عندما نجح السودانيون في إسقاط عمر البشير وتشكيل حكومة مدنية، بدا أن التحول الديمقراطي في البلاد يسير في الاتجاه الصحيح، لكن انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان أعاد الأمور لنقطة الصفر، فمن المسؤول؟
مجلة Foreign Policy الأمريكية نشرت تحليلاً عنوانه "كيف خذلت الأمم المتحدة والغرب السودان؟"، ألقى الضوء على أبرز المتهمين بإفساد الثورة السودانية، وفرص التحول إلى الحكم الديمقراطي الحقيقي في الدولة العربية الإفريقية.
وبعد أن أطاح السودان بالبشير، قبل ثلاثة أعوامٍ تقريباً، وقالت الولايات المتحدة والأمم المتحدة والمجتمع الدولي: إن ثورة السودان فرصة تاريخية لتحويل الدولة الدكتاتورية إلى الديمقراطية، أُخمدت حركة السودان الديمقراطية بالكامل؛ إذ أدى انقلابٌ عسكري ضد رئيس الوزراء المدني، عبد الله حمدوك، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، إلى عرقلة الآمال بتحقيق انتقالٍ حقيقي.
ويُمكن القول: إن قصة دور المجتمع الدولي في السودان تسرد تفاصيل القيود المفروضة على المساعدات الأجنبية، لكنها تنقل أيضاً جانباً من خداع النفس والإهمال. ومع ذلك فلا خلاف على أن جيش السودان وساسته هم المسؤولون عن مصير بلادهم؛ حيث ظل إرث العنف والفساد قائماً بعد سقوط البشير؛ ما يعني أن انتقال السودان الديمقراطي كان مقدراً له أن يواجه العقبات دائماً، هذا إذا كُتِبَ له النجاح من الأساس، بحسب تحليل المجلة الأمريكية.
ماذا قدم الغرب لعبد الله حمدوك؟
وتُعد الدروس المستفادة من مساعدة المجتمع الدولي للسودان شديدة الأهمية؛ لأن البشير لن يكون آخر ديكتاتور تسقطه ثورة شعبية، كما تقول فورين بوليسي. وتجلّت ديناميات السلطة في انتقال السودان الديمقراطي بوضوح حين أصبح عبد الله حمدوك أول رئيس وزراءٍ بلا مأوى في العالم على الأرجح. فحين وصل حمدوك إلى الخرطوم عام 2019، رفض قائد الجيش عبد الفتاح البرهان تسليم رئيس الوزراء الجديد أياً من قصور البشير القديمة حتى يُقيم فيها.
وأقام حمدوك، بعد تنصيبه رئيساً للوزراء، في بيت حصل عليه مؤقتاً من عائلةٍ سودانية بارزة. وأظهر نزاع الإقامة عيباً أساسياً في الثورة السودانية؛ حيث أبقى الدستور الانتقالي على الجيش في السلطة لمدة 18 شهراً، ولم يمنح حمدوك وحكومته المدنية سوى قدرٍ ضئيل من السلطات الحقيقية. وقد مثّل عدم توازن السلطة هذا معضلةً للمجتمع الدولي، الذي كان يتساءل: هل كان الانتقال الديمقراطي السوداني حقيقياً؟
شرح حمدوك، في مقابلةٍ لوكالة Associated Press الأمريكية عام 2019، كيف ظل السودان مدرجاً لقرابة العقود الثلاثة على قائمة الولايات المتحدة للدول التي ترعى الإرهاب، وفُصِلَ عن النظام المالي العالمي بالتبعية. واعتمدت استراتيجية حمدوك الأساسية، بوصفه رئيساً للوزراء، على تحسين حياة السودانيين بتقوية الاقتصاد، وتعزيز شعبية الحكومة المدنية، حتى لا يتمكن الجيش من الانقلاب على السلطة.
لكن حمدوك كان بحاجةٍ إلى السيولة النقدية، وبسرعة؛ حيث كانت الديون الهائلة التي تركتها الحكومة السابقة تعني عدم وجود أموالٍ في خزائن البلاد، بينما كانت أسعار الخبز، والكهرباء، والسلع الأساسية تشهد ارتفاعاً جنونياً بسبب التضخم الذي وصل معدله إلى 359% عام 2021. وكان الاقتصاد في حالة سقوطٍ حر. وأوضح حمدوك، خلال مقابلة الوكالة الأمريكية، أن إلغاء واشنطن لتصنيف السودان دولةً راعية للإرهاب، كان السبيل الأساسي "للنجاح في فعل أي شيءٍ من أجل هذا البلد".
لكن مساعدة الحكومة الأمريكية تأخرت؛ إذ كانت معركة إزالة السودان من قوائم الإرهاب داخل إدارة ترامب ستستغرق أكثر من عام. وأدى ذلك التأخير إلى تقليص فرص نجاح الحكومة الانتقالية، ثم جاءت جائحة كوفيد-19 لتزيد تفاقم الأوضاع.
الضغط على السودان من أجل التطبيع
أوضح بعض المسؤولين الأمريكيين أنهم ليسوا واثقين مما إذا كان الانتقال الديمقراطي السوداني حقيقياً، ولهذا لا يريدون تقديم الدعم الذي سينتهي به المطاف في أيدي الجيش إذا قرر الاستيلاء على السلطة، بينما قال مسؤولون آخرون: إن من يتمتعون بالنفوذ الكافي داخل واشنطن لإرسال حزمة مساعدات كانوا يخشون اتخاذ القرار، بحسب تحليل فورين بوليسي.
وحين أعلنت إدارة ترامب إلغاء تصنيف الإرهاب أخيراً في أكتوبر/تشرين الأول 2020، وقدمت الدعم للانتقال الديمقراطي، لم تكن تفعل ذلك بدافع حب الغير؛ إذ كانت إزالة السودان من قوائم الإرهاب، والمساعدات المالية اللاحقة، مشروطةً باعتراف السودان بإسرائيل، بموجب اتفاقيات إبراهام.
وشعر قادة الخرطوم بأن الولايات المتحدة تعاملت مع عملية انتقالهم الديمقراطية بوصفها وسيلة ضغط من أجل خدمة مصالح حملة إعادة انتخاب ترامب؛ إذ كانت الولايات المتحدة تماطل وقتها بالفعل، بغض النظر عن الخطاب الأمريكي دائم الحديث عن دعم الانتقال السوداني.
ورغم كل ذلك، لم تصل المساعدات في النهاية بالشكل المناسب؛ إذ كُلِّفت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بإدارة الشطر الأعظم من حزمة مساعدات بقيمة 700 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو 600 مليون دولار من المساعدات السنوية لتسهيل الانتقال الديمقراطي وحل القضايا الإنسانية داخل السودان. كما خصصت كل سفارةٍ غربية حزمة مساعدات مشابهة؛ ليصل المجموع إلى نحو مليار دولار سنوياً لمحاربة الفقر، والاستجابة للعنف، ودعم الديمقراطية.
ومع ذلك لم يكن بالإمكان تحرير شيكٍ إلى حمدوك أو السودان بهذا المبلغ. ولهذا اضطرت الولايات المتحدة والدول الأخرى إلى إنفاق غالبية أموالها على البرامج التابعة للأمم المتحدة، والمنظمات غير الحكومية، والمتعهدين. وتضمنت تلك البرامج أنظمةً لمراقبة العنف في السودان، وشراء القمح السوداني، وسداد أجور موظفي مكتب حمدوك. وقد حظيت بعض تلك البرامج بنجاحٍ محدود، لكنها لم تتطرق إلى الأسباب الجذرية الأساسية للعنف والفساد. كما أن العديد منها دعّمت المصالح الفردية على حساب احتياجات حمدوك.
ومع استمرار المدة الانتقالية، ازدادت صعوبة العثور على سُبلٍ لإنفاق المال فعلياً؛ حيث قال مسؤولو الجهود الإنسانية في مختلف السفارات بالخرطوم لفورين بوليسي: إنهم لا يعرفون كيفية إنفاق الأموال المخصصة لهم.
مساعدات مع وقف التنفيذ
ولم يُخصّص جزءٌ كبير من الـ700 مليون دولار التي تعهّدت بها الحكومة الأمريكية إلى أي برامج حتى نهاية عام 2021، وذلك وفقاً لمسؤولين أمريكيين؛ ما يعني أن الأموال لم تُنفق فعلياً. بينما أقر دبلوماسيون من سفارات أخرى بأنهم أعطوا الأموال لوكالات الأمم المتحدة في السودان، رغم عدم ثقتهم في استخدامها بفاعلية، وذلك لأنهم لم يعرفوا ما يُفترض فعله بتلك الأموال في دورة الميزانية الخاصة بهم.
فضلاً عن أن الأموال التي أُنفِقَت على البرامج المُنتجة كانت تفتقر إلى التنسيق، ولهذا شهدت البلاد تقديم مساعدات مزدوجة بمبالغ كبيرة من عدة دول للبرامج نفسها؛ إذ قال أحد الدبلوماسيين للمجلة الأمريكية: إن ثلاث جهات مانحة موّلت، في وقتٍ واحد، جهود الاتصالات في مكتب حمدوك لتأدية الغرض نفسه تقريباً.
وربما يُعد إعطاء المال لحمدوك مباشرةً الخيار الأكثر فاعلية، وبدلاً من المال حصل رئيس الوزراء السابق على جيشٍ من المستشارين الغربيين الذين ليست لديهم خلفيةٌ فعلية عن السياق المحلي؛ ما دفعهم إلى تنفيذ برامج باهظة الثمن دون تحقيق النجاح إلّا فيما ندر.
ويُمكن القول: إن أعظم فرصةٍ ضاعت على المجتمع الدولي كانت فشله في الضغط من أجل الإصلاحات التي كانت ستزيد فاعلية المساعدات؛ إذ كانت مفوضية العون الإنساني تقع تحت مظلة جهاز المخابرات العامة السوداني إبان حكم البشير.
وكانت وكالات الاستخبارات بارعةً في سرقة، وإعاقة، وحظر المساعدات الأجنبية صراحةً، كما استخدم النظام القديم المساعدات الأجنبية بوصفها أداة للإكراه السياسي، بحسب فورين بوليسي، ومع ذلك ظل نظام الإكراه قائماً خلال المدة الانتقالية؛ حيث ألمح حمدوك في أكثر من مناسبة أنه لا يمتلك السلطة الكافية لمواجهة الجيش وأجهزة الاستخبارات المنتفعة من الفساد.
وهناك العديد من الأمثلة الصارخة على اختلاس أو حظر المساعدات مباشرة؛ حيث حظرت المخابرات العسكرية السودانية مثلاً اختبارات مسحات كوفيد-19 في بداية أزمة الجائحة مثلاً، كما أبلغ مسؤولو الأمم المتحدة عن تهديدهم بالطرد في حال إثارتهم لتلك القضايا علناً.
ترتيبات شكلية لدعم الديمقراطية في السودان
ولا شك أن منظومة الأمم المتحدة منحت الأولوية للانتقال الديمقراطي السوداني، لكنها لم تحقق أية نتائج ملحوظة، ولهذا أرسلت الأمم المتحدة بعثةً جديدة في عام 2020 لدعم الانتقال، هي بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس). وتشير محادثات إنشاء يونيتامس إلى الكيفية التي قوّض بها مسؤولون بارزون في الأمم المتحدة أهداف مساعدة الانتقال السوداني؛ لأنهم رأوا فيها فرصةً للحصول على أموالٍ أكثر لوكالاتهم، بحسب تحليل المجلة الأمريكية.
ونقلت مجلة فورين بوليسي عن مديرة مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوشا) في السودان، باولا إيمرسون، قولها: إن البعثة الجديدة لا يجب أن تضم قوات حفظ السلام؛ لأن وكالات الأمم المتحدة الأخرى المشابهة لوكالتها ستحصل على أموالٍ أكثر بهذه الطريقة.
ولم تكن معارضة مكتب أوشا لوجود قوات حفظ السلام معارضةً حاسمة، لكنها تروي الكثير عن منظومةٍ يبدو أنها تُقدّر حلب الأموال بأي ثمن، وتسييس الحياة المهنية أكثر من مساعدة السودانيين فعلياً، بحسب وصف المجلة الأمريكية.
وبعد بضعة أسابيع، حظر مكتب أوشا وبعثة حفظ السلام جهود جمع تفاصيل الجرائم المرتكبة بمساعدة الحكومة في دارفور، رغم امتلاكهما لمعلومات داخلية واضحة تؤكد ذلك.
وفي مخيمات اللاجئين بطول الحدود الإثيوبية، بعد وقتٍ قصير من اندلاع الحرب الأهلية هناك، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2020، كان هناك نقص في المياه، والغذاء، والملابس للاجئين الناجين من الفظائع الوحشية، ولكن بمجرد تخطيط دبلوماسيٍ كبير لزيارة المخيم من أجل التقاط الصور؛ يقضي مسؤولو الأمم المتحدة أياماً في لصق أكبر عددٍ ممكن من شعارات الوكالة على خزانات المياه، والشاحنات، وغيرها من الأغراض.
ويغادر الدبلوماسيون بعد التقاط الصور مع فرقهم وهم يهنئون بعضهم على نجاح الزيارة، بينما تظل الاستجابة الإنسانية مفتقرةً إلى التنسيق، وفاشلةً في مهامها الأساسية مثل منع العنف القائم على النوع. وليست هناك أعذارٌ تبرر سوء إدارة الأمم المتحدة لأزمة اللاجئين الإثيوبيين رغم تمويل وكالاتها بالكامل.
من ناحيته كان حمدوك أكثر تفاؤلاً في يونيو/حزيران عام 2021؛ إذ كانت اتفاقية السلام تعد بإنهاء الحرب الأهلية في أحد أجزاء السودان، وبدأ الاقتصاد في التحسُّن أخيراً، كما بدا بصيصٌ من الأمل باتحاد الساسة المتصارعين في ائتلافه الحاكم.
وخلص تحليل المجلة الأمريكية إلى أن الجيش تدخل للإطاحة بحمدوك في انقلابٍ عسكري يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول عام 2021، بعد أن بدأ بصيص الأمل يظهر أمام رئيس الوزراء السابق في آخر النفق. ومن الصعب التكهن بما إذا كان المجتمع الدولي قادراً على تغيير النتيجة النهائية في السودان؛ حيث سيطر الجيش السوداني على العملية الانتقالية، بينما لم يستخدم الساسة التكنوقراط، مثل حمدوك، السلطات البسيطة المتاحة لهم بفاعلية.