مع استمرار تعثر الحملة العسكرية الروسية في أوكرانيا وتدفق الأسلحة الغربية إلى كييف يتزايد قلق المسؤولين الأمريكيين من استخدام روسيا الأسلحة النووية ضد أوكرانيا للخروج من مأزقها الحالي.
وبات صُناع القرار في الغرب أمام سؤال مُلح وهو: ماذا سيفعلون إذا قرر بوتين ضرب أوكرانيا بالأسلحة النووية، كيف سيكون ردهم، هل يتجهون إلى رد عبر تعزيز الدعم العسكري لكييف وتشديد العقوبات على موسكو، أم يبادرون بردٍّ عسكري، قد يفضي لحرب عالمية ثالثة تدمر العالم؟
بوتين لوَّح بالأسلحة النووية بالفعل، فكيف ردَّ بايدن؟
وكان بوتين قد أعلن في بداية الحرب وضع "قوة الردع" بالجيش الروسي، وهي قوة تشمل عنصراً نووياً، في حال التأهب، كما أنه سبق أن قال في سياق رده على المخاوف من نشوب حرب نووية تدمر العالم جراء أزمة أوكرانيا، إنه لا قيمة للعالم بدون روسيا، في إشارة إلى أن إهانة موسكو أو عدم تحقيقها مصالحها الأمنية يستحق المخاطرة بحرب نووية.
في المقابل، كان واضحاً أن الإدارة الأمريكية تعمدت تجاهل إشارات بوتين النووية، لأن وضعها في الاعتبار سيحدُّ من قدرة واشنطن على الرد على غزوه لأوكرانيا، ورغم هذه الإشارات واصل الغرب دعم الجيش الأوكراني وفرض عقوبات قاسية على روسيا، وهو الأمر الذي ضاعف الضغوط على موسكو في الأزمة وجعل وضعها أسوأ مما توقَّع بوتين في الأغلب ببداية الحرب.
ورغم أن أمريكا يُفترض أن تكون سعيدة بالمأزق الروسي في أوكرانيا، فإنَّ تدهور وضع بوتين قد يعني أن ردود فعله قد تكون أكثر تطرفاً، خاصةً أننا أمام دولة عملية صنع القرار فيها فردية تماماً.
وبالفعل بدأ مسؤولون روس يهددون بحرب نووية مع الناتو، مثل ديمتري روجوزين، مدير وكالة الفضاء الروسية "روس كوسموس"، الذي قال مؤخراً إن بلاده تحتاج إلى 30 دقيقة فقط لـ"تدمير دول حلف الناتو" في حال اندلاع حرب نووية.
أمريكا تفصح عن قلقها من احتمال استخدام روسيا الأسلحة النووية ضد أوكرانيا
وهناك مؤشرات على تزايد القلق الأمريكي من احتمال استخدام روسيا الأسلحة النووية ضد أوكرانيا، وهي مؤشرات ظهرت مؤخراً في تصريحات مسؤولين أمريكيين.
إذ قالت مديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية، أفريل هاينس، أمام مجلس الشيوخ، إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إذا تعامل مع احتمال هزيمة الجيش الروسي في أوكرانيا على أنه تهديد وجودي لنظامه، فربما يلجأ إلى استخدام السلاح النووي.
وجاء التحذير يوم الثلاثاء الماضي، خلال تقييم مقدَّم من قادة الاستخبارات الأمريكية إلى لجنة الخدمات المسلحة بمجلس الشيوخ حول التهديدات في جميع أنحاء العالم.
وقالت هاينس إنَّ تحوُّل التركيز الروسي إلى شرق وجنوب أوكرانيا، على الأرجح تكتيك مؤقت بدلاً من كونه خفضاً دائماً من أهداف الحرب.
وجادلت بأن الزعيم الروسي لن يستخدم سلاحاً نووياً حتى يرى تهديداً وجودياً لروسيا أو لنظامه.
وأعربت عن اعتقادها أنَّ تصوُّر بوتين وجود تهديد وجودي لنظامه، قد يأتي إذا رأى أن روسيا تخسر الحرب في أوكرانيا، وما قد يؤدي ذلك إلى زعزعة سلطته، أو أن حلف شمال الأطلسي في الواقع إما تدخَّل وإما على وشك التدخل بشكل مباشر.
وبلهجة مثيرة للقلق، قالت إن العالم يجب أن يكون لديه بعض التحسب من استخدام وشيك للأسلحة النووية.
إليك المؤشرات التي ستظهر قبل استخدام روسيا الأسلحة النووية
هناك كثير من الأشياء التي سيفعلها بوتين في سياق التصعيد لتكون بمثابة إشارات تمهد لاستخدامه الأسلحة النووية في حرب أوكرانيا، حسب مديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية.
ويمكن أن تشمل تلك الإشارات ممارسات تحمل مؤشرات نووية معروفة مثل نشر الصواريخ العابرة للقارات المتنقلة وقاذفات القنابل الثقيلة والغواصات الاستراتيجية.
ولكن العامل الذي يقلل من احتمال استخدام روسيا الأسلحة النووية ضد أوكرانيا حتى الآن، بحسب المسؤول الأمريكية، هو أنه على الرغم من كل النكسات، فإن بوتين ربما لايزال مقتنعاً بأن موسكو لديها في نهاية المطاف قدرة أكبر على تحمُّل الحرب من كييف وداعميها.
المشكلة أنه لو فقد بوتين هذا الشعور باحتمال الانتصار في أوكرانيا، وما قد يترتب على ذلك من تهديد لنظامه، فقد يلجأ في هذه الحالة إلى استخدام روسيا الأسلحة النووية ضد أوكرانيا.
ومع استمرار حرب الاستنزاف الحالية في أوكرانيا، من المرجح أن يتخذ الصراع "مساراً غير قابل للتنبؤ به ويحتمل أن يكون تصعيدياً".
مكاسب بوتين المحتملة من إشعال حرب نووية في أوكرانيا
الأسلحة النووية هي أدوات الملاذ الأخير؛ التي قد يفكر أي زعيم عقلاني في استخدامها إذا كان نظامه (أو حياته) على المحك.
من المفترض أن بوتين يتوقع أن تدفع تهديداته باستخدام الأسلحة النووية الناتو إلى التخلي عن أوكرانيا، كما أنه في حال استخدامه الأسلحة النووية ضد كييف فقد تستسلم الأخيرة مثلما فعلت اليابان مع الولايات المتحدة بعد هجومي هيروشيما ونجازاكي.
وفي حال كان بوتين يعتقد أنه يواجه هزيمة أو مأزقاً مكلفاً أو لديه فرصة للنجاح من خلال التصعيد الحاد، فهناك احتمالات بنسبة 1 أو 2% بإمكانية استخدام روسيا الأسلحة النووية ضد أوكرانيا، حسبما قال بعض الخبراء لموقع المجلس الأطلسي (Atlantic Council).
المشكلة أن أي احتمال ضئيل لاستخدام الأسلحة النووية خطر كبير للغاية.
ولذا يرى خبراء استطلع المجلس الأطلسي آراءهم حول هذا الموضوع، أنه يجب على حلف الناتو أن يقول بوضوح، إن أي هجوم نووي من جانب روسيا سيقابَل بردٍّ يُحتمل أن يشمل أسلحة نووية، وأن يتعمد الناتو أن يُبقي هذا الاحتمال قائماً.
ويرى والتر سلوكومبي، وهو مدير مجلس إدارة المجلس الأطلسي ووكيل وزارة الدفاع الأمريكية السابق للسياسة، أن "احتمال استخدام روسيا الأسلحة أقل من 5%".
واستدرك قائلاً: "تهدف قعقعة السيوف النووية من قِبل بوتين إلى ردع الولايات المتحدة وحلفائها عن تصعيد دعمهم لأوكرانيا في الحرب ومنح قدرات عسكرية متقدمة لكييف يمكنها أن توفر للقوات الأوكرانية ميزة حاسمة في الحرب".
وأضاف: "إذا تعرضت القوات الروسية لهزيمة مُذلة أخرى في حملة السيطرة على منطقة جنوب شرقي أوكرانيا وتحديداً إقليم دونباس، فقد يتعرض بوتين للضغط من قِبل المتشددين الروس للوفاء بتهديداته النووية؛ لكن من غير المرجح أن يفعل ذلك، لأن هذا لن يؤدي إلا إلى تحفيز ردٍّ قاسٍ من الولايات المتحدة وحلفائها دون تقديم أي ميزة عسكرية كبيرة".
ويرجَّح أن يقوم بوتين بدلاً من ذلك بتصعيد الهجمات التقليدية على المدنيين والبنية التحتية الأوكرانية، وكذلك ضد عمليات إعادة إمداد الناتو لأوكرانيا بالأسلحة.
وقد يبدأ بوتين بتقريب الأسلحة النووية لحدود الناتو، مثل إرسال رؤوس نووية إلى جيب كالينينغراد الروسي أو إلى بحر البلطيق، كما يمكنه أن يأمر بتفجير نووي في ميدان اختبار روسي.
السيناريو الأول.. استخدام الأسلحة النووية قد يبدأ من مصنع آزوفستال
ومع ذلك، ليس من المستبعد تماماً أن يقرر بوتين استخدام الأسلحة النووية لدرء الهزيمة، حتى لو كان احتمال هذا السيناريو ضئيلاً، حسب ألكسندر فيرشبو وهو زميل في مركزَي سكوكروفت وأوراسيا التابعين للمجلس الأطلسي، والذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة لدى روسيا ونائب الأمين العام لحلف الناتو من 2012 إلى 2016.
السيناريو الأقل حدة لاستخدام روسيا الأسلحة النووية في أوكرانيا، قد يكون تفجير رأس حربي نووي تكتيكي فوق مصنع آزوفستال في مدينة ماريوبول بجنوب أوكرانيا، والذي تتحصن به القوات الأوكرانية (أو هدف محصن مماثل)، في ظل فشل القوات الروسية في اقتحام هذا المصنع الذي تحوَّل إلى أيقونة للمقاومة الأوكرانية، حسبما ورد في تقرير لموقع 1945 الأمريكي العسكري.
فالتحصين الشديد لهذا المصنع ومقاومة المتحصنين المقاتلين الموجودين به ومن ضمنهم كتيبة أزوف القومية الأوكرانية المتطرفة، إضافة إلى سيطرة الروس على المدينة التي تضم المصنع، قد يجعل من رد الفعل على مثل هذا الهجوم أقل مما لو هاجم هدفاً أوكرانياً مازال تحت سلطة كييف، باعتبار أن المصنع محاصَر أصلاً من قِبل الروس، ويُفترض أنه ساقط عسكرياً.
السيناريو الثاني: بوتين قد يستخدم قنبلة تكتيكية ضد هدف عسكري أوكراني
قد يقصر بوتين هجومه النووي التحذيري على استخدام سلاح نووي تكتيكي منخفض القوة ضد هدف عسكري أوكراني؛ من أجل تقليل حجم الخسائر المدنية (وتقليل احتمال أن ترد الولايات المتحدة أو الناتو بالمثل)، حسبما قال الباحث والتر سلوكومبي للمجلس الأطلسي.
وقد تقوم روسيا بهجوم أكثر تأثيراً، عبر تفجير سلاح نووي من خلال الطائرات ضد لواء عسكري أوكراني مركزي، من المحتمل أن يكون موقعاً قوياً مع بعض التضاريس الحضرية، مثل مدينة Zaporizhzhia. على الرغم من أنه من غير المرجح أن تكون ضربةٌ نوويةٌ واحدةٌ حاسمةً ضد قوة مسلحة متحصنة في مواقعها، فإنها قد تجبر مع ذلك الأوكرانيين على الانسحاب، خاصة إذا تم استغلالها على الفور بهجوم ميكانيكي روسي، حسب موقع 1945 .
السيناريو الثالث: ضربة على حدود الناتو
وهناك سيناريو آخر يحمل رسالة تحدٍّ خاصة للغرب، وهو أن تستهدف روسيا بسلاح نووي منشأة في أوكرانيا مرتبطة بالإمداد الغربي بالأسلحة، حسب والتر سلوكومبي.
وقد تستخدم موسكو المحبَطة من الدعم الأوروبي والأمريكي لأوكرانيا، أسلحة نووية لتدمير مدينة لفيف الأوكرانية الغربية، التي يبلغ عدد سكانها أكثر من مليون نسمة، والمليئة باللاجئين.
وأصبح لهذه المدينة التي كانت خاضعة للحكم البولندي لقرون قبل قيام الاتحاد السوفييتي بإلحاقها بأوكرانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية، رمزية خاصة للغرب وكييف على السواء، فهي معقل الموالين للغرب في أوكرانيا وممر لتوصيل السلاح إلى الجيش الأوكراني من قبل الغرب.
بوتين يريد تخويف الشعوب الغربية
قد يأمل بوتين أنه بمجرد تجاوز العتبة النووية فإنه سيصدم أوكرانيا وداعميها الغربيين- ويُخيف جماهير دول الناتو- لدرجة أنهم سيتراجعون عن دعم كييف بدلاً من المخاطرة بمزيد من التصعيد.
ويقول الباحثان كير ليبر وداريل برس للمجلس الأطلسي: "سيكون الهدف من التصعيد النووي هو إرسال رسالة، مفادها أن روسيا لن تقبل هزيمة مدمرة، ومن ثم يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها التراجع".
سيسعى بوتين إلى خلق الخوف بدلاً من الغضب. ومن ثم، سيتم استخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا بدلاً من أراضي الناتو، وسيتم استخدامها ضد أهداف عسكرية، وليست مدنية.
وأضاف: "نتوقع أيضاً أن تسعى روسيا إلى الحصول على بعض النتائج العسكرية من الاستخدام النووي (على الرغم من أن هذا سيكون ذا أهمية ثانوية، لأن الأولوية لتخويف الناتو وكييف)، لذلك من المحتمل أن يتضمن أي هجومٍ تفجيرَ ست رشقات جوية منخفضة القوة لتدمير عدد من المواقع العسكرية الأوكرانية القوية".
السيناريو الرابع: الهجوم على كييف
هناك سيناريو أسوأ: سيخلق بوتين أولاً "استفزازاً"، ثم يضرب هدفاً ذا قيمة عالية مثل كييف؛ على أمل جعل أوكرانيا تقبل "السلام بأي ثمن"، حسب توقعات جان إم لودال الزميل المتميز في مركز سكوكروفت.
ومع ذلك، فإنه سيحرص أيضاً على تجنب أي تداعيات محتملة مثل انتقال الإشعاع النووي إلى أي دولة من دول الناتو.
قد يؤدي أي هجوم على العاصمة كييف إلى ردود فعل غير متوقعة، فبينما قد يؤدي إلى استسلام أوكرانيا، فإنه في المقابل، قد يؤدي إلى رد فعل من الغرب قد يورطه بشكل مباشر في حرب مع روسيا.
كيف سيردُّ الغرب في حال توجيه ضربة نووية لأوكرانيا؟
سيناريو استخدام روسيا الأسلحة النووية في أوكرانيا سيضع الولايات المتحدة وحلفاءها أمام خيارات قاتمة فقط.
فإذا شنَّ الناتو هجوماً تقليدياً أو نووياً رداً على استخدام روسيا الأسلحة النووية في حرب أوكرانيا، فهذه مخاطرة بنهاية الحضارة.
كما أن الانخراط في تصعيد تدريجي متبادل سيكون من الحماقة، لأن بوتين لديه الكثير على المحك أكثر من الغرب ليحافظ عليه عبر التصعيد، وهو بقاء نظامه، وربما حياته.
وحتى تشديد العقوبات على روسيا لن يؤدي إلا إلى زيادة الخطر على نظام بوتين من قِبل الشعب الروسي والنخبة الحاكمة المتضررة من العقوبات، الأمر الذي من شأنه أن يغذي حوافز بوتين لمزيد من التصعيد النووي؛ لتجنُّب حصار مُميت لروسيا.
الردُّ الحكيم الوحيد على استخدام بوتين النووي في أوكرانيا سيكون التفاوضَ بشأن نوع من الحل بإمكان جميع الأطراف فيه إعلان انتصارات، حسبما يرى الباحثان كير ليبر وداريل برس.
إذا كان هذا هو المسار المختار، فمن المنطقي البدء منذ الآن في تقليل الخطاب الأمريكي حول تغيير النظام الروسي أو النصر الحاسم لأوكرانيا، والأفضل إيجاد حلٍّ قبل استخدام روسيا الأسلحة النووية في حرب أوكرانيا بالفعل.
ويقول والتر سلوكومبي إنه بافتراض أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وأوكرانيا يمكن أن يتفقوا على أي إجراء، فهناك العديد من الاحتمالات. إذا تسبب الهجوم الروسي في أضرار طفيفة، فقد يحاول الناتو أولاً إصدار إنذار نهائي بهدف التوصل إلى تسوية بشروط الحلف وأوكرانيا.
لكن إذا أقنع بوتين نفسه بأنه لا يوجد خيار آخر سوى مواصلة حرب نووية في أوكرانيا، فمن غير المرجح أن يرضخ لأي مقترحات من جانب الحلفاء لمثل هذه التسوية.
وبالمثل، فإن الرد العسكري غير النووي (على سبيل المثال، الضربات التقليدية على القواعد العسكرية والبنية التحتية في الأراضي الروسية التي تدعم الغزو) ربما لن يكون حاسماً وقد يبدو غير ملائم لكثيرين، إضافة إلى أنه يحمل مخاطر التصعيد إلى حرب نووية بين روسيا والناتو.
وقد يجادل البعض بأن استمرار الناتو في الدفاع عن أوكرانيا لا يستحق ببساطةٍ المخاطرة بالتصعيد النووي. ولكن على الرغم من أنه من السهل رؤية مخاطر قيام أمريكا بهجوم نووي مضاد على روسيا، فإن هناك تداعيات خطيرة أيضاً لعدم وجود ردٍّ غربي على استخدام روسيا الأسلحة النووية في حرب أوكرانيا.
فعدم وجود ردٍّ نووي أمريكي تحديداً، من شأنه أن يُضعف بشكل خطير، مصداقية واشنطن بين الأصدقاء والخصوم على السواء، ويشجع روسيا على مزيد من التجرؤ، وهذا بدوره سيجعل احتمالية اندلاع حرب أخرى أكبر.
السيناريو الخامس لن يقتصر على أوكرانيا بل قد يعني نهاية العالم
كل السيناريوهات السابقة تفترض استخدام روسيا الأسلحة النووية ضد أوكرانيا، وضمن ذلك المناطق القريبة من حدود الناتو، ولكن لن تهاجم أياً من دول الناتو.
ولكن هناك سيناريو أشد خطورة بكثير وهو مهاجمة روسيا هدفاً مدنياً أو عسكرياً في دولة عضو بالناتو، لاسيما دول الجناح الشرقي القريبة منها، وهي دول كلها غير نووية.
ورغم أن هذا السيناريو غير مرجح بشكل كبير، فإنه يعد الأخطر بالنسبة للناتو وللعالم.
وتبدو بولندا هي الدولة المرشحة لمثل هذا الهجوم، حيث إن لديها أكبر حدود مع أوكرانيا وهي الأكثر دعماً لكييف لدرجة يبدو معها أنها تقود أوروبا في هذا المجال، كما أنها الأكثر جرأة من كل جيران روسيا في موقفها من الغزو الروسي، وأغلب الأسلحة الأمريكية والغربية تمر، على ما يبدو، عبر أراضيها.
بل إن بولندا تقدم مساعدات مباشرة كبيرة لأوكرانيا، وتستضيف أكبر عدد من اللاجئين الأوكرانيين، والأهم أن خطابها هو الأكثر حدة تجاه موسكو والأشد وضوحاً بأوروبا في الدعوة إلى تشديد العقوبات عليها.
وهي مواقف بادلتها روسيا بخطاب عدائي سافر ضد بولندا، ولذا قد يختار بوتين معاقبة وارسو؛ لتخويف بقية دول الناتو.
وبما أن بولندا هي أكبر دول شرق أوروبا سكاناً بعد روسيا وأوكرانيا ولديها قوة عسكرية هي الأكبر في دول الجناح الشرقي للناتو، فإن الدخول معها في معركة تقليدية قد يوسّع المأزق الروسي الحالي بأوكرانيا، ومن ثم فإن استخدام أسلحة نووية ضدها قد يكون أجدى بالنسبة لروسيا رغم مخاطره التصعيدية الهائلة.
سيختبر استخدامُ روسيا أسلحةً نوويةً ضد بولندا أو أي عضو بالناتو، صغيراً كان أو كبيراً، العقيدةَ التي قام عليها هذا الحلف منذ نشأته قبل عشرات السنين، وهي أن أي هجوم على دولة عضو بمثابة هجوم على بقية الأعضاء.
ولو كان هذا الهجوم نووياً، فيجب أن يكون الرد نووياً، وفقاً لهذه العقيدة.
والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا فقط هي الدول الأعضاء بالناتو التي تمتلك أسلحة نووية، وبما أن فرنسا تكاد تنأى بنفسها عن الأزمة الأوكرانية، فغير مرجَّحٍ أن تردَّ نووياً، ومن ثم فإن الرد المحتمل سيكون بريطانياً أو أمريكياً أو كليهما.
ويعني أي هجوم نووي أمريكي على الأراضي الروسية تحديداً، احتمال شن هجمات متبادلة بين البلدين يمكن أن تؤدي إلى فنائهما معاً وحتى دمار الحضارة الإنسانية برمتها، والعودة للعصور الحجرية.
لا أحد يعلم هل يخاطر صانع القرار الأمريكي، بتعرض نيويورك ووواشنطن لهجمات نووية من أجل وارسو عاصمة بولندا أو تالين عاصمة إستونيا أو ريغا عاصمة لاتفيا، وهي المدن التي لا يعرف أغلب الأمريكيين مواقعها.
ديغول كان مقتنعاً بأن أمريكا لن تخاطر بحرب نووية لحماية باريس من الغزو
في خمسينيات القرن العشرين، أصر الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول على ضرورة امتلاك فرنسا أسلحة نووية مستقلة عن أمريكا، لأنه كان مقتنعاً بأنه إذا حدث غزو بري تقليدي سوفييتي لأوروبا، فلن يستطيع الناتو التصدي له، بسبب ضخامة أعداد الجنود والمدرعات التابعة لحلف وارسو، وأن أمريكا لن تبادر باستخدام الأسلحة النووية لوقف هذا الغزو، وما قد يعنيه ذلك من تعريض واشنطن ونيويورك للدمار لحماية باريس وبرلين من الاجتياح السوفييتي.
أي إنه آمنَ بأنه في لحظة الحرب الحقيقية لن تستخدم أمريكا أسلحة نووية لحماية أوروبا الغربية، في وقت كان الغرب موحداً ضد الخطر السوفييتي، وكانت البلدان الأوروبية المعرضة للخطر أكثر أهمية وأكبر حجماً وأقرب إلى أمريكا من دول الجناح الشرقي للناتو الحالية.
فدول أوروبا الشرقية الأعضاء في الناتو حالياً، والتي يُفترض أن تحميها واشنطن ولندن، لم تكن يوماً في دائرة الاهتمام الأمريكي والبريطاني الحضاري والاقتصادي تقليدياً، وهي في الأصل كانت خاضعة منذ قرون، للنفوذ الألماني والنمساوي والروسي والعثماني.
فهل تُعرّض أمريكا نفسها لخطر الفناء من أجل هذه الدول التي لا يعرف المواطن الأمريكي العادي الفوارق بينها غالباً.
تبدو إجابة هذا السؤال صعبة للغاية، أو الأفضل بالنسبة للناتو عدم إجابتها بشكل حاسم.
ولذلك فإن أمريكا حريصة على تقديم سيناريوهات وإطلاق تصريحات تفيد بالتزامها الصارم بحماية هذه الدول عسى أن يردع ذلك بوتين عن اختبار استعداد الأمريكيين الفعلي للموت من أجل هذه البلدان البعيدة.