أصبحت المنظومة الأمنية، التي وضعتها فرنسا في منطقة الساحل الإفريقي 2013، تتداعى بسرعة وتتساقط حجارتها الواحدة تلو الأخرى، بعد انتقال المظاهرات المناوئة لوجودها في المنطقة إلى تشاد، وانسحاب مالي من مجموعة الساحل، وإعلان رئيس النيجر موت هذا التحالف.
قرابة 10 سنوات من التدخل العسكري الفرنسي في منطقة الساحل أثبتت لشعوب المنطقة فشل باريس في جلب الاستقرار وتداول السلطة بالمنطقة، بعد أن تمددت الجماعات المسلحة إلى مناطق لم تكن تحلم بها قبل 2013.
"وفاة" تحالف الساحل
قرار فرنسا في يونيو/حزيران 2021، إنهاء عملية برخان العسكرية، وسحب نحو نصف قواتها من المنطقة، والمقدرة بـ5100 عنصر، دون التشاور مع باماكو، دفع المجلس العسكري الحاكم في مالي، لاتخاذ عدة خطوات تصعيدية.
آخر هذه الخطوات انسحاب مالي من مجموعة دول الساحل الـ5، ومن قوتها العسكرية المكلفة بقتال الجماعات المسلحة في المنطقة، بعدما سبق لها أن أعلنت إلغاء الاتفاقيات الأمنية الموقعة مع فرنسا، وطالبتها بسحب كامل قواتها من أراضيها.
هذا الوضع دفع رئيس النيجر محمد بازوم، إلى وصف مجموعة دول الساحل الـ5 التي تضم كلاً من بلاده وتشاد وبوركينا فاسو وموريتانيا، بالإضافة إلى مالي، بأنها "ميتة"، وذلك في حوار مع صحيفة "لاكروا" الفرنسية.
بينما لم تخفِ موريتانيا، انزعاجها من انسحاب مالي من المجموعة واعتبرته "غير مبرر"، وسيؤثر على الوضعية الأمنية في المنطقة، وأرسلت وزير خارجيتها محمد سالم ولد مرزوك، الخميس، إلى باماكو لمحاولة إنقاذ الموقف.
فمالي تعد نقطة ارتكاز مكافحة الإرهاب في الساحل، ومنها انطلقت الجماعات المسلحة من الشمال، وزحفت نحو الجنوب لتنتشر في أجزاء واسعة من الصحراء الكبرى، بل وتمددت حتى بحيرة تشاد، والتقت مع جماعة بوكو حرام المتشددة في نيجيريا، وتحاول التوغل حالياً نحو دول غرب إفريقيا.
انتفاضة التشاديين
عادة ما كانت مالي والنيجر وبوركينا فاسو، أكثر بلدان الساحل التي شهدت مظاهرات شعبية منددة بوجود القوات الفرنسية على أراضيها، باعتبارها الأكثر تضرراً من هجمات الجماعات المسلحة، بينما لم تَعتَدْ تشاد على مثل هذا النوع من المظاهرات.
فالوجود العسكري الفرنسي في تشاد ليس حديثاً، بل يمتد لعقود طويلة، ولكن إعادة باريس نشر قواتها المنسحبة من مالي، والمقدرة بنحو 2400 عنصر، إلى مناطق مختلفة بينها تشاد، لفت انتباه السكان المحليين.
وتم تداول صور وأخبار للقوات الفرنسية بكثافة عبر شبكات التواصل الاجتماعي في تشاد، على غرار سعيها لإقامة قاعدة عسكرية بمنطقة "وُور"، بإقليم تيبستي، في الشمال على الحدود مع ليبيا، بحسب جريدة "الرأي" التشادية.
وفي 12 مايو/أيار الجاري، انفجر الوضع بتشاد في مظاهرات تدعو لرحيل القوات الفرنسية من بلادهم، ورفع المحتجون شعار "تشاد حرة وفرنسا على برا"، وحطموا النصب التذكاري للجنود الفرنسيين، الذي له رمزيته الخاصة.
ويتوعد منظمو هذه الاحتجاجات بالخروج كل سبت، لرفع المطالب نفسها، حتى انسحاب القوات الفرنسية من بلادهم.
لكن المجلس العسكري في تشاد، الذي يُعد أكثر حلفاء فرنسا الموثوقين في المنطقة، لم يتساهل مع هذه المظاهرات.
ورغم أن باريس ناصبت الانقلاب العسكري في مالي العداء، إلا أنها تعاملت بمرونة مع سيطرة الجنرال محمد ديبي، على الحكم خارج الإطار الدستوري، بعد مقتل والده إدريس ديبي.
وهذا أحد الأسباب التي دفعت المتظاهرين المناوئين لديبي الابن، بالخروج للشارع والمطالبة بمغادرة فرنسا لبلادهم، ليس فقط بسبب إخفاقها في ضمان الاستقرار في المنطقة، بل أيضاً لدعمها للمجلس العسكري، وماضيها الاستعماري.
وتصاعد الرفض الشعبي للوجود العسكري الفرنسي في الساحل من شأنه التعجيل برحيل معظم هذه القوات من المنطقة، خاصة مع قدرة السلطات الانتقالية في مالي على تحدي باريس، وحلفائها في غرب إفريقيا.
روسيا "تحاصر" فرنسا
إلى وقت ليس ببعيد، كانت فرنسا تفرض نفوذها على جميع بلدان الساحل، وكانت تشاد بمثابة دَرَكها في المنطقة، لكن نفوذها اليوم ينحصر تدريجياً.
فروسيا تحيط بالنفوذ الفرنسي بتشاد من مختلف الجوانب، عبر مستشاريها العسكريين ومرتزقة شركة فاغنر، المنتشرين في جمهورية إفريقيا الوسطى من الجنوب، وإقليم فزان الليبي من الشمال، وإقليم دارفور السوداني من الشرق، ومالي من الغرب، حيث لا يفصلها عن الحدود التشادية سوى النيجر.
وسبق أن اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية شركة فاغر الروسية بدعم هجوم المتمردين التشاديين على نجامينا، في أبريل/نيسان 2021، والذي انتهى بمقتل الرئيس إدريس ديبي، وانسحاب المتمردين إلى الأراضي الليبية، بعد دعم باريس "لوجيستياً" القوات التشادية، بحسب إعلام فرنسي.
وإذا انسحبت فرنسا من تشاد في هذا التوقيت، وهو أمر مستبعد، فإن ذلك يهدد بسقوط نظام ديبي الابن، بدعم روسي للمعارضة المدنية والمسلحة، أو تحالفه مع موسكو، وفي كلا الحالتين لن يخدم ذلك مصالح باريس في المنطقة.
حيث تصر فرنسا على إبقاء قواعد عسكرية لها في الساحل، مع تقليص تدخلها في الحرب على الجماعات المسلحة، ما يقلص حجم خسائرها البشرية والمادية.
انقلاب فاشل
في مالي أيضاً لم ينته مسلسل الانقلابات، فبعد ثلاثة انقلابات ناجحة منذ 2012، أعلنت باماكو إحباطها لانقلاب عسكري ليل 11-12 مايو/أيار الجاري، بقيادة العقيد "أمادو كيتا" مقرر لجنة الدفاع والأمن في المجلس الوطني الانتقالي (برلمان مؤقت)، وعسكريين آخرين.
والمثير في بيان الحكومة المالية اتهامها لـ"دولة غربية" لم تسمها بـ"مساندة" الانقلابيين، الذين قالت: إنهم "مجموعة صغيرة من الضباط وضباط الصف".
وواضح من بيان الحكومة المالية أنها تلمح لدور فرنسي في دعم المحاولة الانقلابية الفاشلة، بالنظر إلى أن العلاقات بين باريس وباماكو تتطور من سيئ إلى أسوأ.
ومن بين العسكريين الـ7، المتهمين بتدبير هذا الانقلاب، بابا أحمد آغ حميدة، أحد ضباط تنسيقية الحركات الأزوادية، الموقّعة على اتفاقية الجزائر للسلام في 2015، والذي ينفي أنصاره عنه هذه التهمة؛ لأنه اعتقل في 7 مايو/أيار، أي قبل 5 أيام من محاولة الانقلاب.
وعقب هذه المحاولة الانقلابية بمالي، أعلن مصدر حكومي في النيجر، طرد 6 ضباط من الخدمة العسكرية، على خلفية تورطهم في المحاولة الانقلابية ضد الرئيس محمد بازوم، في مارس/آذار 2021.
ويدعو هذا التسريب، في هذا التوقيت إلى الاستغراب، خاصة أنه جاء بعد نحو 15 شهراً من المحاولة الانقلابية، وبالتزامن مع إعلان باماكو إحباطها انقلاباً عسكرياً، كما أن كل المتهمين معتقلون، وطردهم من جيش النيجر تحصيل حاصل.
ما يرجح رغبة نيامي لتوجيه رسالة سياسية للخارج بأنها أيضاً ضحية للانقلابات العسكرية، وتوجيه تحذير ضمني إلى الداخل من مغبة المغامرة بمحاولة لقلب نظام الحكم.
وتمثل الانقلابات في دول الساحل معضلة رئيسة فاقمت الأزمة الأمنية في المنطقة، فباستثناء موريتانيا، شهدت دول الساحل الـ4 الأخرى، محاولات لضباط للاستيلاء على السلطة بطريقة غير دستورية، خلال السنوات الـ10 الأخيرة.
ولم تنجُ سوى النيجر من السقوط في يد الانقلابيين، بينما يقود بوركينا فاسو وتشاد ومالي قادة عسكريون.
فالمشهد الحالي في الساحل الإفريقي، يعيد تشكيل نفسه من خلال تراجع النفوذ الفرنسي، وتصاعد الوجود الروسي في المنطقة رغم انشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا.
كما أن الانقلابات العسكرية تحاصر الديمقراطيات الناشئة بالساحل الإفريقي، ما يعطي للجماعات المسلحة فرصة لتكثيف نشاطها، وسط هذا التدافع الإقليمي والدولي على مناطق النفوذ.