المعركة القادمة في أوكرانيا قد تكون حول مدينة أوديسا، ويبدو أن معركة أدويسا المحتملة ستكون ضارية بشكل غير مسبوق، وقد تشهد تدخلاً غربياً لدعم كييف ينذر بتصعيد الحرب ويزيد احتمالات المواجهة بين موسكو والناتو.
قال الجنرال رستم مينيكايف، القائم بأعمال قائد المنطقة العسكرية المركزية الروسية مؤخراً، إن أهداف الجيش الروسي هي فرض سيطرة كاملة على دونباس وجنوب أوكرانيا، وإنشاء ممر بري مع شبه جزيرة القرم.
ويعني ذلك أن الروس قد يحاولون السيطرة على مدينة أوديسا الواقعة على ساحل البحر الأسود والتي تعد ثالث أكبر مدن البلاد وأهم موانئها.
وقال ضابط روسي كبير إن هذا سيوفر ممراً برياً لشبه جزيرة القرم، بالإضافة إلى التأثير على الأصول الضرورية للاقتصاد الأوكراني.
أهمية أوديسا لبوتين
وتكتسب أوديسا أهمية كبيرة لكل الأطراف، فهي مدينة ذات غالبية ناطقة بالروسية، وأسستها الإمبراطورة الروسية كاثرين على أرض نزعت من السلطنة العثمانية لتصبح ميناء روسيا الرئيسي على البحر الأسود، الذي كانت موسكو محرومة منه. وأصبحت أوديسا في القرن التاسع عشر ثالث أهم مدينة في الإمبراطورية الروسية، بعد موسكو وسان بطرسبرغ (العاصمة في ذلك الوقت)، وكان أغلب سكانها من الروس مع جاليات يونانية ويهودية وألمانية كبيرة.
ومنذ عام 2014، بدأ بوتين يتبنى مفهوم روسيا الجديدة (نوفوروسيا) وهي مناطق في شرق وجنوب أوكرانيا يراها القوميون الروس في روسيا وأوكرانيا مناطق روسية منحها الاتحاد السوفييتي لكييف دون وجه حق، ومن هذه المناطق أوديسا التي تحظى بمكانة خاصة في التاريخ الروسي.
تجدر الإشارة إلى أن الطموح الروسي في 2014، يبدو أنه كان يتخطى المناطق الانفصالية الحالية التي هي جزء من مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك الأوكرانيتين، ليشمل معظم المناطق ذات الأعداد الكبيرة من السكان الناطقين بالروسية في أوكرانيا، بما فيها خاركيف (ثاني كبرى مدن البلاد سكاناً) وأوديسا (ثالثها).
لكن الحركة الانفصالية الموالية لروسيا لم تحقق نتيجة قوية كما توقع صقور موسكو، حيث كان بعض السكان قلقين بالفعل بشأن الحكومة الجديدة في كييف الموالية للغرب التي عزلت الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكفيتش، لكن دعم الأغلبية للانضمام إلى روسيا ببساطة لم يكن موجوداً.
هل الروس أغلبية في أوديسا؟
وفقاً لتعداد عام 2001، يشكل الأوكرانيون أغلبية (62%) من سكان أوديسا، إلى جانب أقلية روسية عرقية (29%).
وجدت دراسة أجراها المعهد الجمهوري الدولي عام 2015 أن 68% من أوديسا كانوا من أصل أوكراني، و25% من أصل روسي.
وعلى الرغم من الأغلبية الأوكرانية الإثنية في أوديسا، فإن الجزء الأكبر من سكان أوديسا يتحدثون اللغة الروسية في المنزل. ولكن اللغة الأوكرانية تكتسب شعبية متزايدة، ففي عام 2021، زادت حصة اللغة الأوكرانية كلغة رئيسية يتم التحدث بها في المنزل تقريباً 5 مرات من 6% في عام 2015 إلى 29% في عام 2021.
وشهدت أوديسا في عام 2014 احتجاجات من قِبَل الموالين لروسيا، بسبب إقالة الرئيس فيكتور يانكوفيتش الحليف لموسكو، حيث كانت المدينة من ضمن المناطق المؤيدة له، وحاول بعض مؤيدي يانكوفيتش تقليد عملية الاستيلاء على السلطة التي نفذتها المعارضة الموالية للغرب في كييف.
وبلغت الاشتباكات بين الانفصاليين وأنصار كييف ذروتها في أوديسا في مواجهة في 2 مايو/أيار 2014، قتل خلالها أكثر من 40 شخصاً، معظمهم من الانفصاليين. ومات كثيرون محترقين في حريق اجتاح مبنى نقابة العمال الذين حاولوا الاستيلاء عليه، واكتسبت هذه الحادثة رمزية كبيرة لدى روسيا والموالين لها، واعتبرت أنها نموذج للربيع الروسي في أوكرانيا مقابل ما يعرف بالميدان الأوروبي في كييف.
ولكن أظهر فشل الانفصاليين في أوديسا عدم وجود دعم محلي قوي للانفصال، الأمر الذي جعل الكرملين في عام 2014 يميل للتهدئة والاكتفاء بما سيطر عليه الانفصاليون في إقليم دونباس، وعدم إكمال ما يبدو أنه كان مخططاً يشمل السيطرة على أوديسا وخاركيف في ذلك الوقت.
وهي مدينة شديدة الأهمية لأوكرانيا والناتو
ما زالت مدينة أوديسا ذات غالبية ناطقة بالروسية، ولكن لها أهمية كبيرة أيضاً بالنسبة لأوكرانيا، فهي توصف أحياناً بعاصمة البلاد الاقتصادية، وهي الميناء الرئيسي في البلاد الذي لا يمكن استبداله، والأهم أن امتداد السيطرة الروسية من دونباس وإقليم القرم، إلى أوديسا معناه سيطرة روسيا الكاملة على ساحل البحر الأسود الأوكراني وأن تصبح أوكرانيا دولة حبيسة، علماً أنه رغم صلات كييف الاقتصادية الوثيقة مع أوروبا، فإن جزءاً كبيراً من صادراتها يخرج عن طريق البحر الأسود وتحديداً من ميناء أوديسا.
وبالنسبة للغرب فإن لأوديسا أهمية كبيرة أيضاً، فهي قريبة من رومانيا عضو الناتو، وكذلك مولدوفا وتعني السيطرة الروسية عليها اقتراب موسكو أكثر من حدود الناتو، وتعزيزاً لحضورها في البحر الأسود، والأهم أن ذلك سيعني أن روسيا ستصبح متصلة برياً بإقليم ترانسنيستريا الانفصالي ذي الأغلبية الروسية والأوكرانية في جمهورية مولدوفا، مما يعزز تهديد روسيا لهذا البلد الأوروبي الصغير وقدرتها على منعها من الانضمام للاتحاد الأوروبي والناتو.
هل إغراق الطراد الروسي رسالة أمريكية بشأن أوديسا؟
ولذا تكتسب أهمية معركة أوديسا المرتقبة أهمية كبيرة للأطراف الثلاثة روسيا وأوكرانيا والغرب، وقد يؤدي الاهتمام بالمدينة إلى دخول الحرب الأوكرانية في مرحلة أكثر اشتعالاً، وأكثر خطورة.
وتجدر الإشارة إلى أن تعرض طراد الصواريخ الروسي الشهير موسكوفا للغرق بواسطة صاروخين أطلقا من أوديسا يعتقد أنه بمثابة رسالة أمريكية لموسكو بأن أوديسا خط أحمر، خاصة أن هناك تقارير تفيد بأن طائرة أمريكية متطورة يرجح أنها ساعدت الأوكرانيين في استهداف الطراد الروسي، وقد يكون ذلك عبر تحديد موقعه أو التشويش عليه.
الطريق لأوديسا يبدأ من ماريوبول وميكولايف
الطريق للسيطرة على الروسية على مدينة أوديسا يبدأ من مدينتين هما ميكولايف، وماريوبول.
وبنت القوات الروسية ممراً برياً من شبه جزيرة القرم في عمق دونباس وتخطط للاستيلاء على أوديسا انطلاقاً من خيرسون التي تم الاستيلاء عليها بالفعل، ولن تتسارع العملية إلا عند إتمام السيطرة على مدينة ماريوبول التي تمثل حلقة الوصل بين القرم والدونباس وبالتالي لفتح الطريق من الدونباس للقرم ثم أوديسا.
في ماريوبول المدينة ذات الغالبية الناطقة بالروسية أيضاً، أعلنت روسيا أنها قررت عدم مهاجمة مصنع آزوفستال للصلب الذي يتحصن به آخر المقاتلين الأوكرانيين، ويعتقد أن هذا القرار اتخذ على الأرجح لتجنب سقوط المزيد من الضحايا الروس، وإعطاء الفرصة للجيش الروسي للاستفادة من القوات المكلفة بمعركة ماريوبول والتي تقدر بـ12 ألف جندي.
معركة أوديسا لن تكون سهلة
يبدو أن معركة أوديسا المحتملة لن تكون سهلة، في ظل الأداء الجيد للجيش الأوكراني حتى الآن، وتدفق الأسلحة الغربية عليه، مما جعل الصراع فعلياً حرباً بالوكالة بين الغرب وروسيا.
في الواقع، قام الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بتسويق أوكرانيا باعتبارها الجبهة الأمامية لأوروبا، التي تدافع عن القارة ضد العدوان الروسي الأوسع.
في المقابل، هددت روسيا مراراً باستهداف المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا، وهو أمر من شأنه تزايد احتمال وقوع نزاع بين موسكو والناتو.
يحتاج بوتين إلى الفوز بسرعة في معركة أوديسا المحتملة لتجنب إطالة الحرب وكي لا يظهر تأثير المساعدات العسكرية الغربية وكذلك تداعيات العقوبات على الاقتصاد الروسي.
وتوسعت المساعدات الغربية العسكرية لأوكرانيا لتشمل الأسلحة الثقيلة التي يراهن الغرب على أنها يمكن أن تساعد أوكرانيا الدفاع عن أوديسا وفي استعادة أراضيها إذا تمكنت من وقف هجوم دونباس الحالي.
وتقاتل روسيا الآن جيشاً أوكرانياً مزوداً بمعدات عسكرية غربية، وخضع لتدريبات غربية منذ عام 2014.
قدرت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) أنه للمرة الأولى منذ بدء الصراع، يمتلك الجيش الأوكراني دبابات على الأرض أكثر من القوات الروسية.
هذا الوضع قد يكون مقلقاً لبوتين، حيث تتمتع روسيا بالتفوق حيث العدد والمعدات، لكن أوكرانيا لديها معنويات أعلى وهناك وعود غربية بمعدات ثقيلة ستأتي في القريب العاجل.
ويرى موقع 1945 الأمريكي العسكري أن روسيا لا تمتلك أيضاً القدرة الاقتصادية، وتحديداً القاعدة الصناعية الدفاعية، للتنافس ضد القدرة الصناعية الدفاعية للغرب بأكملها، فالناتج المحلي الإجمالي الروسي أقل من تريليوني دولار، بينما الناتج المحلي الإجمالي لأمريكا والاتحاد الأوروبي يتجاوز 40 تريليوناً. وكلاهما ينتج معدات جيدة مثل المعدات الروسية أو أفضل منها.
والأسوأ من ذلك أن الاقتصاد الروسي سيعاني من انكماش حاد بسبب العقوبات المفروضة عليه بسبب الحرب.
تركزت عملية التحديث الدفاعي في روسيا خلال العقد الماضي على عزل صناعاتها الدفاعية عن الاقتصاد العالمي. وهذا يعني أن القواعد الصناعية الدفاعية الروسية مكتفية ذاتياً تقريباً وهي قادرة على إنتاج الأسلحة اللازمة للحرب لفترة من الوقت.
ولكن إذا وصلت الحرب إلى طريق مسدود – وإذا لم يولد هجوم دونباس الحالي اختراقاً يفوز بالحرب أو إذا نشبت معركة طويلة الأمد حول أوديسا- فإن مصنعي الدفاع الروس سوف يتأخرون في سباق تسلح متوسط المدى مع المنتجين الغربيين.
ومن غير المرجح أن يتفوقوا على الإنتاج الدفاعي الغربي لفترة طويلة بالنظر إلى التباين الصارخ في الحجم، بالإضافة إلى ألم العقوبات الغربية على موسكو، حسب موقع 1945.
يجب على روسيا حسم معركة الدونباس أولاً
في تقديرها اليومي للحرب، قدرت وزارة الدفاع البريطانية أن الوضع في دونباس لا يزال موضع جدل. تتقدم القوات الروسية نحو عدة محاور حضرية، لكنها تعاني من الإصابات والمسائل اللوجستية.
في شرق دونباس، يستمر القصف العنيف والقتال حيث تسعى روسيا للتقدم أكثر نحو المدن كجزء من خططهم للمنطقة.
وعلى الرغم من تركيز الروس المتجدد على الدونباس، إلا أنهم ما زالوا يعانون من الخسائر التي لحقت بهم في وقت سابق من الصراع. من أجل محاولة إعادة تشكيل قواتهم المستنزفة، لجأوا إلى نقل المعدات غير الصالحة للعمل إلى روسيا لإصلاحها، حسب المخابرات العسكرية البريطانية.
وهذا الوضع في إقليم دونباس يعرقل في الأغلب أي هجوم روسي على أوديسا.
موقف سكان أوديسا
ما زالت أوديسا بعيدة عن القتال إلى حد كبير باستثناء عملية إنزال محدودة جرت في بداية الحرب، يبدو أنها لم تنجح.
لكن الحرب تخلق بالفعل انقسامات داخل العائلات وبين الأصدقاء في المدينة الناطقة بالروسية.
إذ لا ينوي الجميع في أوديسا، مقاومة تقدم القوات الروسية، حسب تقرير لموقع France24.
وقال ألكسندر، أحد سكان المدينة: "طريقة تفكيري تجاه روسيا لم تتغير يوماً، ولا أراها كمعتدية، وأعتقد أنه في غضون شهر، ربما أكثر من ذلك بقليل، ستتوقف العمليات العسكرية. وسيحل المزيد من الأشخاص العقلاء محل قادتنا الحاليين".
وأردف قائلاً: "بالنسبة لي، فإن المدافعين الأوكرانيين عن أوديسا هم الخطر، أكثر بكثير مما يسمى بالمعتدين الروس".
ويشير تاريخ روسيا العسكري إلى أنها إذا لم تستطِع غزو المدن فسوف تحولها إلى أنقاض، وبينما يواصل الغرب تزويد أوكرانيا بالسلاح فإن هذا يعزز احتمالات هذا السيناريو القاتم للمدينة التي توصف بلؤلؤة البحر الأسود.