شهدت أمريكا 33 حادث إطلاق نار جماعي خلال النصف الأول من مايو/أيار 2022 فقط، و202 حادث من هذا النوع القاتل منذ بداية العام، آخرها مجزرة نيويورك العنصرية، فهل أصبحت الولايات المتحدة أخطر مكان على وجه الأرض بالفعل؟
"إطلاق نار جماعي" مصطلح يتم استخدامه عندما يفتح شخص ما النار بطريقة عشوائية فيقتل أو يصيب 4 أشخاص على الأقل، دون أن يكون مرتكب الجريمة من بين القتلى أو المصابين، بحسب التعريف المعتمد لدى المنظمة الأمريكية "أرشيف عنف الأسلحة النارية Gun Violence Archive"، وهو التعريف نفسه الذي يعتمده مكتب التحقيقات الفيدرالية.
وكان فتى أمريكي يبلغ من العمر 18 عاماً قد فتح النار بشكل عشوائي ليقتل 10 أشخاص ويصيب 3 آخرين في متجر بقالة في بوفالو بمدينة نيويورك، قبل أن يسلم نفسه للشرطة. الفتى أبيض والضحايا أغلبهم من السود وصنفت الشرطة الحادث على أنه جريمة كراهية وعمل من أعمال "التطرف العنيف بدوافع عنصرية".
جريمة بوفالو وتفاصيلها المرعبة
كانت الجريمة التي ارتكبها بايتون غيندرون، وهو من البيض، قد سبقها تخطيط ومنشورات على الإنترنت تكشف عن توجهات عنصرية لا لبس فيها، ورغم ذلك تمكن المتهم من شراء سلاح ناري وقام بتعديله لإضافة خزانة رصاص أكبر حجماً، وقاد سيارته لمسافة ساعات وصولاً إلى بوفالو، الحي الذي تقطنه غالبية من الأمريكيين السود.
وقالت الشرطة إنه سيتم التحقيق فيه باعتبار الحادث جريمة كراهية وعملاً من أعمال "التطرف العنيف بدوافع عنصرية". وكان المتهم قد نشر فيما يبدو تصريحات عنصرية على الإنترنت.
القاتل، المدجج بالسلاح ويرتدي سترة واقية من الرصاص وملابس عسكرية وخوذة وكاميرا لبث جريمته على الهواء مباشرة على الإنترنت، أطلق النار أولاً على أربعة أشخاص في باحة للسيارات أمام سوبر ماركت "توبس"، ثلاثة منهم قتلوا قبل أن يدخل لمتابعة ارتكاب المجزرة.
وأطلق حارس أمن، وهو شرطي متقاعد، النار على المهاجم لكن الأخير بفضل سترته الواقية من الرصاص لم يصب بأذى، بل قام بالرد وإطلاق النار على الحارس. سرعان ما وصلت الشرطة إلى مكان الحادث، فوجه الشاب سلاحه نحو عنقه قبل أن يسلم نفسه للشرطة، بحسب تقرير لموقع إذاعة مونت كارلو الدولية.
القاتل المزود بكاميرا قام ببث جريمته على الهواء مباشرة على تويتر، لكن المنصة قامت بحذف المحتوى بعد "دقيقتين" من البث و"حذفت حساب المهاجم نهائياً" وأعلنت إنها "تخضع جميع الحسابات التي يحتمل أن تعيد نشر المحتوى للمراقبة". كما أشارت وسائل الإعلام الأمريكية إلى أن "بياناً" عنصرياً نُشر على الإنترنت في هذا الصدد.
ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن "البيان" إن المشتبه به "استوحى" فعلته من الجرائم التي ارتكبها متطرفون بيض في السابق، بما في ذلك مذبحة عام 2019 التي راح ضحيتها 51 شخصاً في مسجدين في مدينة كرايستشيرش بنيوزيلندا. كما كشفت "بوفالو نيوز" عن وجود كلمة "مسيئة وعنصرية" ومحظورة في الولايات المتحدة حول السود مكتوبة على السلاح الذي استخدمه.
كان الأسترالي برينتون تارانت قد ارتكب، خلال مارس/آذار 2019، جريمة إطلاق نار جماعي بحق مسلمين يؤدون صلاة الجمعة في مسجدين بمدينة كرايستشيرش، وأخبر المحكمة بأنه ظل يخطط لجريمته لمدة عامين، مقراً بذنبه في 51 تهمة بالقتل و40 تهمة بالشروع في القتل وتهمة واحدة بارتكاب عمل إرهابي، وأعرب عن ندمه لأنه لم يقتل المزيد ولم يحرق المسجدين كما كانت خطته.
وعلى الفور أصدرت نيوزيلندا قوانين تحظر امتلاك الأسلحة نصف الآلية ووضع قواعد صارمة لحيازة الأسلحة عموماً، لكن وعلى الرغم من الصدمة العالمية التي أحدثتها المذبحة بحق مسلمي نيوزيلندا، إلا أن ملفي إرهاب اليمين المتطرف وامتلاك الأسلحة النارية في أمريكا لا يزالان دون حل بل يزدادان خطورة.
تم القبض على القاتل على الفور ووُجهت إليه تهمة "القتل العمد مع سبق الإصرار" وأودع السجن، وقالت حاكم ولاية نيويورك كاثي هوشول إنه "متعصب للعرق الأبيض". بحسب رئيس بلدية بوفالو بايرون براون، فإن مطلق النار سافر عدة ساعات لارتكاب جريمته.
أرقام مفزعة لإطلاق النار في أمريكا
شبكة Foxnews الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه "حتى الآن.. 33 إطلاق نار جماعي في مايو 2022″، رصد أرقاماً صادمة عن حوادث إطلاق النار الجماعي في الولايات المتحدة، والتي ترصدها تقارير منظمة أرشيف عنف الأسلحة النارية، إضافة إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي وغيرها من أجهزة وزارة الأمن الداخلي في أمريكا.
وأول تلك الأرقام هي أن النصف الأول من شهر مايو/أيار الجاري (من 1 حتى 15 مايو) شهد 33 جريمة إطلاق نار جماعي، ورغم ذلك لا يعتبر الرقم قياسياً في تلك الفترة، بل جاء منخفضاً مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي 2021، والتي شهدت وقوع 37 إطلاق نار جماعي. أما عام 2017، فقد شهدت أمريكا 10 حالات إطلاق نار جماعي، مقابل 20 حادثاً خلال 2018 و19 حادثاً عام 2019 ونفس الرقم عام 2020. كل تلك الحوادث خلال فقط النصف الأول من شهر مايو/ أيار.
وإجمالاً خلال العام الجاري 2022، أي نحو 18 أسبوعاً فقط، شهدت الولايات المتحدة الأمريكية 202 جريمة إطلاق نار جماعي، مقابل 205 جرائم خلال نفس الفترة من العام الماضي، وهو ما يشير إلى أن تلك الحوادث المدفوعة في أغلبها بخلفيات عنصرية وكراهية تزداد حدتها وتهدد بانفجار المجتمع الأمريكي نفسه من الداخل، بحسب نشطاء حقوقيون وخبراء في الأمن المجتمعي.
إذ على الرغم من أنه لا يكاد يمر يوم واحد دون وقوع جريمة إطلاق نار جماعي يفقد خلالها أبرياء حياتهم دون معنى أو ذنب ارتكبوه، لا يبدو أن قضية حيازة الأسلحة النارية في الولايات المتحدة الأمريكية قد تجد حلاً جذرياً في المدى القصير أو المتوسط على الأقل.
وكان تقرير صادر عام 2019 عن مشروع الدراسة الاستقصائية للأسلحة الصغيرة (SAS) ومقره سويسرا، قد رصد وجود نحو 857 مليون قطعة سلاح ناري حول العالم، يمتلك المدنيون الأمريكيون منها النصف تقريباً.
هل يمكن وضع ضوابط على حيازة الأسلحة النارية؟
الرئيس الأمريكي جو بايدن ندد، في بيان أصدره بعد هجوم بوفالو الأخير في نيويورك، بالهجوم، مذكراً بأن "أي عمل إرهابي داخلي بما في ذلك عمل يرتكب باسم أيديولوجية قومية بيضاء بغيضة يتعارض مع كل ما ندافع عنه في أمريكا"، وأضاف خلال حفل تخليداً لذكرى ضباط الشرطة الذين لقوا حتفهم أثناء أداء واجبهم: "يجب أن نعمل معاً لمحاربة الكراهية التي تظل وصمة عار في روح أمريكا".
لكن قضية امتلاك الأسلحة النارية في الولايات المتحدة هي من أبرز الملفات التي تمثل انقساماً حاداً داخل البلاد، فالحركة الضخمة التي تدافع عن هذا الحق، هي في أغلبها جمهورية من حيث الانتماء السياسي ووجدت في الرئيس السابق دونالد ترامب ممثلاً جديراً بالالتفاف خلفه ومساندته عندما أعلن ترشحه للرئاسة عام 2015.
وتذكر جريمة بوفالو بحادثتين أخريين: مذبحة عنصرية في 3 أغسطس/آب 2019 قتل خلالها رجل يميني متطرف يبلغ من العمر 21 عاماً 23 شخصاً بينهم ثمانية مكسيكيين وأشخاص "من أصل إسباني" في إل باسو بولاية تكساس الأمريكية، وفي 17 يونيو/حزيران 2015، قتل أحد العنصريين البيض تسعة مصلين أمريكيين من أصل إفريقي في كنيسة في تشارلستون بولاية ساوث كارولينا.
لكن على الرغم من تلك المجازر المتكررة لا يزال التيار المدافع عن حق امتلاك الأسلحة النارية له اليد العليا بشكل لافت، ولا يبدو أيضاً أن وضع قيود أو ضوابط على امتلاك الأسلحة قد يجد طريقه إلى النور قريباً، في ظل الانقسام الحاد في الكونغرس بين الديمقراطيين والجمهوريين، بل وتشير استطلاعات الرأي الحالية إلى أن الجمهوريين ربما يفوزون بالأغلبية في الكونغرس خلال انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وتشير الفيدرالية الأمريكية إلى زيادة مرعبة في امتلاك الأسلحة النارية في البلاد، إذ رصد تحقيق لمجلة Newsweek الأمريكية قبل فترة ظاهرة الارتفاع القياسي في شراء الأسلحة النارية، كشف أن عام 2020 شهد شراء نحو 17 مليون أمريكي 40 مليون قطعة سلاح.
بينما شهد العام الماضي في نصفه الأول فقط شراء أكثر من 20 مليون سلاح ناري آخر. وبحسب الأنماط التاريخية لمن يقتنون الأسلحة، تنتمي الأغلبية الساحقة من هؤلاء إلى الرجال البيض المنتمين للمناطق الحضرية في الولايات الجنوبية وينتمون للحزب الجمهوري، باختصار القاعدة الانتخابية الرئيسية لدونالد ترامب.
وترتبط مشكلة حيازة الأسلحة النارية في الولايات المتحدة بكارثة الصعود الصاروخي لليمين المتطرف وأفكاره، وهي الكارثة التي تنتشر في الغرب بشكل عام وليس فقط أمريكا. إذ كشف تقرير ألماني مؤخراً عن ارتفاعات قياسية في عنف اليمين المتطرف تشير إلى أنه ربما قد يكون خرج عن السيطرة بالفعل.