تزداد الأوضاع الاقتصادية التونسية سوءاً بعد مرور أقل من عام من انقلاب الرئيس قيس سعيد على الديمقراطية، فيما يتهم مسؤولون الاتحاد العام للشغل بعرقلة الإصلاحات اللازمة للحصول على قرض من صندوق النقد.
وتُوصف المخابز في جميع أنحاء شمال إفريقيا بأنها مصدر للقوت اليومي المدعوم، ومقياس للمزاج العام للمواطنين.
لذلك عندما أراد الرئيس التونسي قيس سعيّد، الشهر الماضي، التصدي للتقارير التي تحدثت عن نقص في المواد الغذائية الأساسية، مثل الدقيق، على إثر الحرب الروسية على أوكرانيا، وما أدت إليه من تعميق الأزمة الاقتصادية للبلاد، توجَّه سعيّد إلى مخبز تونسي يبدو جيد التجهيز، وحاول اتخاذه خلفية يرسم منها مشهداً لطمأنة الناس، حسبما ورد في تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
وظنَّ سعيد نجاح محاولته، إلى أن أصرّ صاحب المخبز بلطفٍ على أن نقص الدقيق واقع حقيقي، فزالت الابتسامة عن وجه سعيد، وسارع إلى مهاجمة المحتكرين "الذين يجوِّعون الشعب" ويرفعون الأسعار، وبعد أن اتهم المعارضين السياسيين بأنهم السبب في نقص الخبز، غادر أستاذ القانون السابق ومعه أربعة أرغفة خبز، وسط انتقادات وتذمر من المارة على ارتفاع الأسعار ونقص المواد الغذائية.
الحرب الأوكرانية تُفاقم الأوضاع الاقتصادية التونسية
أدت الحرب الجارية في أوكرانيا إلى تسارع وتيرة الركود القائم في تونس واشتداد وطأته، لا سيما مع ارتفاع أسعار الطاقة والسلع وتقلص إمدادات السلع الأساسية في جميع أنحاء العالم. يوشك التضخم في تونس على بلوغ مستوى غير مسبوق، ومن المتوقع أن يتضاعف عجز الميزانية، وقد بات 40% من الشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 عاماً عاطلين عن العمل، وهو ما يهدد بموجات نزوح جماعية جديدة للمهاجرين من البحر المتوسط إلى أوروبا. ويزيد على كل ذلك أن محادثات تونس مع صندوق النقد الدولي بشأن حزمة إنقاذ مالية أقرب إلى الجمود.
يكاد يمر عام على خروج سعيد عن مسار الديمقراطية الهش في البلاد، واستئثاره بالسلطة التنفيذية، ويبدو أنه الآن عالق في ورطة، فهو رافض أو عاجز عن إعادة بناء الإجماع السياسي اللازم لإخراج اقتصاد البلاد من أزمته.
سنرمي القصر الرئاسي بالحجارة
بهاء، بائعُ ملابس يبلغ من العمر 28 عاماً، ويبيع بضاعته في حي التضامن، المعروف بكثافته السكانية العالية، ومعاناة قاطنيه من الفقر. رفض بهاء أن يذكر إلا اسمه الأول، فقد اشتدت وتيرة القمع الحكومي ضد أي معارضة للرئيس، وقال: "كل ما نريده هو أن نعيش، إذا استمرت الحال على ذلك فلن يجد الشباب سبيلاً إلا التوجه إلى القصر الرئاسي ورميه بالحجارة".
ومع ذلك، فقد تفاقمت الأحوال الاقتصادية سوءاً على مدى الأشهر الماضية، وشهدت البلاد احتجاجات لسائقي سيارات الأجرة على ارتفاع أسعار الوقود، وتأخراً في رواتب العاملين في القطاع العام، وازدياداً في طوابير الخبز مع تقلّص الإمدادات.
تفاقمت الأزمة، وظل سعيد على تصلُّبه، وأعرض عن التعاون مع حلفائه المحتملين في الاتحاد العام التونسي للشغل وأحزاب الأقلية، وعمد بدلاً من ذلك إلى المضي قدماً فيما سمّاه بالتدابير "اللامركزية"، الرامية إلى تهميش الجماعات السياسية المتشاحنة، التي يلقي عليها باللوم في تخريب تونس منذ ثورة 2011، ووضع السلطة في أيدي مجالس محلية.
الاقتصاد تقلص بنسبة 90% والمستثمرون تخلوا عن السندات التونسية
تزايد الاستياء بين المستثمرين أيضاً، فلجأوا إلى التخلي عن الاستثمار في السندات التونسية، وسط مخاوف من تداعيات ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، وفقدان السياح الروس، وهي أمور قد ينجم عنها اشتداد الضائقة المالية على نحو قد تلجأ معه السلطة السيادية إلى التخلف عن السداد.
تقلص الاقتصاد التونسي الآن إلى أقل من 90% من حجمه قبل الثورة التونسية، وتضاعفت نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي تقريباً لتصل إلى نحو 88%، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تبلغ 99.7% بحلول عام 2025. وأدى الارتفاع الحاد في أسعار السلع إلى التهام لا يتوقف لاحتياطي العملات الأجنبية، والذي بات يكفي بالكاد الآن للوفاء بواردات البلاد في أربعة أشهر.
المحادثات مع صندوق النقد تتعثر
يسود البلاد مزاج عام شديد التشاؤم، ويقول يوسف شريف من مركز كولومبيا لأبحاث الشرق الأوسط: "لا يوجد ما يضمن أن يقبل التونسيون التدابير التي تترتب على برنامج اقتراض جديد من صندوق النقد الدولي. المحادثات علامة على رغبة سعيد في برنامج جديد، لكن إذا رُفضت التدابير فإنه سيلقي باللوم على حكومته".
من جهة أخرى، فإن ارتفاع تكاليف الواردات قد يُضاعِف عجز الميزانية إلى 6.6 مليار دولار تقريباً هذا العام، ومن ثم يتجاوز العجز مبلغ 4 مليارات دولار، الذي تقول السلطات إنها ستطلبها من صندوق النقد الدولي.
سعيد لا يثق بالآخرين والاتحاد العام للشغل يعرقل إصلاح الشركات الحكومية
قال دبلوماسي غربي مطلع على المناقشات بين المسؤولين التونسيين ودول مجموعة السبع، إن سعيد يبدو أنه يظن أنه قادر على إصلاح البلاد بمفرده، ويغلب عليه نقص الثقة بالآخرين. وأقر الدبلوماسي بأن المسؤولين "يجتهدون بلا كلل" من أجل برنامج جديد لصندوق النقد الدولي، إلا أن هناك تردداً في معالجة بعض المشكلات، مثل الشركات المثقلة بالديون والشركات المملوكة للدولة، والتي تعد من معاقل الاتحاد العام التونسي للشغل.
أشار هشام العجبوني، أحد النواب الذين يسعون إلى استعادة السلطة البرلمانية، إلى أن تعامل "الاتحاد العام التونسي للشغل له دور أساسي فيما ستؤول إليه الأمور لسعيّد. فإصلاح الشركات الحكومية ضروري لكنه شاق".
والاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يُعتبر التنظيم النقابي الأقوى والأكثر تأثيراً ساند إجراءات سعيد الاستثنائية، ودعم حل البرلمان، لكنه ينتقد توجهات قيس سعيّد بالانفراد بالحكم وإلغاء المؤسسات الدستورية في البلاد.
وكشف شخص مطلع على المحادثات أن الأضرار الاقتصادية التي أعقبت الحرب الأوكرانية تسببت في تأخير المحادثات الفنية مع صندوق النقد الدولي قرابة الشهر، ويسعى المسؤولون التونسيون لوضع اللمسات الأخيرة على الإجراءات التي سيتعهدون باتخاذها.
ومع ذلك قال المسؤول إن السلطات كانت قد حددت شهر أبريل/نيسان موعداً للتوصل إلى اتفاق، إلا أنها لم تقدم حتى الآن ضمانات على أنها قادرة على الاستناد إلى إجماع محلي واسع النطاق للإصلاحات المطلوبة.
ويرى المسؤول أنه لا توجد مخاطر ترجِّح تخلُّف تونس عن السداد، لأن معظم الديون المرجوة متوسطةٌ إلى طويلة الأجل، ومع ذلك فإن النجاح ليس مضموناً. وإذا استمرت المفاوضات حتى موعد الانتخابات البرلمانية التي يعتزم سعيّد إجراءها في ديسمبر/كانون الأول -إن تمكن من تمرير دستور جديد- فقد تواجه المفاوضات مزيداً من التأخير.