"عهد بوتين معجزة الرب"، عندما يصدر هذا التوصيف من رجل دين كان يوصف بالإصلاحي وانتقد تزوير الانتخابات في يوم من الأيام؛ فمن الواضح أن هناك سراً خطيراً قد يكون وراء هذا التغير الكبير الذي أصاب بطريرك الكنيسة الروسية الأرثوذكسية كيريل الأول، الذي بات يُتهم الآن بأنه شريك بوتين في حرب أوكرانيا.
ففيما كان الغزو الروسي لأوكرانيا مستمراً، عقد البطريرك كيريل الأول، رأس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في موسكو، اجتماعاً محرجاً مع البابا فرانسيس عبر تطبيق "زووم" (Zoom).
وكان الزعيمان الدينيان قد عملا سابقاً لتجسير انقسام عمره ألف عام بين الكنيستين المسيحيتين الشرقية والغربية. لكنَّ الاجتماع انعقد وهما على طرفي نقيض من خلاف آخر. أمضى كيريل 20 دقيقة في تلاوة تصريحات مُعدَّة سلفاً، تكرر حجج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنَّ الحرب في أوكرانيا كانت ضرورية لتطهير النازية والتصدي لتوسع حلف شمال الأطلسي (الناتو).
كان فرانسيس مذهولاً على نحوٍ واضح. فقال بابا الفاتيكان لكيريل، مثلما روى لاحقاً لصحيفة Corriere della Sera الإيطالية: "يا أخي، لسنا كهنة الدولة". وأضاف: "لا يمكن للبطريرك أن يحول نفسه إلى خادم مذبح لبوتين".
"معجزة الرب".. بطريرك الكنيسة الروسية في قلب أيديولوجية بوتين التوسعية
واليوم، لا يقف كيريل بعيداً عن فرانسيس فقط، بل عن معظم العالم. وقد رهن كيريل (75 عاماً)، وهو أب لنحو 100 مليون مسيحي، فرص فرعه من المسيحية الأرثوذكسية بتحالف وثيق يعود بالنفع على الطرفين مع بوتين، حيث يقدم له الغطاء الروحي في حين تحصل كنيسته، وفي الغالب هو نفسه، على موارد هائلة في مقابل ذلك من الكرملين، الأمر الذي يسمح له بمد نفوذه في العالم الأرثوذكسي، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
وبالنسبة لمنتقديه، فقد جعل هذا الاتفاق كيريل أكثر بكثير من مجرد مسؤول آخر مخلص أو أوليغاركي أو عامل تمكين لبوتين، بل جزءاً أساسياً من الأيديولوجيا القومية الموجودة في القلب من مخططات الكرملين التوسعية.
وصف كيريل عهد بوتين الطويل بأنَّه "معجزة من الرب".
يخشى اختراق المثليين لأوكرانيا، والأوروبيون يتحضرون لمعاقبته
ووصف الحرب بأنَّها دفاعٌ عادل في وجه المؤامرات الليبرالية لاختراق أوكرانيا بـ"مَسيرات فخر المثليين".
ويُعَد دور كيريل مهماً جداً لدرجة أنَّ المسؤولين الأوروبيين أدرجوه ضمن قائمة من الأفراد الذين يعتزمون استهدافهم في جولة مقبلة من العقوبات ضد روسيا، وذلك وفقاً لأشخاص اطلعوا على القائمة.
وسيكون مثل هذا الإجراء التوبيخي إجراءً غير معتاد بحق زعيم ديني، لربما تكون أقرب سوابقه هي العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة بحق المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي.
وفي حين يُرجَّح أن يُنظَر إلى العقوبات داخل روسيا وكنيستها باعتبارها مجرد دليل آخر على العداء من جانب الغرب الملحد، فإنَّها يمكن أن تكشف حجم التحول في ميزان القوة داخل الكنيسة الأرثوذكسية التي غالباً ما تكون منقسمة انقساماً مريراً.
قال إنزو بيانكي، وهو أسقف كاثوليكي إيطالي التقى كيريل لأول مرة في السبعينيات، في مؤتمرات نظَّمها هو لتعزيز المصالحة مع الكنيسة الأرثوذكسية: "هذا جديد".
وشعر الأب بيانكي بالقلق من أنَّ فرض عقوبات على زعيم ديني يمكن أن يُشكِّل سابقة خطيرة "للتدخل السياسي في الكنيسة". مع ذلك، اعتبر بيانكي أنَّ تحالف كيريل مع بوتين كارثي.
كل ذلك أثار التساؤل حول سبب تحالف كيريل بصورة كلية بهذا الشكل مع ديكتاتور روسيا.
لماذا تحول البطريرك من انتقاد أخطاء الكرملين إلى هذا التحالف الكارثي؟
يتفقان على مشروع العالم الروسي الأكبر
يقول مراقبون عن كثب، وأولئك الذين عرفوا كيريل، إنَّ جزءاً من الإجابة يتعلَّق بنجاح بوتين في إخضاع البطريرك؛ لأنَّ لديه لاعبين آخرين مهمين في هيكل السلطة في روسيا. لكنَّ ذلك ينبع أيضاً من طموحات كيريل نفسه.
إذ تطلَّع كيريل في السنوات الأخيرة لتوسيع نفوذ الكنيسة، واتباع أيديولوجيا متسقة مع كون موسكو هي "روما الثالثة"، في إشارة إلى فكرة "المصير الواضح" لدى الكنيسة الأرثوذكسية والتي تعود إلى القرن الخامس عشر، والتي من شأن روسيا بوتين فيها أن تصبح المركز الروحي للكنيسة الحقيقية بعد روما والقسطنطينية.
وهذا مشروع كبير يتوافق تماماً، بل وأَلْهَم، إمبريالية بوتين المشوبة بالغموض المتمثلة في فكرة "Russkiy Mir"، أو عالم روسي أكبر.
قال سيرغي تشابنين، وهو زميل أول في الدراسات المسيحية الأرثوذكسية بجامعة فوردهام، والذي عمل مع كيريل سابقاً في بطريركية موسكو: "نجح (كيريل) في إقناع بوتين، الذي كان يتطلَّع لأيديولوجيا محافظة، بمفهوم القيم التقليدية ومفهوم (Russkiy Mir)".
كيريل كانت له علاقة خفية بالاستخبارات السوفييتية على الأرجح
وُلِدَ كيريل باسم فلاديمير ميخائيلوفيتش غوندياييف عند نهاية الحرب العالمية الثانية، ونشأ، شأنه شأن بوتين، في شقة صغيرة بمدينة سان بطرسبرغ خلال الحقبة السوفييتية. لكن في حين صوَّر بوتين نفسه باعتباره طفلاً قضى معظم وقته في الشارع وكان كثير الشجارات، جاء كيريل من سلالة من رجال الكنيسة، بما في ذلك جدٌ له عانى في معسكرات الغولاغ بسبب دينه.
قال كيريل، ذات مرة على التلفزيون الرسمي الروسي: "حين عاد، قال لي: (لا تخف من أي شيء إلا الرب)". وكما هو الحال بالنسبة لكل نخبة رجال الدين الروس في هذه الحقبة، يُعتَقَد أنَّ كيريل تعاون مع لجنة أمن الدولة السوفيتية (KGB)، وهنالك تعلم مقايضته المبكرة هذه.
وكان إصلاحياً منفتحاً على الحوار
سرعان ما أصبح كيريل شخصاً ملحوظاً في الدوائر الأرثوذكسية الروسية، فمثَّل الكنيسة عام 1971 في "مجلس الكنائس العالمي" في جنيف، وهو ما سمح له بالتواصل مع رجال الدين الغربيين من الطوائف المسيحية الأخرى.
وقال الأب بيانكي: "كان دائماً منفتحاً للحوار".
كان التقليديون في البداية حذرين من أسلوب كيريل الإصلاحي. لكن كانت هناك أيضاً إشارات مبكرة على نزعة محافظة عميقة لديه. فكان كيريل أحياناً يشعر بالصدمة من المحاولات البروتستانتية لقبول النساء في الكهنوت، ومما يصفه بأنَّه استخدام الغرب لحقوق الإنسان من أجل فرض حقوق المثليين جنسياً وقيم أخرى مخالفة للمسيحية "بشكل ديكتاتوري" على المجتمعات التقليدية.
وفي عام 2000، العام الذي تقلَّد فيه بوتين السلطة في موسكو، نشر كيريل مقالاً، يتم إغفاله في كثير من الأحيان، يصف الترويج للقيم المسيحية التقليدية في مواجهة الليبرالية بأنَّها "مسألة حفاظ على حضارتنا الوطنية".
وانتقد تزوير بوتين للانتخابات
وفي ديسمبر/كانون الأول 2008، بعد وفاة سلفه أليكسي الثاني، أمضى كيريل شهرين في جولات، ويقول منتقدوه إنَّه كان بالأحرى يقوم بحملات دعاية، على الأديرة الروسية التي أبقت على شعلة العقيدة المحافظة متقدة.
وقد نجح الأمر، فورث في عام 2009 كنيسةً في خضم فترة صحوة ما بعد الاتحاد السوفييتي.
وقد ألقى كيريل خطاباً مهماً يدعو إلى نهج "سيمفوني" تجاه الانقسامات بين الكنيسة والدولة، بحيث يهتم الكرملين بالشواغل الدنيوية في حين تهتم الكنيسة بالدينية منها.
وفي نهاية 2011، دعم الانتقادات المُوجَّهة للانتخابات البرلمانية المزورة، وقال إنَّها ستكون "إشارة بالغة السوء" إذا لم ينتبه الكرملين.
ولكن بعدها أرسل له الكرملين إنذاراً غيّر كل شيء
غير أنه بعد ذلك بفترة قصيرة، طفت تقارير عن الشقق الفاخرة التي يملكها كيريل وأسرته في وسائل الإعلام الروسية. وبدأت تنتشر شائعات أخرى غير مؤكدة بشأن مليارات الدولارات في حسابات مصرفية سرية وشاليهات ويخوت سويسرية.
قال القس سيريل هوفورون، وهو قس أرثوذكسي كان مساعداً شخصياً لكيريل لـ10 سنوات، إنَّ البطريرك فسَّر تلطيخ سمعته على أنَّه رسالة من الكرملين بألا يتجاوز الدولة.
وقد غيَّر كيريل الاتجاه جذرياً، فمنح كامل الدعم لطموحات موسكو، ووفَّر القالب الأيديولوجي لها.
وقد جعل الكنيسة أسيرة للدولة
قال الأب هوفورون، الذي استقال احتجاجاً آنذاك: "أدرك (كيريل) أنَّ هذه فرصة للكنيسة كي تتقدَّم وتزوِّد الكرملين بالأفكار. وفجأة، تبنَّى الكرملين لغة كيريل، لغة الكنيسة، وبدأ يتحدث عن القيم التقليدية"، وكيف أنَّ "المجتمع الروسي بحاجة للارتقاء إلى العظمة مرة أخرى".
وأضاف الأب هوفورون أنَّ كيريل أخذ حديث بوتين عن كونه مؤمناً بحذر. وقال: "بالنسبة له، كان التعاون مع الكرملين وسيلة لحماية شكل ما من الحرية للكنيسة. لكن للمفارقة، يبدو أنَّ الأمر انتهى بالكنيسة في وضعية الأسيرة للدولة في فترة بطريركيته".
إذ طُمِسَ الخط الفاصل بين الكنيسة والدولة بصورة مطردة.
أيّد سجن فرقة ماجنة احتجت على علاقته ببوتين
ففي عام 2012، حين أدَّت فرقة "Pussy Riot" النسوية الماجنة أغنية "Punk Prayer" في كاتدرائية المسيح المُخلِّص بموسكو، للاحتجاج على العلاقة المتشابكة بين بوتين وكيريل، بدا أنَّ كيريل تولى زمام المبادرة في الضغط باتجاه سجن المجموعة. ودعم صراحةً ترشح بوتين للرئاسة.
حصدت كنيسته عشرات الملايين من الدولارات لإعادة بناء الكنائس والتمويل الحكومي للمدارس الدينية.
ورفع كيريل الضرائب بصورة كبيرة، ودون شفافية، على كنائسه، في حين ظلَّت الأصول الشخصية التي يملكها سرية. وبدأ تشابنين، الذي عيَّنه كيريل شخصياً لإدارة الصحيفة الرسمية للكنيسة، في توجيه الانتقادات له، وطُرِدَ من منصبه في 2015.
ونالت الكنيسة نصيباً أكبر من أموال الكرملين
وكما هو الحال بالنسبة لبوتين، استعرضت كنيسة كيريل عضلاتها بالخارج، فأغدقت الأموال على البطريركيات الأرثوذكسية في القدس وأنطاكية، ومقرها في سوريا. وقد آتت هذه الاستثمارات أكلها.
فهذا الشهر، مايو/أيار، عارضت بطريركية أنطاكية علناً العقوبات بحق كيريل، وأيَّدت رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، الذي يمكن القول بأنَّه أقرب زعيم أوروبي لبوتين، في وعده الذي أصدره هذا الأسبوع بأن يعرقل أي عقوبات بحق كيريل.
لكن بالنسبة لكيريل، ربما تكون موسكو في العالم الأرثوذكسي ذات أهمية قصوى.
والآن كنيسة أوكرانيا انفصلت عنه وأيدتها كنيسة القسطنطينية
أدَّى "الانشقاق الكبير" عام 1054 إلى انقسام بين الكنائس الغربية، الموالية للبابا في روما، والكنائس الشرقية في القسطنطينية. وفي القرون التالية، حافظ بطريرك القسطنطينية، الذي يوجد مقره في إسطنبول حالياً، على وضعية "الأول بين متساويين" بين الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، لكنَّ كنائس أخرى أصبحت نافذة، بما في ذلك موسكو.
دفع غزو موسكو لشرقي أوكرانيا عام 2014 الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستاءة بالفعل إلى القطيعة مع قرون من التبعية لبطريركية موسكو، وهو ما كلَّفها نحو ثلث أبرشياتها. وأجَّج اعتراف بطريركية القسطنطينية المسكونية بالكنيسة الأوكرانية التوترات بين موسكو والقسطنطينية.
امتدت الحرب الكنسية الداخلية إلى الحرب العسكرية، فاستخدمت موسكو حماية الأرثوذكس الذين لا يزالون موالين لكيريل في أوكرانيا ليكونوا جزءاً من ذريعة الغزو.
وأصبح رهينة لدى بوتين
ويبدو أنَّ حرب بوتين ودعم كيريل الآن قد أدَّيا إلى تراجع مشروعهما الكبير المشترك؛ إذ يتهم مئات القساوسة في أوكرانيا كيريل بـ"الهرطقة". وبات تهديد عقوبات الاتحاد الأوروبي يلوح في الأفق. وأُبعِدَت المصالحة مع الكنيسة الغربية عن الطاولة.
مع ذلك، لم يتردد كيريل، فدعا للدعم العام للحرب حتى يمكن لروسيا "صد أعدائها، في الخارج والداخل". وابتسم ابتسامة عريضة مع موالين آخرين في دائرة بوتين المقربة يوم 9 مايو/أيار خلال استعراض يوم النصر العسكري في موسكو.
ويقول البعض إنَّه لا خيار لديه إن أراد البقاء.
فقال تشابنين: "إنَّها فكرة مافيا من نوع ما. إذا انضممت، فقد انضممت وانتهى الأمر. لا يمكنك الخروج".