إسرائيل قتلت شيرين أبو عاقلة واقتحمت منزلها واعتدت على النعش الذي يحمل جسدها إلى مثواه الأخير، وتسعى بكل الطرق لوضع يدها على الرصاصة القاتلة، فما أهمية تلك الرصاصة؟
كانت مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة قد تعرضت، صباح الأربعاء 11 مايو/أيار 2022، للاغتيال بدم بارد برصاصة أطلقها قناص إسرائيلي أصابتها في الوجه مباشرة، بينما كانت تستعد مع مجموعة من المراسلين والإعلاميين لتغطية قيام قوات الاحتلال بمداهمة لمدينة جنين في الضفة الغربية المحتلة، كما أظهرت مقاطع الفيديو التي صوّرت عملية الاغتيال.
وفي البداية حاولت إسرائيل طمس معالم الجريمة، من خلال الزعم بأن رصاصة فلسطينية قتلت مراسلة الجزيرة، التي تحمل الجنسية الأمريكية، وذلك خلال "تبادل لإطلاق النار" مع "مطلوبين أمنيين"، وهو الوصف الذي تستخدمه قوات الاحتلال للإشارة إلى الشباب الفلسطيني.
لكن لقطات الفيديو أظهرت مجموعة المراسلين، ومن بينهم الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، يرتدون الخوذ والسترات الواقية التي تحمل كلمة "صحافة/ Press" المميزة، ولا يوجد غيرهم في المشهد، وفجأة تعرضوا لإطلاق الرصاص لتصاب شيرين أبو عاقلة بطلقة مباشرة في الوجه وتسقط أرضاً، فيما يبدو كعملية "إعدام" مرتبة، بحسب شهود العيان.
الرصاصة التي تريد إسرائيل "فحصها"
نشرت صحيفة New York Times الأمريكية تقريراً عنوانه "الرصاصة محور تحقيقين متنافسين في مقتل الصحفية الفلسطينية"، جاء فيه أن الرصاصة التي قتلت الصحفية الأمريكية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة أصبحت نقطة خلاف مركزية في المساعي المتنافسة بين الإسرائيليين والفلسطينيين للتحقيق فيمن أطلق عليها الرصاص.
السلطة الفلسطينية رفضت، الخميس 12 مايو/أيار، طلباً للسماح للمسؤولين الإسرائيليين بفحص الرصاصة التي قتلت أبو عاقلة، وقالت السلطة الفلسطينية إنها ستحقق في وفاة أبو عاقلة بشكل مستقل، رافضة الدعوات الإسرائيلية لإجراء تحقيق مشترك وفحص الرصاصة في مختبر إسرائيلي تحت إشراف دولي.
وترى السلطة الفلسطينية أن المزاعم الإسرائيلية بأن الصحفية ربما تكون قد أصيبت بنيران فلسطينية خلال تبادل لإطلاق النار في مدينة جنين شمال الضفة الغربية دليل على أن دولة الاحتلال لا يمكن الوثوق بها لإجراء تحقيق في الجريمة.
لكن إسرائيل بدأت رحلة التراجع عن روايتها التي تتهم الفلسطينيين بقتل أبو عاقلة، في ظل الأدلة الدامغة، وأفادت القناة 12 في التلفزيون الإسرائيلي مساء الجمعة 13 مايو/أيار، بأن تقارير تم عرضها خلال اجتماع داخلي لهيئة أركان جيش الاحتلال أشارت إلى أن احتمال مقتل شيرين أبو عاقلة برصاصة إسرائيلية "وارد جداً".
جاء ذلك وفق ما نقلته القناة العبرية الخاصة عن مصدرين لم تسمهما، حضرا الاجتماع الداخلي الذي عقد الخميس بحضور قادة الجيش على رأسهم، رئيس الأركان أفيف كوخافي. وحسب المصدرين، جاء في التقارير التي عرضت خلال الاجتماع، "أنه من المحتمل جداً أن الجيش الإسرائيلي هو من أطلق النار الذي أدى إلى مقتل الصحفية أبو عاقلة"، بحسب وكالة الأناضول.
ورغم ذلك، فإنّ التقارير التي عُرضت على رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي، لم تجزم بأنّ الجيش هو من أطلق النار، وفق ما ذكر المصدران للقناة. وأوضح المصدران أنّ النتيجة التي توصلت إليها هيئة الأركان بأن الجيش قد يكون وراء قتل أبو عاقلة، جاء بعد تحقيق عسكري أجراه الجيش.
وذكرت القناة (12) أن "إسرائيل تواصل الضغط اليوم لإقناع السلطة الفلسطينية بتسليم الرصاصة (التي تسببت بقتل أبو عاقلة) لهم لبدء تحقيق مشترك".
اتهامات متبادلة حول "الرصاصة" القاتلة
قال قادة فلسطينيون إنه لا يمكن الوثوق بإسرائيل في التحقيق بمقتل الصحفية الفلسطينية، بينما قال مسؤولون إسرائيليون إن الفلسطينيين رفضوا إعطاءهم الرصاصة لإخفاء الحقيقة.
المواجهة المحتدمة بشأن "الرصاصة" التي قتلت شيرين تأتي على خلفية الأجواء المشحونة والمشاعر المتأججة منذ سقوط الصحفية الفلسطينية التي مثلت لنحو ربع قرن "صوت الأحداث في فلسطين".
وتجمَّع آلاف الفلسطينيين من جميع ميادين المجتمع في فناء المقر الرئاسي للسلطة الفلسطينية لتوديع الصحفية الرائدة، وكان من بين المعزين أولئك الذين عملوا إلى جانب أبو عاقلة والذين قابلتهم وأولئك الذين دخلت منازلهم عبر شاشة التلفزيون. وفي التجمُّع أيضاً التقى رجال الدين المسيحيون والمسلمون الفلسطينيون.
وقال محمود عباس، رئيس السلطة، في خطاب أمام نعشها: "هذه الجريمة لا يمكن أن تمر دون عقاب". وأضاف: "نرفض فتح تحقيق مشترك مع إسرائيل لأنها هي التي ارتكبت هذه الجريمة ولأننا لا نثق بها وسنذهب فوراً إلى المحكمة الجنائية الدولية لملاحقة المجرمين".
وهكذا أصبحت الرصاصة محور روايتين متنافستين حول ظروف اغتيال أبو عاقلة. وقال مسؤولون إسرائيليون لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية إن الجنود الإسرائيليين والمسلحين الفلسطينيين المشاركين في اشتباكات جنين كانوا يحملون بنادق هجومية من طراز M16، وهي بنادق تستخدم نفس الرصاصات عيار 5.56 ملم.
في حين أن هذه الحقيقة قد تعقِّد الجهود لتحديد من أطلق الرصاصة القاتلة، فلا يزال من الممكن مطابقة الرصاصة بالبندقية التي أطلقتها.
قال ليور ناديفي، خبير المقذوفات الشرعي الإسرائيلي، إن كل رصاصة تحمل علامات مجهرية خاصة بالسلاح الذي أطلقها، مثل توقيعٍ أو ما شابه. وهذا يعني أن الرصاصة يمكن أن تكشف ما إذا كانت قد أُطلِقت من بندقية استخدمها جندي إسرائيلي مشارك في الهجوم، بحسب ناديفي واثنين من المسؤولين العسكريين الإسرائيليين.
وأجرى المسؤولون الفلسطينيون تشريحاً أولياً لجثمان أبو عاقلة، لكنهم لم يكشفوا عن نتائجه بعد. وقالت متحدثة باسم مكتب المدعي العام للسلطة الفلسطينية، إنها لا تزال تنتظر نتائج فحوصات الطب الشرعي على الرصاصة.
هل تريد إسرائيل "الرصاصة" لكشف الحقيقة فعلاً؟
ناديفي، فاحص الأسلحة النارية السابق في مختبر أسلحة الشرطة الإسرائيلية، قال للصحيفة الأمريكية إنه لا يعتقد أن السلطة الفلسطينية لديها القدرة على إجراء فحوصات الطب الشرعي على الرصاصة، مضيفاً أن الإسرائيليين فقط هم من يمكنهم تأكيد أو استبعاد ما إذا كانت إحدى بنادقهم هي مصدر النيران القاتلة.
وقال مسؤول عسكري إسرائيلي كبير، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته تماشياً مع القواعد العسكرية، إن الجيش الإسرائيلي مستعد لتقييم الأسلحة التي استخدمها في الهجوم، في حالة تزويده بالرصاصة.
وقال مسؤولون إسرائيليون إنهم مستعدون لفحص الرصاصة بحضور ممثل عن السلطة الفلسطينية والولايات المتحدة.
أما مايكل سفارد، المستشار القانوني لمنظمة يش دين، وهي منظمة حقوقية تحقق في الانتهاكات الإسرائيلية في الضفة الغربية، فقال للصحيفة الأمريكية: "الرصاصة يمكن أن تكون مفيدةً فقط إذا سلَّم الجنود أسلحتهم على الفور، وإلا يمكنهم التلاعب بأسلحتهم".
إلى جانب ذلك، قال سفارد إن هناك العديد من الطرق الأخرى التي يمكن لإسرائيل من خلالها التحقيق في إطلاق النار دون الرصاص، بما في ذلك فحص الفيديو الذي سجلته طائرات مسيَّرة إسرائيلية عادةً ما ترافق الجنود الإسرائيليين خلال مثل هذه المداهمات.
وقال سفارد: "خلاصة القول هي أن العدالة من قبل السلطات العسكرية هي نوع من المعجزة".
وقال مسؤول عسكري إسرائيلي إنه بعد ساعتين من إطلاق النار، قام الجيش بإحضار جميع الجنود الذين كانوا في الموقع لاستخلاص المعلومات وجمع كل لقطات الفيديو من الكاميرات التي استخدموها خلال المداهمة.
علاوةً على ذلك، نشر المسؤولون الإسرائيليون، مثل السلطة الفلسطينية، القليل من التفاصيل حول تحقيقاتهم. وكانت أبو عاقلة وعدة صحفيين آخرين في مكان الحادث يرتدون سترات واقية من الرصاص وخوذات مكتوباً عليها كلمة "صحافة"، ويعتقد زملاؤها أنها استُهدفت عمداً.
لكن شيرين أبو عاقلة ليست الضحية الوحيدة التي قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي باستهدافها، فهناك العديد من الصحفيين والعاملين في المجال العام تعرضوا إما للاغتيال بدم بارد أو تعرضوا للإصابة البالغة.
وبحسب تقرير للاتحاد الدولي للصحفيين أصدره يوم 5 يوليو/تموز 2021، قتلت إسرائيل 46 صحفياً وإعلامياً منذ عام 2000 وحتى عام 2021، فيما وصفه بيان الاتحاد بأنه "استهداف ممنهج ومنظم" من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلي هدفه التغطية على ما ترتكبه تلك القوات من جرائم بحق الفلسطينيين. وخلال حرب غزة فقط، التي استمرت 11 يوماً العام الماضي، قتلت إسرائيل 16 صحفياً.
وكان الصحفي الفلسطيني ياسر مرتجى واحداً من هؤلاء الضحايا، حيث أصابته رصاصات الاحتلال القاتلة وهو يقوم بعمله على حدود قطاع غزة عام 2018، ومثله كان أحمد أبو حسين صحفي فلسطيني أصيب برصاص متفجر في صدره وبطنه خلال تأدية عمله في تغطية مسيرات العودة الكبرى في أبريل/نيسان 2018 في قطاع غزة؛ إذ أطلق عليه قناصة الاحتلال الإسرائيلي الرصاص واستهدفوه بشكل مباشر ومتعمد، في جريمة شبيهة بما تعرضت له شيرين أبو عاقلة.
قائمة ضحايا الاحتلال الإسرائيلي من الصحفيين الفلسطينيين طويلة وممتدة، دون أن يكون هناك أي إدانة ولا حتى تحقيقات حقيقية لكشف الجناة، وهو ما يجعل إصرار الإسرائيليين على وضع أيديهم على "الرصاصة" التي قتلت شيرين أبو عاقلة مثار تساؤلات بشأن الهدف الحقيقي من وراء تلك التحركات.