الخليج بعد الخروج من السلطة؟ جاء السؤال عنواناً لتقرير الصحيفة الأمريكية، الذي رصد "الصندوق" منذ الإعلان عنه وحتى ما بعد مغادرة ترامب للبيت الأبيض وما حصل عليه جاريد كوشنر وستيفن مونشين.
كان "صندوق أبراهام" ضلعاً رئيسياً في صفقة القرن التي كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يظن أنه يمكن من خلالها إقناع الفلسطينيين بالتخلي عن إقامة دولة فلسطين المستقلة مقابل "الازدهار الاقتصادي"، وتم الإعلان عنه كفكرة خلال ورشة عمل "السلام من أجل الازدهار" في البحرين في يونيو/حزيران 2019.
ووفقاً لوثائق اطلعت عليها رويترز وقتها، كانت خطة "صفقة القرن" تنص على تأسيس صندوق استثمار بقيمة 50 مليار دولار لتعزيز الاقتصاد الفلسطيني واقتصادات الدول العربية المجاورة.
"صندوق أبراهام" برئاسة صهر ترامب
لكن مسؤولو إدارة ترامب، قُبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2020، كشفوا رسمياً عن برنامجٍ ترعاه الحكومة الأمريكية يُسمى "صندوق أبراهام"، وقالوا إنه سيُجمع له 3 مليارات دولار تُستخدم لتنفيذ مشروعات في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
ترأس الصندوق صهر ترامب ومستشاره، جاريد كوشنر، وتعهَّد الأخير باستخدام الصندوق وسيلةً لاغتنام مكاسب الاتفاقات الدبلوماسية التي تصدَّر لها بين إسرائيل وبعض الدول العربية، أي الاتفاقيات المعروفة باسم "اتفاقات أبراهام". وشارك ستيفن مونشين، وزير الخزانة آنذاك، في إطلاق الصندوق بُعيد رحلة إلى الإمارات وإسرائيل، وأثنى على الاتفاقيات التي وصفها بأنها "أساس شامخ لنمو اقتصادي" قادم.
لم يزد الأمر على كونه مجرد كلام، فلا حسابات أُنشئت ولا موظفين عُينوا ولا أموال خُصِّصت ولا مشروعات بدأت، وهكذا رحل ترامب، فاختفى الصندوق. لكن كوشنر ومونشين لم يكونا ليتركا رحلاتهما إلى الشرق الأوسط في الأشهر الأخيرة من عهد ترامب، وسعيهما من أجل جمع الأموال للمشروع تذهب سُدى، فأنشأ كل منهما بسرعة صندوقاً خاصاً يعمل بطريقة ما على مواصلة ما توقف عنده "صندوق أبراهام"، تقول "نيويورك تايمز".
استدعى كل من كوشنر ومونشين كبار المعاونين الذين كانوا قد ساعدوهم في التودد إلى حكام الخليج خلال حملة ترويج صندوق أبراهام، وسرعان ما عاد كلاهما يطرق أبواب القصور الملكية طلباً لأموال الاستثمارات، وإن كانت لمساعٍ تجارية بحتة هذه المرة.
ذكرت وثائق أعدَّها صندوق الثروة السيادي السعودي، ولم يُكشف عنها سابقاً، أنه لم يمض ثلاثة أشهر إلا وكانت شركة مونشين الجديدة أعلنت عن خطط استثمارية مفصلة، وتلقت تعهدات باستثمار يصل إلى 500 مليون دولار من الإماراتيين والكويتيين والقطريين، وسرعان ما أبلغ الصندوق السعودي نفسه عزمه استثمار مليار دولار. أما شركة كوشنر الجديدة، فتوصلت إلى اتفاق مع السعوديين لاستثمار ملياري دولار بعد ستة أشهر من مغادرة ترامب منصبه.
وكشف تقرير نشرته صحيفة The New York Times الشهر الماضي عن استثمارات السعودية في صندوقي كوشنر ومونشين، ليحذِّر بعدها خبراء نزاهة ونواب ديمقراطيون مما قد تنطوي عليه هذه الاستثمارات من استغلال للسلطة وتوظيف لقرارات رسمية صدرت خلال عهد ترامب، علاوةً على أن أسفار الرجلين إلى الخليج في آخر عهد ترامب تثير شكوكاً أخرى فيما إذا كانا قد سعيا لاستغلال علاقات رسمية مع قادة أجانب لتحقيق مصالح تجارية خاصة.
زيارات كوشنر للمنطقة وما حققه خلالها
زار كوشنر منطقة الشرق الأوسط ثلاث مرات في الأسابيع التي أعقبت الانتخابات الأمريكية، وكان آخرها زيارة عُقدت في 5 يناير/كانون الثاني والتقى فيها زعماء دول الخليج خلال "قمة العُلا" التي أقيمت في السعودية. وبدأ مونشين في ذلك اليوم جولة في المنطقة كان من المقرر لها أن تشمل اجتماعات خاصة مع رؤساء صناديق الثروة السيادية في السعودية والإمارات وقطر والكويت، أي جميع مستثمري المستقبل، إلا أن الجولة قطعتها أحداث الشغب في الكونغرس.
حرص كوشنر ومساعدوه بين الحين والآخر على إلباس شركته الخاصة، "أفينيتي بارتنرز" Affinity Partners، ثوبَ الشركة التي تعد استمراراً لصندوق أبراهام وخططه. وقالت مصادر للصحيفة الأمريكية إن مساعدي كوشنر أثناء زيارة إلى إسرائيل في مارس/آذار، قدَّموا الاستثمار في الشركة في صورة الفرصة لاغتنام المكاسب من السلام المزمع تحقيقه باتفاقات أبراهام.
استعان كل من كوشنر ومونشين بمساعدين كانت لهم مشاركة كبيرة في الاتفاقات، ومن هؤلاء اللواء المتقاعد ميغيل كوريا، وهو ملحق عسكري سابق في الإمارات عمل لاحقاً في البيت الأبيض وهو أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في شركة "أفينيتي" التابعة لكوشنر. أما صندوق مونشين، "ليبرتي استراتيجيك كابيتال" Liberty Strategic Capital، فاستعان بين أبرز مسؤوليه التنفيذيين بسفيرٍ سابق في إسرائيل ومساعد سابق بوزارة الخزانة الأمريكية شارك في تنظيم الاجتماعات مع قادة الخليج.
انتقل أحد المديرين التنفيذيين لشركة "ليبرتي استراتيجيك" من العمل الحكومي إلى عمله بالشركة بسرعةٍ جعلت الوظيفتين تبدوان متداخلتين. ومع أن الانتقال من الخدمة العامة إلى مسار الاستثمار الخاص ليس شيئاً غريباً في هذه الأوساط، إلا أن خبراء نزاهة يشيرون إلى أن حالة كوشنر ومونشين ومساعديهما، تثير الشكوك من جهة سرعة تحولهما من العمل العام إلى الخاص وبشأن الأموال التي جمعوها من حكام أجانب كانوا يتعاملون معهم حتى عهد قريب تعاملَ الموظفين الرسميين المفوضين من الولايات المتحدة.
وما يزيد الشكوك، ما كشف عنه محضر اجتماع لصندوق الاستثمارات العامة السعودي في يونيو/حزيران الماضي، واطلعت عليه صحيفة The Times البريطانية، من أن الاستثمار السعودي مع كوشنر أُقرَّ على الرغم من اعتراض اللجنة الاستشارية للصندوق بدعوى افتقار كوشنر إلى الخبرة، وعدم وجود مستثمرين بارزين في الشركة، والرسوم المرتفعة، و"المخاطر المتعلقة بالسمعة" لقرابة كوشنر من الرئيس الأمريكي السابق. وزعم خبراء نزاهة أن المبلغ الذي دفعته السعودية يمكن النظر إليه على أنه محاولة لاكتساب النفوذ إذا عاد ترامب إلى منصبه.
شبهات "الفساد" تطارد هؤلاء
وقالت كاثلين كلارك، أستاذة القانون في جامعة واشنطن، إن صندوقي استثمارات كوشنر ومونشين كليهما يثيران الشكوك ويستدعيان التحقيق في قضايا مختلفة، لا سيما وأن صندوق كوشنر "تفوح منه رائحة [فساد] كريهة، فالأدلة كلها تشير إلى أنه لم يتلق هذه الأموال على أي أسس موضوعية".
رفض متحدث باسم كوشنر التعليق. ونفى متحدث باسم مونشين سعي موكله لهذه الاستثمارات خلال توليه منصب وزير الخزانة، وقال إن بعض التفاصيل الواردة في الوثائق السعودية غير دقيقة. وأضاف المتحدث باسم مونشين أن موكله عاد إلى مهنة الاستثمار التي عمل بها طيلة عقود، وأن الشركة تضم مستثمرين متنوعين، منهم "شركات تأمين أمريكية، وصناديق ثروة سيادية، ومكاتب استثمار عائلية، وجهات استثمار أخرى".
كانت تعاملات مونشين التجارية في منطقة الشرق الأوسط قليلة قبل توليه منصب وزارة الخزانة في عهد ترامب، إلا أنه بعد تقلده هذا المنصب أمضى وقتاً أطول بكثير في زيارات إلى المنطقة واجتمع مراراً مع رؤساء صناديق الثروة السيادية، وفاق في ذلك جميع أسلافه المباشرين، فقد زار ممالك الخليج العربي أكثر من 18 زيارة على مدى أربع سنوات، في حين أن أسلافه الثلاثة في المنصب لم تتجاوز زياراتهم للمنطقة ثماني زيارات على مدى العقد السابق.
كشفت رسائل بريد إلكتروني حصلت عليها مجموعة Citizens for Responsibility and Ethics، واطلعت عليها صحيفة The Times، أن مونشين التقى محافظ صندوق الثروة السعودي، ياسر الرميان، تسع مرات على الأقل خلال رئاسة ترامب، وتنوعت أماكن اللقاء بين البحرين وسويسرا وقاعة اجتماعات بوزارة الخزانة الأمريكية. وعقد مونشين اجتماعات عديدة مع أمير قطر ومسؤولين قطريين آخرين، كما التقى رئيس جهاز قطر للاستثمار 10 مرات على الأقل.
بالإضافة إلى ذلك، التقى مونشين رؤساء صندوقي الاستثمار الرئيسيين في الإمارات خمس مرات، واجتمع بحكام الإمارات والسعودية مراراً، وشمل ذلك لقاءً خاصاً مع ولي العهد السعودي في الرياض عام 2018، بعد مدة قصيرة من قتل عملاء المملكة الكاتب والمعارض السعودي جمال خاشقجي. وتشير الوثائق إلى أن مونشين صادقَ الشيخ محمد بن زايد، الذي أصبح رئيساً لدولة الإمارات مؤخراً.
كيف استفاد كوشنر من رئاسة "ترامب"؟
أما كوشنر، فقد انتهز رئاسة ترامب لبلوغ غاية آماله، وهي التوسط في "صفقة القرن" أو ما يصفها مهندسوها بأنها "خطة سلام للشرق الأوسط" تعتمد على تمويل من السعودية وجيرانها. وكان جوهر الخطة هو استدرار المال من دول الخليج لإقناع الفلسطينيين بالتخلي عن مطالبهم المتعلقة بإنشاء دولة لهم. وكان تتويج هذه المساعي مؤتمر "السلام من أجل الازدهار" الذي نظمة كوشنر ومونشين في البحرين، ولم يحضره أي مسؤول فلسطيني.
وللتقرب من حكام الخليج، شارك كوشنر في إقناع ترامب بأن يستهل رحلاته الرئاسية إلى الخارج بزيارته إلى السعودية في عام 2017، وهي الزيارة التي أعقبها بوقت قصير إعلان حكام السعودية والإمارات حصارهم على قطر. وفي حين أن وزيري الدفاع والخارجية الأمريكيين طالبا بإنهاء الحصار، أيَّد ترامب استمرار الحصار في البداية.
تحالف كوشنر تحالفاً وثيقاً مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وحتى بعد أن خلصت تحقيقات الاستخبارات الأمريكية إلى أن ولي العهد أقر الاغتيال الوحشي لخاشقجي، دافع كوشنر عن الأمير في البيت الأبيض.
لم تكد تمر ثلاثة أسابيع على مغادرة ترامب منصبه إلا وعاد مونشين إلى عمله في مجال الاستثمار، وقال إن لديه خطة لكنه غير مستعد بعدُ لمناقشتها، غير أنه بحلول أبريل/نيسان 2021، كانت شركته تعرض على المستثمرين المحتملين قائمة مفصلة بالصناعات التي يستهدف صندوقه الاستثمار فيها، وفقاً لما كشفت عنه وثائق الصندوق السعودي. وأشارت الوثائق أن الشركة صاغت هيكلاً قانونياً يمكن صناديق الثروة السيادية الأجنبية من الاستثمار في صناعات أمريكية حساسة استراتيجياً، واستعانت بالفعل بمسؤولين سابقين في وزارة الخزانة ووزارة الخارجية الأمريكية.
أما كوشنر، فإن انطلاق شركته كان أبطأ بكثير، وحتى في الوقت الذي توصل فيه إلى اتفاقه مع الصندوق السعودي في يوليو/تموز الماضي، لم يكن قد عين بعدُ أي مدير تنفيذي يتمتع بالخبرة في مجال الاستثمار ذي الصلة، بل استعان بأقرب مساعديه آفي بيركوفيتش، والجنرال كوريا الملحق العسكري السابق في الإمارات، والحاخام أرييه لايتستون وهو دبلوماسي سابق في تل أبيب شارك في الإعداد لاتفاقات أبراهام وعُيِّن مديراً لصندوق الاستثمارات التابع لها.
استثمر صندوق كوشنر حتى الآن في شركتين إسرائيليتين، وقال مسؤولون إن الصندوق ينوي الاستثمار في الدول الفقيرة التي تنضم إلى اتفاقات أبراهام، ومع ذلك قيل إن مشروعاته الأولى تشمل "تطوير" نقاط التفتيش بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية، وبناء خط أنابيب لنقل الغاز بين البحر الأحمر والبحر المتوسط، إلا أن أياً من المشروعين لم يتحقق فيه شيء، ولا أفلحت مساعي توظيف أموال الخليج.
وفي يناير/كانون الثاني من ذاك العام، أفصح آدم بوهلر، الصديق المقرب لكوشنر ورئيس المؤسسة الأمريكية للتمويل والتنمية الدولية في عهد ترامب، عن الاستثمار الوحيد المعلن عنه في صندوق أبراهام، وهو "استثمار يصل إلى 50 مليون دولار" من أوزباكستان، وهي دولة منخفضة الدخل نسبياً.
وقال مسؤولون أوزبكيون إنهم يسعون للحد من الفقر وتعزيز التعاون الإقليمي. ومع ذلك، أشار البعض إلى الانتقادات التي لطالما تعرضت لها أوزباكستان بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وقالوا إن نظامها الحاكم لجأ إلى حملة علاقات عامة في واشنطن لتحسين صورة القيادة الجديدة. كما أهدى ترامب منحوتة فضية ثمنها 2950 دولاراً أمريكياً، أما صندوق أبراهام فلم يتلق أياً من تلك الأموال التي وُعد بها.