"يتلذذون بالتعذيب".. هكذا وصف رجل أوكراني الجنود الروس الذين حاربوا في سوريا، بينما كشف أن المجندين الروس الجدد هم الذين أنقذوا حياته.
فَقَدَ أوليه بوندارينكو العديد من أسنانه بسبب الاعتداء الروسي، وصار جذعه مغطى بالندوب، وربما يكون الضرر الذي لحق بعموده الفقري مستديماً، لكنَّ حس دعابته نجا بطريقة ما بلا مساس من عملية تعذيبه التي استمرت أياماً على أيدي الجنود الروس الذين خدموا في سوريا، قبل أن يجلبوا معهم بعضاً من أهوال تلك الحرب إلى الريف الواقع على أطراف كييف، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
قال بابتسامة ساخرة، وهو يحدق في أنبوب خرساني في باطن الأرض ليكون بمنزلة خزان مياه: "منزلي الصغير".
هذا الأنبوب ليس عميقاً بما يكفي للوقوف فيه حين يكون غطاء غرفة التفتيش موضوعاً، وليس واسعاً بما يكفي للجلوس فيه، لكنَّه كبير بما يكفي ليستوعب رجلاً منحنياً في وضعية متهدلة نوعاً ما. وقد ظل بوندارينكو هناك لمدة يومين في مارس/آذار الماضي، وفقد ببطء الإحساس في ذراعيه وساقيه، ثُمَّ فقد كل قدرته على تحريك أطرافه.
الجنود كانوا يتمادون في التعذيب وهم سكارى
كانت القوات الروسية قد وصلت إلى قرية موتيجين، الواقعة مباشرةً جنوب الطريق السريع المؤدي إلى الغرب من كييف، بعد خمسة أيام من اندلاع الحرب، وقد خبَّئت بطارية من قاذفات صواريخ غراد وقذائف أخرى في غابة صغيرة في ضواحي القرية، وحفرت مخابئ لعشرات من القوات، ثُمَّ أقامت معسكراً لتعذيب وقتل المدنيين في المجمع الواقع بجانب موقعها، حسب تقرير The Guardian.
وبحلول الوقت الذي جُلِبَ فيه بوندارينكو إلى هناك، معصوب العينين في شاحنة بعد تعرُّضه لعمليات ضرب وإيهام بالإعدام وأشكال أخرى من التعذيب في منزله ثُمَّ في مزرعة مهجورة، وضع الجنود روتيناً قاسياً، اتبعوه يومياً بينما كانت تعتريهم الرغبة بإراقة الدماء وهم سكارى. قال بوندارينكو: "كان الأمر ممنهجاً".
الجنود الروس الذين حاربوا في سوريا هم من يقودون عمليات التعذيب
كان يشرف على هذا الكابوس ثلاثة رجال تشكَّلت هوياتهم في صراعٍ اشتهر بالانتهاكات. كان بوندارينكو، العالق في حجرته تحت الأرض، يسمعهم يتباهون بنقلهم إلى أوكرانيا: "قالوا: إنَّ الأمر كان بمنزلة قصة خيالية بالنسبة لهم هنا بعدما كانوا في سوريا. إنَّها قرية ثرية، وكان هنالك الكثير مما يمكنهم سرقته".
كان واضحاً منذ بدء الغزو أنَّ القوات والضباط الذين يقاتلون هناك يضمون كثيرين ممَّن كانوا في سوريا. لكنَّ شهادة بوندارينكو تربط الآن بعضاً من أسوأ انتهاكات هذه الحرب برجال كانوا موجودين على الأرض، على بُعد آلاف الكيلومترات، يدافعون عن نظام بشار الأسد.
يتولى المدعون العامون في منطقة كييف التحقيق في معسكر القتل بالقرية.
وصرَّح أوليه تكالينكو، وهو مدعٍ عام بارز بمنطقة كييف، لصحيفة The Observer البريطانية قائلاً: "نحن على علم بهؤلاء القادة، ونحن قريبون من تحديدهم، وستُعلَن أسماؤهم قريباً". وقال بوندارينكو: إنَّ أجهزة الاستخبارات أبلغته بالفعل بالاسم الأول لأحد جلَّاديه الرئيسيين.
وعلى عكس ما كان الحال في سوريا، كان بإمكان الجنود في موتيجين التحدث بلغة ضحاياهم نفسها، لكنَّ ذلك لم يحدث فرقاً؛ فقد استخدموا هذه الرابطة فقط للقيام بعمليات الاستجواب والتعذيب دون الحاجة إلى مترجم.
جُرَّ بوندارينكو إلى مركز عمليات محلي لحرب موسكو القاتلة فقط لأنَّه كان يعيش هناك، وهي إحدى تقلبات سوء الحظ التي وضعت آلافاً مؤلفة من المدنيين الأوكرانيين في طريق الجنود المنتهكين وأسلحتهم.
كمين أوكراني أغضبهم
كان الروس عصبيين وغاضبين بعدما قضى كمين أوكراني على قافلة ذخائر كانت تمر عبر وسط القرية. قال سيرهي دوفيتشينكو، الذي يعمل في متجر القرية الذي تعرَّض للنهب والحرق: "جاء الروس في اليوم التالي ومعهم دبابتان، وقتلوا أشخاصاً وأطلقوا النار على السيارات والمرائب". وقد دمروا أيضاً العديد من المنازل بجوار موقع الهجوم.
وفي 23 مارس/آذار، اقتحم الروس مركز بوندارينكو بعدما باتوا مقتنعين بأنَّ المقاومة الأوكرانية تنشط بالقرب، فأطلقوا النيران على الجدران والمرايا والنوافذ. وقد ضربوه وأوهموه بالإعدام، ثُمَّ ربطوه بدراجة رباعية، وأجبروه على الركض بينما كانت الدراجة منطلقة، وأخبروه أنَّهم سيطلقون عليه النيران في حال سقوطه.
تمكَّن بوندارينكو من تجنُّب السقوط حتى وصلوا إلى مزرعة قريبة، وهناك ضربوه مجدداً وأوهموه بالإعدام، ثُمَّ، ولأنَّه لم يستطع إخبارهم بموقع إحدى وحدات الجيش التي لم يكن جزءاً منها، حملوه معصوب العينين على شاحنة، واصطحبوه إلى معسكرهم.
بدأت القوات الأوكرانية القصف بعد وصوله بقليل، وفرَّ آسروه إلى القبو، وتركوه مُقيَّداً بالخارج. قال بوندارينكو: "قالوا لنا: (دعوا قومكم يقتلونكم)"، وجرحت شظية بطنه؛ ما تسبب في نزيف وندبة.
قتلوا سيدة كانت عمدة المدينة هي وكل أسرتها
آنذاك، لم يكن لديه فكرة عن مكان وجوده، رغم أنَّ المعسكر كان بالكاد يبعد ميلين (3.2 كم) عن منزله، لكنَّه أدرك ما كان يدور حين أخبره الجنود أنَّهم قتلوا للتو عمدة مدينتهم المحبوبة للغاية، إلى جانب زوجها وابنهما. كانت العمدة معروفة لدى السكان المحليين باسم أولغا بتريفنا، وهو اسم يجمع بين المودة والاحترام، وكانت قد اختارت البقاء وتنسيق المساعدات والدفاع الإقليمي حين وصل الروس. دفعت كل أسرتها حياتها ثمناً لذلك، وتوجد الآن لوحة إعلانات كبيرة عند مدخل القرية، من جهة الطريق السريع، بها صورة لهم كُتِبَت عليها رسالة: "لكم الاحترام الأبدي من سكان موتيجين".
قال السكان المحليون: إنَّ أسرة العمدة تعرَّضت للأفعال السادية نفسها التي تعرَّض لها معظم ضحايا المعسكر؛ فتعرَّضت للضرب المبرح، ولُوِيَت وكسرت أذرعهم، وحين اقترب الموت أُطلِقَ الرصاص على أياديهم أو ركبهم لإحداث أقصى ألم، ثُمَّ أُطلِق عليهم الرصاص مجدداً في البطن قبل أن تقتلهم أخيراً رصاصة في مؤخرة الرأس.
وقال بوندارينكو، متحدثاً عن جريمة قتل لاحقة سمعها حين كان تحت الأرض: "كان بإمكاني سماعهم يقتلونه لمدة ساعة ونصف، ودعوتُ أن يقتلوه بشكل أسرع".
المجندون الروس الجدد هم الذين أنقذوه
لربما كان يوجد 60 جندياً في موقع موتيجين، لم يكونوا جميعاً من قدامى المحاربين في سوريا: كانوا أيضاً مجندين نظاميين، كانوا جدداً جداً من روسيا لدرجة أنَّهم لم يدركوا أنهم في أوكرانيا طيلة أسبوعين، اضطروا لطهي الطعام للقادة وحمل المياه، وكانوا على ما يبدو مرعوبين مما رأوه.
وفي محاولة لإنقاذ إنسانيتهم ربما، أنقذ بعض من المجندين الروس بوندارينكو بعد 48 ساعة من تعذيبه، فجرَّه المجندون إلى الخارج حين كان جلَّادوه سكارى، وحملوه إلى حجرة تُستخدَم سجناً في مؤخرة المنزل، وحذروه بأن يبقى هادئاً ويغطي وجهه؛ لأنَّ القادة سيفترضون أنَّه لحق بالآخرين في المقبرة الجماعية إذا ما لاحظوا غيابه بالأساس، لكنَّهم سيقتلونه بالتأكيد إذا ما وجدوه.
وبعد يومين، فتح نفس المجندين الباب، وقالوا: إنَّ الروس سيغادرون، وحذروا الرجلين الموجودين بالداخل بألا يخرجوا قبل مرور ساعتين بسبب الخطر الناجم عن استمرار وجود القناصة.
قال بوندارينكو: "طلبوا مني أن أصلي من أجلهم. لم يرغب أولئك الرجال في حدوث أيٍ من هذا، وكانوا هم أنفسهم في حالة صدمة، وأنا أصلي لهم حتى اليوم؛ لقد أنقذوا حياتي".
كان الرجال قد حفروا أيضاً قبراً فردياً عميقاً لدفن امرأة قتلها قناص بعدما ترجاهم والدها، الذي أُمسِكَ به مع بوندارينكو لمجرد أنَّه أتى إلى القاعدة ليطلب المساعدة الطبية، ألا يلقوها في المقبرة الجماعية.
وأحرق الروس الغابة والحقول ليحرموا القوات الأوكرانية من فرصة التخفي والتمويه، لكنَّ الربيع يعود الآن وتظهر البراعم الخضراء في الأرض المتفحمة، وتتفتح أزهار النرجس البري على بُعد أمتار قليلة من حجرة التعذيب.