وقع في العاصمة الليبية ما كان يُحذِّر منه الجميع طوال أسابيع، وسقط قتلى وجرحى، في اشتباكات عنيفة بقلب طرابلس، بين قوات موالية لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، وكتيبة النواصي الداعمة لفتحي باشاغا، رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب في طبرق.
وأعلن الدبيبة، انتصاره في هذه المواجهة الدامية، ووفاة ما سماه "مشروع الانقلاب"، بينما قال باشاغا إنه اختار نزع "فتيل الفتنة"، واتخاذ مدينة سرت مقراً لحكومته.
ففي الوقت الذي كان الليبيون ينتظرون مباشرة حكومة باشاغا عملها من مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس) كما التزمت بذلك، وأن يناقش مجلس النواب مشروع الموازنة الذي تقدمت به من المدينة نفسها، كنوع من الدعم لها، إذا بباشاغا يظهر فجأة من قلب طرابلس، ويعلن أن حكومته بصدد "تسلم مقارها داخل العاصمة".
كتيبة مفتاحية
لم يكن هذا الكلام عبثياً؛ فباشاغا تمكن من استمالة إحدى أقوى الكتائب في طرابلس، التي كان في خصومة معها عندما كان وزيراً للداخلية.
فكتيبة النواصي (القوة الثامنة) التي يقودها مصطفى قدور، نائب رئيس جهاز المخابرات، تسيطر على أجزاء حساسة في قلب العاصمة، بينها مقرات رسمية، ويقع مطار معيتيقة الدولي ضمن نطاق نفوذها، في منطقة سوق الجمعة.
وزعم وزير الثقافة السابق حسن ونيس، أن باشاغا دخل طرابلس جواً من مطار معيتيقة الدولي، إلا أن ناشطين إعلاميين، بينهم الصحفي محمود المصراتي، المؤيد لباشاغا، ذكر أن الأخير توجه (براً) من مدينة سرت إلى بلدة الشويرف (400 كلم جنوب طرابلس)، ومنها تولت كتيبة النواصي تأمين وصوله إلى العاصمة.
وعقب دخول باشاغا، إلى طرابلس، رفقة وزيرين في حكومته، وإعلان كتيبة النواصي، في بيان لها، دعمها له؛ ظهر في فيديو مقتضب قال فيه: إنه سيعقد "مؤتمراً صحفياً.. لتوضيح الأمور ومهام عمل الحكومة".
وسرعان ما أدى ذلك إلى هجوم عنيف لقوات موالية لحكومة الوحدة، وعلى رأسها قوة الردع المشتركة، بقيادة عبد الغني الككلي (غنيوة)، على مقر كتيبة النواصي، وسط طرابلس.
الاشتباكات طالت عدة شوارع وأحياء في قلب طرابلس، على غرار شارع عمر المختار (الرئيس)، والمدينة القديمة، وطريق السكة، الذي يوجد به مقر الحكومة، والميناء، وسوق الثلاثاء، والنوفلية التي يوجد بها معسكر لكتيبة النواصي.
وخلفت الاشتباكات خسائر مادية طالت مرافق عامة وخاصة وعشرات السيارات التي احترقت.
وكشف المجلس البلدي طرابلس المركز عن إصابة 5 أشخاص؛ 4 منهم مدنيون، والخامس تابع للأمن الدبلوماسي.
بينما ذكرت صحيفة إندبندنت بالعربية، مقتل أحد عناصر "الكتيبة 166" مصراتة الداعمة لباشاغا، بمحيط معسكر كتيبة النواصي.
إقالات لداعمي باشاغا
الاشتباكات العنيفة بمعسكر كتيبة النواصي، والتي امتدت لساعات في أحياء وسط طرابلس، دفعت باشاغا، إلى الخروج من العاصمة صباح الأربعاء، بوساطة من "اللواء 444″، بقيادة محمود حمزة، والتوجه نحو الشويرف، بحسب محمود المصراتي.
ولاحقاً نشر باشاغا، على صفحته الرسمية بشبكات التواصل، بياناً قال فيه: "رغم دخولنا السلمي للعاصمة دون استخدام العنف وقوة السلاح.. فوجئنا بالتصعيد العسكري الخطير الذي أقدمت عليه مجموعات مسلحة" تابعة لحكومة الوحدة.
وبرر باشاغا، خروجه من طرابلس بأنه فضل "تغليب المصلحة الوطنية، ونزعنا فتيل الفتنة".
بينما قال الدبيبة إنه وافق "على فتح ممر آمن للمتسللين للفرار من طرابلس، لحقن دماء أبناء الشعب الواحد".
وهذه المرة الثالثة منذ مارس/آذار الماضي، التي يحاول فيها باشاغا دخول طرابلس براً، دون أن يتمكن من ذلك، لتصدي قوات حكومة الوحدة له.
لكن هذه المرة ستكون لها تداعيات مختلفة على المشهد السياسي والأمني للبلاد.
وبدأت هذه التداعيات من خلال إقالة الدبيبة، بصفته رئيساً للحكومة ووزيراً للدفاع، لأسامة الجويلي، من مهام وظيفته كمدير لإدارة الاستخبارات العسكرية.
والجويلي من الشخصيات العسكرية القوية في المنطقة الغربية، والمتحالفة مع باشاغا، حيث يقود كتائب الزنتان (170 كلم جنوب غرب طرابلس)، وأيضاً المنطقة العسكرية الجبل الغربي.
وكذلك الأمر بالنسبة لمصطفى قدور، قائد كتيبة النواصي، الذي أقيل من منصبه نائباً لرئيس جهاز المخابرات.
لكن حكومة الوحدة لا تملك القدرة على تنحية قدور من قيادة كتيبة النواصي؛ نظراً لولاء عناصرها لشخصه وليس للدولة، ما يوضح سبب صعوبة إقامة مؤسسة عسكرية احترافية.
كما طالت الإقالات وكيل وزارة الثقافة والتنمية المعرفية خيري المختار؛ ما يؤشر إلى أن الدبيبة، سيمضي في إقالة المسؤولين العسكريين والمدنيين الموالين لباشاغا، خاصة في طرابلس.
حيث ستمثل هذه المواجهة المسلحة، مبرراً للدبيبة، لاتخاذ قرارات أكثر جرأة، للسيطرة على طرابلس، رغم اتخاذ قائد الأركان محمد الحداد، الحياد، وكذلك عدد من الكتائب المسلحة.
إذ ليس من المستبعد أن تقوم قوات الدبيبة، بخوض جولة جديدة مع كتيبة النواصي لإخراجها من المناطق الحساسة في وسط طرابلس، أو احتوائها مجدداً.
لكن باشاغا، اشترط مقابل عدم عودته إلى طرابلس عدم سفك أي قطرة دم، في إشارة إلى عدم استهداف الكتائب الموالية له داخل العاصمة.
وقبل ثلاثة أيام من دخول باشاغا طرابلس، وقعت اشتباكات بالأسلحة الثقيلة لم يعرف سببها بمنطقة جنزور بالضاحية الغربية للعاصمة، بين الكتيبة 55 ورشفانة (40 كلم جنوب طرابلس) بقيادة معمر الضاوي، الداعم لباشاغا، وكتيبة فرسان جنزور، الموالية للدبيبة.
وليس من المستبعد أن تكون هذه المواجهات المسلحة لها علاقة بمحاولة باشاغا دخول طرابلس، ورغبة الكتائب الداعمة له في التمركز بالمناطق الحيوية داخلها.
حلفاء باشاغا قد يتخلون عنه
أحد أهم الأسباب التي دفعت كلاً من خليفة حفتر قائد قوات المنطقة الشرقية، وعقيلة صالح رئيس مجلس النواب بطبرق، وكذلك مصر وروسيا، إلى دعم باشاغا، تأكيده على قدرته على دخول طرابلس دون قتال، وأن القوة الفاعلة على الأرض تدعمه.
لكن مرور نحو شهرين ونصف دون أن يحقق باشاغا هذا الهدف، من شأنه إضعاف موقفه أمام حلفائه المحليين والدوليين.
والمفاوضات الجارية في القاهرة بين وفدين لمجلسي النواب والدولة، لبحث قاعدة دستورية، قد تؤدي إلى الاتفاق على تشكيل حكومة جديدة بديلة عن حكومتي باشاغا والدبيبة.
وهذا ما لمح له خالد المشري، رئيس مجلس الدولة (نيابي استشاري) عندما قال في حوار مع قناة محلية، "الحكومتان لا تريدان الذهاب إلى الانتخابات حتى بعد 5 سنوات، وحكومة الدبيبة لا تستطيع إجراءها؛ لأنّ نفوذها مقتصر على طرابلس وبعض المدن. لذلك، علينا التوافق على قاعدة دستورية وحكومة مصغّرة هدفها إجراء الانتخابات فقط".
وإن كان الدبيبة، حسم موقفه بعدم تسليم السلطة إلا لحكومة منتخبة، رغم صعوبة إجرائها في شرق وغرب البلاد، فإن موقف باشاغا سيكون صعباً إذا خسر دعم عقيلة صالح وحفتر.
فإذا اضطر باشاغا إلى مباشرة عمل حكومته من سرت، فسيجعله ذلك تحت رحمة قوات حفتر، وبعيداً عن كتائبه في المنطقة الغربية.
كما أن الجزائر وتركيا، تتفقان على ضرورة الذهاب مباشرة إلى الانتخابات، حيث قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، في أنقرة: "الجزائر تمتلك وجهة نظرة واحدة مع تركيا، بأنه لا يمكن أن يكون هناك حل دون انتخابات في ليبيا".
ومن شأن هذا الموقف أن يوازن دعم روسيا ومصر لحكومة باشاغا، بل قد يدفعهما لمراجعة موقفهما إذا لم يتمكن الأخير من دخول طرابلس.
الحل السياسي أصبح ملحاً
وصول الخلاف السياسي إلى مواجهات مسلحة، يزيد الضغط على السياسيين، وعلى رأسهم مجلسا النواب والدولة، للخروج باتفاق سريع لإنهاء الأزمة قبل انفلات الأوضاع إلى الأسوأ.
إذ إن عدة دول بينها الولايات المتحدة وفرنسا والجزائر دعت الأطراف الليبية إلى نبذ العنف.
كما أن الليبيين، بعد 11 سنة من الحرب الأهلية، تعبوا من الاقتتال، بدليل عدم مشاركة عدة كتائب مسلحة في القتال بطرابلس، وطالبت بضرورة إيجاد حل سياسي.
حيث دعت كتائب أمنية وعسكرية بالمنطقة الغربية، "جميع الأطراف السياسية للتوافق السريع على قاعدة دستورية لإجراء الانتخابات".
وهذا ما أشار إليه الدبيبة، عندما خاطب مجلسي النواب والدولة: "أمامكم الفرصة الأخيرة بإقرار قاعدة للانتخابات، ولن نقف مكتوفي الأيدي لتتحكموا في مصير الشعب الليبي".
وقد تعجل هذه الضغوطات الداخلية والخارجية إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، رغم التعقيد الذي تواجهه في ظل وجود حكومتين متنافستين.