قوبلت نتيجة الانتخابات الرئاسية الفرنسية بارتياح واسع في أوروبا والولايات المتحدة وفي العالم الإسلامي بعد هزيمة مارين لوبان المرشحة اليمينية المتطرفة المعروفة بعدائها للإسلام والاتحاد الأوروبي وصداقتها للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولكن إذا نظرنا إلى تفاصيل نتيجة الانتخابات الفرنسية فإنه يجب القلق بشكل كبير على مستقبل فرنسا.
وفاز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (44 عاماً) بولاية ثانية بحصوله على 58.8% من الأصوات مقابل 41.2% لمنافسته زعيمة "التجمع الوطني" مارين لوبان (53 عاماً)، وفق تقديرات أولية.
وأصبح ماكرون أول رئيس يُعاد انتخابه منذ جاك شيراك في 2002.
واشتهرت لوبان بمواقفها العدائية ضد المهاجرين وخاصة المسلمين، حيث جدّدت دعوتها إلى حظر الحجاب في الأماكن العامة بما في ذلك فرض غرامات على المحجبات في الأماكن العامة.
ولوبان معروفة بعدائها كذلك للاتحاد الأوروبي، ورغم تخليها عن الدعوة لخروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، فإنها لم تتخلّ كثيراً عن مواقفها العدائية له، حيث دعت إلى تخفيف سلطة الاتحاد، وانتقدت ألمانيا شريكة فرنسا في قيادة الاتحاد الأوروبي بشدة.
وكان من أبرز القلقين من انتخابات فرنسا، إدارة الرئيس الأمريكي الديمقراطي جو بايدن، إذ جاء صعود نجم لوبان واحتمال دخولها للإليزيه في وقت حساس بالنسبة للغرب، حيث يحاول بايدن حشد حلفائه الأوروبيين ضد الهجوم الروسي على أوكرانيا.
وتوصف لوبان بأنها صديقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولا تخفي إعجابها، به، ورغم أنها تبرأت من غزوه لأوكرانيا، ولكن بدت رافضة للموقف الغربي القوي ضد الغزو، وتعارض فرض عقوبات على النفط والغاز الروسيين، كما كانت تعتبر من أولوياتها السياسية إعادة روسيا إلى أوروبا، والانسحاب من القيادة العسكرية لحلف الناتو.
لماذا تبدو هزيمة مارين لوبان خسارة بطعم النصر؟
ولكن هزيمة مارين لوبان لا تبدو خبراً سعيداً للقلقين من تطرفها السياسي، إذا تم النظر بدقة إلى نتائج الانتخابات.
فقد سجلت لوبان أعلى نسبة تصويت يحققها اليمين المتطرف في تاريخ فرنسا، إذ حصلت على نحو 42% من أصوات الفرنسيين في الجولة الثانية لانتخابات 2022، مقابل 34% في الجولة الثانية في الانتخابات الماضية عام 2017، والتي كانت أمام ماكرون أيضاً أي بزيادة تقارب 8% من الأصوات.
وفي انتخابات 2017، حصل ماكرون على 66% من الأصوات في الجولة الثانية رغم أنه كان مرشحاً شبه مجهول، ولكن في الانتخابات الأخيرة حصل على 58.8% فقط من الأصوات.
ولفهم الرسم البياني لصعود اليمين المتطرف رغم هزيمة مارين لوبان يجب الإشارة إلى أن جان ماري لوبان مؤسس الجبهة اليمينية المتطرفة ووالد لوبان كان قد حصل على 17% في عام 2002 أمام الرئيس السابق جاك شيراك، وآنذاك تساءل الفرنسيون بجزع ماذا أصاب المجتمع الفرنسي ليمنح اليمين المتطرف كل هذه الأصوات!
نسبة المشاركة تتراجع
وليس هذا فقط، ولكن هناك مؤشرات قوية على عدم حماس الفرنسيين للانتخابات أو لماكرون نفسه، حيث قوبل فوزه بفتور كبير، وإن كان قد غلب البلاد الارتياح بسبب هزيمة مارين لوبان أكثر من السعادة بفوز ماكرون.
وبحسب ما أعلنته وزارة الداخلية الفرنسية فقد بلغت نسبة المشاركة في هذه الجولة من الانتخابات 63.23% أي أقل بنقطتين مقارنة بانتخابات عام 2017، بينما بلغت نسبة الامتناع عن التصويت 28%.
كما تظهر الانتخابات في جولتيها مدى الانقسام والاستقطاب في المجتمع الفرنسي، حيث منح أكثر من نصف الناخبين في الجولة الأولى أصواتهم لمرشحين ينتمون لأقصى اليمين ممثلاً في لوبان وإريك زمور (الأكثر تطرفاً) أو لليسار الراديكالي.
وقد أيّد أكثر من واحد من كل خمسة ناخبين المرشح اليساري جان لوك ميلينشون، الذي جاء في المركز الثالث، بفارق ضئيل عن مارين لوبان في الجولة الأولى من هذه الانتخابات.
وكان لافتاً إلى أن 44 % من مؤيدي مرشح اليسار الراديكالي جاك ميلانشون قد امتنعوا عن التصويت، رغم دعوة المرشح اليساري بشكل واضح أنصاره لمنح أصواتهم لماكرون حتى لا تفوز لوبان.
يمكن القول إن ماكرون سجل فوزاً بطعم الهزيمة، بينما حققت لوبان هزيمة بطعم النصر بعدما أصبحت في قلب السياسة الفرنسية والمنافسة الدائمة في الجولة النهائية للانتخابات.
وقد عبرت لوبان عن ذلك قائلة إن المعركة قد بدأت للتو بهذه النتيجة.
وقالت إن فرنسا تشهد إعادة تشكيل سياسية جديدة، ومن الواضح أنها تتطلع إلى تعزيز وجود اليمين الفرنسي في البرلمان والبلديات؛ مما قد يعزز فرص فوزها في الانتخابات الرئاسية القادمة، حيث قالت إنها ستخوض "معركة كبيرة من أجل الانتخابات التشريعية" المقرر إجراؤها في يونيو/حزيران المقبل.
وحاولت لوبان تحسين صورتها عبر التخلي عن الخطاب الأكثر تطرفاً الذي تتبناه عادةً، ولكن واقعياً هو اختلاف في النغمة وليس المحتوى.
كما ركَّزت لوبان في هذه الانتخابات على القضايا الأكثر سخونة ونقاط ضعف ماكرون السياسية، حيث كانت القضية الأولى في هذه الانتخابات هي ارتفاع تكاليف المعيشة بداية من فواتير الطاقة وتسوق الطعام إلى سعر تزويد السيارة بالوقود.
ومع استمرار تراجع أحزاب اليمين واليسار التقليدية في فرنسا، وصعود التضخم وتوالي الأزمات، يبدو أن فرنسا بانت تعاني من عجز في الوسطية السياسية.
بل إنه من الواضح أن السياسيين الوسطيين مثل ماكرون ينجرفون لمواقف اليمين الشعوبية، حيث تحول ماكرون من المرشح الذي ينتقد اضطهاد المسلمين في انتخابات عام 2017، إلى الرئيس الذي فرض قيوداً على حريات المسلمين الدينية ومنظماتهم التي سبقت أن انتخبته، وبرر الإساءة لرسولهم ولم يحاول حتى أن ينأى بنفسه عن هذه الإساءة، (مع إمكانية تمسكه بحرية التعبير).
ومع تعدد صداماته الداخلية والخارجية ومواقفه السلبية من حريات المسلمين، ساعد ماكرون على جعل أجندة لوبان اليمينية في قلب السياسية الفرنسية، وجعل كثيراً من المسلمين يتساءلون عن الفارق بينهما.
لوبان قد تكون في موقف أقوى في الانتخابات القادمة
وأعربت لوبان عن امتنانها للأشخاص الذين صوتوا لها في المقاطعات، خاصة في الريف وفي أقاليم ما وراء البحار الفرنسية.
وبموجب الدستور الفرنسي، لا يمكن لماكرون ترشيح نفسه في الانتخابات القادمة لأنه فاز بولايتين.
ومع استمرار ضعف الأحزاب التقليدية الفرنسية حيث تعرضت الأحزاب اليمينية المحافظة لهزيمة كبيرة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وتعرض الحزب الاشتراكي الذي يمثل اليسار المعتدل لهزيمة كبيرة في انتخابات 2017، فإن لوبان قد لا يكون لها منافس حقيقي في الانتخابات، القادمة، وقد نراها تسكن قصر الإليزيه بعد انتخابات 2027.