الركود الاقتصادي والتضخم والانكماش وارتفاع الأسعار وغيرها من الاصطلاحات الاقتصادية لم تعد أمور يهتم بها الخبراء فقط؛ بل أصبحت محط اهتمام الجميع، فما مدى تأثير كابوس الركود التضخمي على العرب؟
وكان قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي رفع أسعار الفائدة على الدولار بنسبة 0.5%، للمرة الأولى منذ عقدين كاملين من الزمان، قد نال اهتماماً واسعاً للغاية في المنطقة العربية، في ظل التوقعات بتغييرات جذرية على الاقتصاد، وغالباً تغيير للأسوأ، وستكون العديد من الدول العربية من أكثر بلدان العالم تأثراً بهذه الخطوة.
وتواجه أغلب الدول العربية حالياً مصاعب اقتصادية، تصل إلى حد تخييم شبح الإفلاس على بعضها، بفعل الهجوم الروسي على أوكرانيا ومن قبله جائحة كورونا، بخلاف السياسات الاقتصادية الخاطئة والظروف السياسية غير المستقرة أو مزيج من هذا وذاك في بعض الدول العربية.
ماذا يعني الركود؟
الركود في القواميس الاقتصادية يعرف بأنه الفترة التي يتراجع فيها إجمالي الناتج الاقتصادي للدولة لمدة 6 أشهر أو ربعين متتاليين. وتستخدم لجنة تأريخ دورة الأعمال التابعة للمكتب القومي للأبحاث الاقتصادية -التي تحدد دورة الأعمال التجارية في الولايات المتحدة- طرقاً مختلفة لتعريف الركود، مع الأخذ في الاعتبار عوامل أخرى مثل الناتج المحلي الإجمالي المعدل حسب التضخم، والتوظيف، والإنتاج الصناعي والدخل.
بينما ينظر صندوق النقد الدولي عند تحديد حالات الركود على الصعيد العالمي إلى مؤشرات عديدة تتضمن انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي المعدل حسب التضخم المدعوم بضعف الإنتاج الصناعي، والتجارة وتدفق رأس المال واستهلاك النفط والبطالة.
وبشكل عام يعتبر الركود الاقتصادي أمراً حتمياً، في إطار ما يعرف بدورة الأعمال، فالركود يتبع الانتعاش الاقتصادي، والعكس، أو ما يمكن وصفه بأنه سنة الحياة أو طبيعة الأمور، لكن توقيت حدوث الركود ومدته الزمنية ومدى شدته أمور متغيرة وتتعلق بشكل مباشر بأسباب الركود نفسها.
وغالباً ما يحدث الركود لسبب كبير ومفاجئ مثل الزلازل أو البراكين أو أزمة صحية كبرى كانتشار وباء (كورونا على سبيل المثال) أو اندلاع حرب كبرى (حرب أوكرانيا) أو أسباب أخرى من هذا القبيل، وربما يكون السبب تراكمياً وغير مفاجئ مثل التراكم الهائل في الإقراض الثانوي كما حدث في الأزمة المالية عام 2008.
ماذا يعني التضخم؟
إذا ما بدأنا بأبسط التعريفات فنجد أن التضخم يعني ارتفاع الأسعار على نطاق واسع ولفترات زمنية ممتدة، وكلمة السر هنا "على نطاق واسع" وكذلك "فترات زمنية ممتدة"، أي أن الارتفاع الطارئ وغير الممتد لسعر سلعة أو سلع ما لا يسمى تضخماِ.
وتحدث حالة التضخم عندما يرتفع متوسط سعر كل شيء يشتريه المستهلكون تقريباً؛ الغذاء والمنازل والسيارات والملابس ولعب الأطفال وما إلى ذلك، ولتوفير هذه الضروريات، يجب أن ترتفع الأجور أيضاً. ويصبح التضخم مشكلة عندما يتم تشغيل هذا الغليان المنخفض والبطيء حتى الغليان، فيبدأ الخبراء الاقتصاديون والمحللون باستخدام كلمات "الاقتصاد المحموم"، بحسب تقرير لمجلة Forbes.
ويعرف خبراء الاقتصاد التضخم على أنه انخفاض القوة الشرائية لعملة معينة بمرور الوقت، ويمكن أن ينعكس التقدير الكمي للمعدل الذي يحدث به انخفاض القوة الشرائية في زيادة متوسط سعر سلة من السلع والخدمات المختارة في اقتصاد ما خلال فترة زمنية معينة. ويعني الارتفاع في المستوى العام للأسعار، الذي يتم التعبير عنه غالباً كنسبة مئوية، أن وحدة العملة تشتري فعلياً أقل مما كانت عليه في الفترات السابقة.
ماذا يعني الركود التضخمي؟
في سياق معنى الركود والتضخم كل على حدة، ربما لا يكون من الصعب بالنسبة للشخص العادي أن يستنتج أن معنى مصطلح الركود التضخمي لا يمكن أن يعني شيئاً إيجابياً لا للاقتصاد ولا للمستهلكين العاديين.
وبشكل عام يمر الاقتصاد بدورة كاملة من الانتعاش الذي يتبعه انكماش، وهذه الدورة أمر طبيعي جداً ومداها الزمني يبلغ نحو 5 سنوات ونصف، وتتشكل "دورة الأعمال" من فترة توسع اقتصادي ترتفع فيها معدلات النمو وتنخفض البطالة، وتتزامن معها حالة من ارتفاع معدلات الأسعار، وتصل نهايتها عند القمة لتبدأ بعدها مرحلة من الركود أو الانكماش، يتباطأ فيها النمو وترتفع فيها معدلات البطالة، كما تنخفض معدلات الأسعار، وتصل نهايتها عند القاع ثم تتبعها حالة من النمو والانتعاش مرة أخرى وهكذا.
وينطبق هذا الوصف على الدورة الاعتيادية للاقتصاد، فالانتعاش لا يتحول إلى نشاط زائد عن الحد، بحيث ترتفع معه معدلات الأسعار إلى مستويات عالية جداً وغير مقبولة، بل تبقى ضمن معدلات مرتفعة نسبياً فقط، والأمر نفسه ينطبق على حالة الركود، حيث تتباطأ معدلات النمو دون أن تصل إلى انكماش أو نمو سالب مستمر، كما أن معدلات البطالة لا تصل إلى مستويات منفلتة ولا يمكن السيطرة عليها.
ويوضح هذا الشرح للدورة الاقتصادية أن الاقتصاد يشهد في الحالة الطبيعية ركوداً فقط، أو تضخماً فقط، لكنه لا يشهد الأمرين معاً، ويرجع ذلك إلى أن التضخم يعبر عن حالة نشاط الاقتصاد الزائد، والذي يؤدي إلى ارتفاع الطلب إلى مستويات أعلى مما يستطيع الاقتصاد توفيره عن طريق عرض المنتجات.
لكن الارتفاعات المتتابعة في الطلب تعني ارتفاعات متوالية في التضخم ومعدلات الأسعار، وهذه الارتفاعات تحدث بشكل أسرع من ارتفاع مستويات التوظيف أو ارتفاع الرواتب؛ لذلك يصل الاقتصاد عند مرحلة معينة، تتسم بالتوظيف الكامل للموارد والعاملين في الاقتصاد، دون ارتفاع للرواتب.
ويعني ذلك بدء انخفاض القدرة الشرائية، وبدء انخفاض الطلب معها، لأنك لن تعود قادراً على شراء نفس كمية المنتجات كما في السابق في فترة التوسع الاقتصادي، وتبدأ دورة معاكسة، ينخفض فيها الطلب نتيجة لانخفاض القدرة الشرائية، فتنخفض مبيعات الشركات، فتقل الرواتب وترتفع البطالة نتيجة لذلك، ويؤدي هذا إلى انخفاض أكبر في القدرة الشرائية، وهكذا طوال فترة الركود والتباطؤ الاقتصادي.
وفي هذا السياق نجد أن الركود التضخمي هو إحدى حالات انفلات الأمور في الاقتصاد، وعدم قدرة الحكومة على السيطرة على مساره، تبدأ فيه أدوات السياسة الاقتصادية في فقدان فاعليتها، إذ يجتمع في الركود التضخمي المتناقضان؛ الركود والتضخم معاً.
لماذا العرب الأكثر تأثراً بالركود التضخمي؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، من المهم هنا أن نذكر أن العالم اليوم يخشى الركود التضخمي، حيث إنها حالة لم يشهدها العالم إلا مرة واحدة سابقاً واستمرت من منتصف الستينات وحتى بداية الثمانينات، وهي الحالة التي ارتفعت فيها نسبة التضخم في الولايات المتحدة وباقي الدول الغربية لأكثر من 10% كحد أدنى، وهي نسب لم تحدث مرة أخرى منذ عام 1982 وحتى العام الجاري 2022، أي خلال 40 عاماً.
وكان لارتفاع أسعار النفط في بداية سبعينات القرن الماضي دور رئيسي في حالة الركود التضخمي في الغرب، والسبب نفسه يلعب دوراً رئيسياً هذه المرة أيضاً، وإن كان السبب الأول هو جائحة كورونا، التي كان تفشيها مطلع عام 2020 بمثابة سحب قابس الكهرباء الرئيسي عن الاقتصاد العالمي.
ومع ارتفاع نسبة التضخم في الولايات المتحدة لمستويات غير مسبوقة واتخاذ المركزي الأمريكي قراراً برفع سعر الفائدة، انتابت الأسواق في أغلب الدول العربية حالة من الذعر الشديد، كانت موجودة بالفعل لكن القرار الأمريكي فاقمها.
وتختلف تداعيات رفع سعر الفائدة على الدولار بشكل كبير بين الدول العربية، فدول الخليج هي الأقل تأثراً، نظراً لأنها مستفيدة من ارتفاع أسعار النفط، ومن احتياطياتها المالية الكبيرة، وارتباط سعر صرف عملاتها المباشر بالدولار. وتربط دول مجلس التعاون الخليجي عملاتها بالدولار الأمريكي، باستثناء الكويت، التي تربط عملتها بسلة عملات من بينها الدولار، وتحافظ الدول الست على مواكبة قرارات الفيدرالي الأمريكي بخصوص أسعار الفائدة.
وفي الأغلب ستستطيع دول الخليج باستخدام أموال الفوائض النفطية تعويض النقص في السيولة الناجم عن السياسات الانكماشية، وبالتالي قد تكون من أقل دول العالم تأثراً برفع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي.
لكن الأمر مختلف بالنسبة لبقية الدول العربية، وخاصة غير النفطية، حيث ترزح العديد من الدول العربية تحت طائلة الديون، ويعني ذلك أن رفع سعر الفائدة على الدولار سيؤدي لزيادة تكلفة الاقتراض لهذه الدول، وبالتالي زيادة أعباء الديون، وتميل كثير من الدول ذات الحمل الكبير من الديون للحصول على قروض أخرى لتسديد قروضها السابقة، وسوف يصبح هذا أصعب عليها مع رفع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي.
وحذرت العضو المنتدب لصندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، من أن 60% من البلدان منخفضة الدخل هي بالفعل في "أزمة ديون" أو قريبة منها، وهي عتبة مقلقة، وصلت عندما تساوي مدفوعات ديونها نصف حجم اقتصاداتها الوطنية.
وفي عام 2022، تجاوزت ديون حكومات الدول العربية 1.5 تريليون دولار، ومصر هي صاحبة أكبر قيمة من الدين العام بـ409.5 مليار دولار، بينما بلغت نسبة الدين إلى حجم الاقتصاد بالبلاد 94%. وكانت السعودية ثاني أكبر الدول العربية من حيث قيمة الدين العام بـ250.7 مليار دولار. وجاءت الإمارات ثالثاً بقيمة دين عام بلغت 158.9 مليار دولار. ذلك بحسب بيانات صندوق النقد الدولي.
وترغب مصر وتونس في الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي لمواجهة أزمتيهما الماليتين، ولكن مصر وصلت للحد الأقصى لحقها في الاقتراض من صندوق النقد وفقاً لنظم الصندوق، وتحتاج القاهرة لترتيبات خاصة في ظل وصولها لهذا السقف.
كما أن شروط صندوق النقد تبدو قاسية؛ إذ يريد عملية تعويم مرنة وحقيقية للجنيه المصري، وليس كما حدث عقب القرض الذي قدمه في عام 2016، حينما تم تعويم الجنيه لفترة، ثم عادت السلطات النقدية للتحكم به وتعديل قيمته من 18 جنيهاً لكل دولار إلى 15.6، قبل أن يعود مؤخراً لمستوى 18.5 جنيه للدولار.
وتراهن القاهرة على ما يبدو على إمكانية حصولها على مساعدات من الدول العربية الخليجية، وحتى الآن لم تعلن العواصم الخليجية عن مساعدات كبيرة لمصر، ولكن كانت صفقات الشراء الإماراتية لبعض الأصول المصرية مؤخراً تبدو محاولة لتوفير دولار للبلاد بطريقة تفيد الطرفين.
وتواجه تونس معضلة تتعلق أيضاً بطلبها الاستدانة من صندوق النقد تتمثل في كون شروط صندوق قاسية من الناحية المعيشية والاجتماعية تحديداً، وقد تؤدي إلى موجة تذمر يقودها الاتحاد العام للشغل ذو التوجهات اليسارية، ومن ناحية أخرى، فإن الدول الغربية مترددة في دعم الطلب التونسي، في ظل الانقلاب على الديمقراطية الذي نفذه الرئيس قيس سعيد.
أما السودان فقد يؤدي رفع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي إلى وضعه في مأزق إضافي، إذ يعتبر السودان واحدة من أكبر دول العالم من حيث نسبة الديون لحجم الاقتصاد، حيث تبلغ مديونية الخرطوم الخارجية بحجم ديون 89 مليار دولار يعادل 284% من حجم الناتج المحلي السنوي. وستكون هذه الدول الثلاث من أكثر الدول تأثراً بقرار رفع سعر الفائدة على الدولار.
ولكنْ هناك دول عربية أخرى أيضاً تعاني من مشكلات جراء تفاقم العجز المالي وتأثير الأزمة الأوكرانية، مثل الأردن والمغرب، وإن كانت الدولتان لديهما عملتان مستقرتان نسبياً، رغم أن رفع سعر الفائدة على الدولار سيشكل ضغطاً إضافياً عليهما. بينما ستكون الدول العربية النفطية غير الخليجية مثل الجزائر والعراق وليبيا في وضع أفضل نسبياً بفضل ارتفاع أسعار النفط والغاز رغم أن هذه الدول لديها ديون ليست بقليلة ومشكلات سياسية واقتصادية.